ومضات من الفلسفة الاخلاقية

حاتم حميد محسن

2018-04-12 06:24

الافعال الانسانية هي الافعال التي يكون فيها الانسان سيدا، لديه السلطة في عملها او عدمه. صحيح نحن احرار فيزيقيا في أداء افعال معينة او عدم أدائها، نستطيع اختيار فعل معين بدلا من آخر، لكن هل نحن اخلاقيا احرار بشأن جميع تلك الافعال؟

هل من الصحيح لي في جميع المناسبات ان أعمل ما اريد مهما كانت الميول التي تدفعني لذلك العمل؟

من الواضح ان العقل يجيب بكلا: حتى الطفل يتضح له بأن بعض الافعال هي جيدة بذاتها اخلاقيا، واخرى سيئة بذاتها اخلاقيا. الافعال الجيدة، هي التي يأمر بها عقلنا ويوافق عليها. هذه نسميها افعال صحيحة right.وعكس ذلك بالنسبة للأفعال السيئة، عقلنا لا يوافق عليها ويرفضها، وهذه نسميها افعالا خاطئة wrong. ان افكار الصح والخطأ هي مثل افكار الحقيقي والزائف، الجوهري والعرضي، السبب والنتيجة، هي "افكار اساسية" مشتركة لجميع الناس، لذا هي افكار جديرة بالثقة، اي ان الفرق الموجود في الذهن بين الصحيح والخطأ يتطابق مع الفرق الموجود موضوعيا في الافعال الانسانية.(انظر Logic,Nos.119,120).

ولكن مع ان كل الناس يميزون بين الصحيح والخطأ، ذلك لا يعني ان كل المنظّرين يعترفون بالفرق بين الاثنين لأن هذا يقف عقبة امام تكهناتهم الخاطئة. مثل هؤلاء الكتّاب هكسلي وسبنسر والشكاك والوضعيون كلهم يعترفون بعدم وجود حرية حقيقية لدى الانسان، ولذلك هم لا يستطيعون دائما التعامل مع افعال الانسان بهذا الفهم: هم يرون ان لا وجود لأفعال انسانية، لأنه لا توجد أفعال انسانية يمتلك فيها الانسان السلطة بفعلها او عدم فعلها. ونفس الشيء ينطبق على جميع الماديين الذين يؤكدون بعدم وجود اي شيء عدا المادة التي تعمل بقوانين ضرورية.

وكذلك الوجوديون يعترفون بعدم وجود فرق حقيقي بين الانسان والله، ولا يمكن الحديث عن افعال انسانية كهذه ولهذا لا نستطيع إعطاء تفسير صحيح للفرق بين الصحيح اخلاقيا والخاطئ اخلاقيا. مع ذلك، كل هؤلاء المنظّرين يستخدمون مصطلحات "صحيح" و"خاطئ" وان الفرق المقبول على نطاق واسع قد جرى تجاهله. هم اُجبروا على اساءة تفسير معاني هذه المصطلحات بسبب ما تتطلبه نظرياتهم.

سنحاول تفنيد تفسيراتهم الزائفة وتوضيح الفرق الواضح بين الصحيح اخلاقيا والخاطئ اخلاقيا. ان السبب الذي يدفع عقلنا للموافقة على افعال معينة ويسميها جيدة اخلاقيا ويعلن انها تستحق التقدير، كأفعال حرة، هو لأن الذهن يتصور انها جرى توجيهها بشكل صحيح لغاياتها الحقيقية، وانها ملائمة وذات قيمة للفرد العقلاني، ومطابقة لمقتضيات الاشياء، ولذلك يجب فعلها من قبل الانسان، الانسان يجب ان يعمل ما هو مؤكد ومطابق لطبيعته العقلانية وموصل الى كماله.

ومن جهة اخرى، عقلنا لا يوافق على افعال اخرى ويسميها سيئة اخلاقيا او شريرة ويعلن انها بمقدار ما هي افعال حرة فهي تستحق اللوم لأنه يرى انها وُجّهت بعيدا عن غاياتها الحقيقية، هي غير مقبولة وغير ملائمة للفرد العقلاني، لا تتفق مع مقتضيات الاشياء، ولذلك لا يقوم بها الانسان. الانسان لا يجب ان يعمل ما ليس له قيمة للكائن العقلاني، لأنه عمل يحط من قيمته بدلا من السمو بها. ان الفكرة الراديكالية المتضمنة في مصطلح "جيد" هي "الملائمة للرغبة".

نحن نقول عن شيء ما جيد للكائن الذي يرغب بذلك الشيء والذي هو هدف لرغباته. والجيد هو هدف لرغبات الكائن لأنه يميل بطريقة ما نحو كمال الكائن لأن الخالق جعل كل الاشياء تميل لما يعزز كمالها ولهذا، نحن نطلق كلمة الخير المادي على كل ما يساهم في كمال الكائن فيزيقيا كما، على سبيل المثال، الطعام بالنسبة لطبيعة الحيوان. ونسمي كل ما ينفع العقل، كالحقيقة والعلوم، بالخير الفكري. الكائن الحر يكمل ذاته بالاقتراب اكثر الى غايته النهائية، وخيره الأسمى الذي هو الله. وبالنتيجة، فان الافعال الخيرة اخلاقيا للإنسان هي التي تدنيه اقرب الى الله، الذي هو الغاية النهائية لوجوده، اما الافعال السيئة اخلاقيا هي تلك التي تقوده بعيدا عن الله.

بما ان هناك بعض الافعال الانسانية مثل عدم احترام الله هي سيئة بذاتها في كل الاوقات، واخرى مثل الاحترام العميق لله، التي بذاتها دائما خيرة، فان نوعية الخيرية او السوء يجب ان تكون شيئا داخليا للافعال ويجب ان تعتمد على مدى اتفاقها او عدم اتفاقها مع النظام الطبيعي الدائم للاشياء. من الواضح ان هذا النظام من الافعال الانسانية يتطابق مع العلاقات التي من الضروري ان يمتلكها الانسان نحو الله كمخلوق، كوجود اجتماعي نحو زملائه من الناس، ونحو نفسه ككائن ورث مختلف القدرات الحسية والروحية. هذه العلاقات بدورها تأسست على جوهر الاشياء، وعليه فان الاختلافات بين الصنفين من الافعال هي اختلافات ضرورية. ومن هنا يتم تصميم جوهر الاشياء من جانب الخالق لتتجه نحو كمال معروف للعقل الالهي مثلما هو موجود في الجوهر الالهي، ولذلك فان اخلاقية او عدم اخلاقية الفعل الانساني تتقرر بالنهاية بالعقل وليس بالرغبة الحرة لله. لأن الله لا يمكن ان يناقض نفسه، هو لا يمكن ان يجعل الفعل الاخلاقي بذاته غير اخلاقي، ولا ان يزيل لا اخلاقية الفعل الذي هو غير اخلاقي بذاته.

بعض الافعال الانسانية هي غير منتظمة لدرجة تدفع الانسان كليا بعيدا عن متابعة هدفه الحقيقي النهائي، لأنه بدلا من ان يكون الله كهدف نهائي للرغبة، فان هذه الافعال تستبدل وبشكل تام صراحة او تلميحا شيء غير منسجم مع حب الله. هناك افعال انسانية اخرى رغم انها تكبح ميل الروح نحو غايتها الحقيقية النهائية، لكنها لا تصبح عقبة لتحقيق تلك الغاية. في هذا الاختلاف يكمن الفرق بين العمل الاخلاقي والعمل القليل الإثم.

حالما يتم استيعاب المعنى الحقيقي للاخلاق، يصبح من السهل اكتشاف اخطاء نظريات معينة زائفة نُسجت لتوضيح القوة الكامنة لدى جميع الناس في التمييز بين الخير والشر.

1- بعض الفلاسفة يعزون هذه القوة الى الفطرة instinct. لكن الفطرة بالمعنى الدقيق للكلمة هي حافز أعمى للطبيعة تدفع الحيوان للتصرف وفق اسلوب مقرر، وهكذا هي تؤدي افعالا معقدة بدون فهم اهدافها الاخرى لخير الفرد والكائنات الاخرى. على عكس ذلك، الخير الاخلاقي والشر الاخلاقي يتم فهمهما فكريا، بمعنى، عبر الملكة الادراكية التي تستطيع التفكير والاستنتاج، ولهذا، عند التمييز بين الخير والشر نحن لا نتصرف عمي وانما بذكاء.

2- البعض الآخر يتحدث عن الحس الاخلاقي moral sense. اذا كان المقصود بالحس الاخلاقي مقدرة عضوية او فعل الملكة العضوية، فان استعمال المصطلح هو خاطئ وملتبس لأن العضو المادي المطلوب لكل فعل عضوي لايمكنه استيعاب العلاقات اللامادية المجردة المتضمنة في فكرة الخير الاخلاقي او الشر. اذا كانت الكلمة تُستخدم لتشير الى كمال معين للقوى الفكرية، او الى سرعة واستجابة الذهن في الحكم واكتشاف اخلاقية او لا اخلاقية الفعل الانساني، فانها حينئذ تُستخدم بشكل صحيح.

3- آخرون يتفقون مع هربرت سبنسر على ان هذه القوة من التمييز بين الخير والشر تعتمد على قوة التمييز بين ما هو مفيد وضار في حياة الانسان الحاضرة. كل ما يسعى نحو الخير الدنيوي للناس عموما فهو جيد اخلاقيا، حسب قولهم، وكل ما يسبب الموت هو شر اخلاقي. ومن هنا يكون من الصحيح بان الخير الاخلاقي هو حتما مفيد للبشرية حتى على الارض، والشر الاخلاقي هو مؤذ حتما. لكن الخير الاخلاقي هو ليس جيد لأنه مفيد وانما بالعكس هو مفيد لأنه جيد، ذلك، لأنه يميل لجعل الانسان اكثر كمالا ومن ثم اكثر ملائمة لتحقيق غايته النهائية. كذلك، انه جزء من انسجام الكون الذي اسسه الله في خلقه حين جعل الخير الاخلاقي للفرد مفيد للعديد من الناس اما بشكل فوري او في نهاية المطاف. وبهذا المعنى، يكون الصدق والاستقامة هما حقا افضل سياسة ممكنة.

4- في نظريات هوبز وبالي paley ومانديل Mandeville، والنفعيين الانجليز القدماء، يعتبرون المنافع الشخصية personal advantage على الارض هو الحافز الوحيد للفعل الانساني: اي ان الجيد اخلاقيا هو الذي يجلب لي السعادة وهو "المفيد لي شخصيا". هذا الاتجاه النفعي في الاخلاق تعرّض للنقد لأننا فيه سنحتاج لطريقة منهجية نعرف فيها سلفا الخير والضرر.ذلك يتطلب عمل حسابات دقيقة للمنفعة يصعب تحقيقها لأن انطباعات المرء متغيرة حسب الزمان والمقدار. لا نستطيع التنبؤ بتأثيرات المستقبل البعيد على الفعل، وحتى لو استطعنا عمل تلك الحسابات النفعية ذلك سيقود الى عالم تصبح فيه الاخلاق منفصلة عن عواطف الانسان.

5- اخيرا، البعض من المنظّرين والتطبيقيين يؤمنون بان قاعدة الصواب والخطأ تكمن في رأي الناس. اي ان الصحيح حسب زعمهم هو ما يوافق عليه غالبية الناس "صوت الناس هو صوت الله".

ولكن في العديد من المجالات نجد آراء الناس متغيرة وعادة زائفة. عندما يتفق كل الناس على تسمية فعل معين بالخير او الشر فهم يقومون بهذا لأنهم يرون ذلك خيرا او شرا في ذاته، ولكنه يجب ان لا يكون خيرا او شرا لأنهم اطلقوا عليه هكذا.

هل ان كل فعل انساني هو اما خير او شر؟

1- يُعتبر الفعل المجرد، اي البعيد عن كل الظروف، هو لاخير ولا شر. فمثلا، المشي، الركوب، القراءة، هي افعال بذاتها لاتنطوي على ميول نحو الغاية النهائية او الابتعاد عنها. جميعها تسمى افعال عادية: أي لا خيّرة ولا شريرة.

2- ولكن كل فعل اخلاقي اذا نُظر اليه انفراديا، اي اذا تم في مثل هكذا ظروف من الزمان والمكان والافراد، فهو من الضروري ان يكون اما جيدا او سيئا. لأننا بما اننا نميز الفعل الجيد عن السيء بمدى مطابقته للمبادئ الثابتة المعروفة للعقل، يتبع ذلك، عندما يوافق عليه العقل، فان الفعل سيكون صحيحا، وعندما لا يوافق عليه العقل، سيكون الفعل خاطئا. اذاً، في كل فعل انساني فردي، اما يوافق العقل على الفعل كشيء ملائم لخيار مقصود، او لايوافق عليه كشيء غير ملائم لمثل هذا الخيار، ولذلك، كل فعل انساني فردي هو اما صحيح او خاطيء.

...................................
* من الفصل الثاني من كتاب الموجز في الفلسفة الاخلاقية، لشارلس كوبنس Charles coppens،
جامعة نوتردام، الصادر عام 2007 عن دار kessinger publishing,LLc.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي