أخلاقيات الربح والخسارة: بين الجماعة والأنا
علي حسين عبيد
2015-03-01 01:16
يرى علماء الاجتماع والاقتصاد وغيرهم من المختصين بشؤون الافراد والجماعات والطبيعة الانتاجية لهما، بأن العمل يتوزّع على نوعين، أحدهما ذو طابع فردي، والآخر جماعي، ويضع هؤلاء العلماء بعض التباينات والفوارق بين النوعين المذكورين، حسب طبيعة العمل المنجز، ولكن بصورة عامة يتفوق العمل الجماعي على الفردي بمزايا عديدة، أهمها أن المردود الجيد للعمل الجمعي سوف يشمل كل الأشخاص المشتركين في انجاز العمل، بمعنى أن حالة الارتقاء سوف تكون ذات طابع جمعي، ولا تقتصر على شخص بعينه، لذلك شجّعت المجتمعات المتقدمة على هذا النوع من العمل، ونعني به الجهد الجماعي المشترك، وجاء هذا التشجيع، بعد أن حصدت تلك المجتمعات نتائج جيدة جدا شملت الجميع، وتمكنت من نقل الدولة والمجتمع كله الى مراتب أعلى من التطور والازدهار.
قد تكون بعض الاعمال ذات الطابع الفردي، غير مهيأة لإشراك الجهد الجماعي في انجازها، ولكن في حقيقة الامر حتى الاعمال التي ينجزها افراد، تحتاج الى دربة ومهارة وخبرة وتخطيط وما شابه، لتحقيق النجاح والانجاز الأفضل، وهذا يستدعي تقديم المهارات والخبرات للفرد، حتى يتمكن من انجاز عمله الفردي بصورة ناجحة، وهكذا يتدخل الجهد الجماعي حتى في الانجازات الفردية، أما الاعمال التي تستدعي تعاونا جماعيا مشتركا، فإنها لا يمكن أن تحقق نسب نجاح مقبولة، في اي مجال كان، ما لم يكن للعقل الجمعي المشترك، قصب السبق في التخطيط لها والتنفيذ الفعلي لها، وصولا الى المرحلة الانتاجية الاخيرة، ولا شك أن العقل الجمعي، هو الذي يضع الخطوات العملية لإنجاز تلك الأعمال، بعيدا عن الأنانية الفردية.
وقد حثّ الفكر والأديان والفلسفة الايجابية على العمل المشترك كونه يقتل الأنانية في مهدها، ويعمل على اشاعة روح المحبة بين الجميع، لهذا ورد في الحديث النبوي الشريف (أحب لأخيك ما تحب لنفسك)، وهذا المضمون يستدعي من الفرد أن ينخرط مع الجماعة ويتعاون معهم، ويحب لهم ما يحب لنفسه من درجات النجاح والانجاز والتميّز، صحيح ان الجهد الفردي قد يكون متباينا من شخص الى آخر، ولكن هذ التباين بين القدرات الفكرية والجسدية للافراد، هو الذي يعطي نكهة خاصة من النجاح للعمل الجماعي، فالتباين والاختلاف والتنوع في التفكير والمقترحات في مرحلة التخطيط وطرح البدائل لتحسين الجودة والاتقان وما شابه، سوف يمنح الجماعة ميزة التنوع الفكري التخطيطي وقطف الثمار الجماعية، وهذا أفضل بكثير مما لو انحصر التفكير والتخطيط بعقل واحد كما في الحكومات الفردية.
ولعل التاريخ يثبت بما لا يقبل الشك، أن جميع الكوارث التي ألحقت بالبشرية سياسيا وحربيا وحتى اجتماعيا، كان وراؤها عقل فردي لا يقبل الرأي الآخر ولا يتعاطى معه، لاسيما المختلف او المتباين، وهذه طبيعة الطواغيت على مدى التاريخ، فالطغاة افراد لا يعترفون بالعمل الجمعي، ويرفضون الآراء التي لا تلتقي مع آرائهم أو تتناقض معها هو لو كانت مصدر ثراء وتنوع لها، ولذلك لم ينجح طاغوت في أعماله الفردية كما تؤكد لنا التجارب الماضية، وهذا في الحقيقة درس واضح، يمكن أن نطبقه على ما نقوم به من أنشطة متنوعة في حياتنا، ولابد أن نؤمن بصورة لا يشوبها التردد، أن عملنا الجماعي ذو الطابع المشترك، افضل بكثير من العمل الفردي فكرا وتطبيقا.
ولعل النتيجة الأكثر خطرا التي تتمخض عن العمل الفردي، تكمن في درجة الانانية القصوى التي يُظهرها الفرد حيال الجماعة او حيال الآخرين، فهذا النوع من الناس، يرتضي لنفسه الربح الفردي بغض النظر عما يتم إلحاقه بالآخرين من خسائر وأذى، والمهم لدى هذا النوع من الافراد، ما يردده لنفسه: (أنني يجب ان اربح وليخسر الجميع!!)، لكن يرى علماء النفس والاجتماع، أن هذه الدرجة القصوى من الانانية تنطوي على مخاطر كبرى، تقصي الجميع وتركّز على الربحية الفردية، في حين أن الصحيح هو تحقيق الربحية الجماعية بدلا من الربح الفردي ذي الطابع الأناني، فعندما يربح الجميع يحقق المجتمع والدولة ايضا تقدما ملموسا، في مجالات متعددة، على العكس من المجتمعات التي تسود فيها ظاهرة العمل الفردي الأناني، فهذه المجتمعات تنخرها الطبقية الفجة، وتعيث بها الفوارق الكبيرة بين شرائح المجتمع، وتنتشر فيها مظاهر الفقر والعوز، وفي الغالب ستكون النتيجة في صالح أقلية تستحوذ على كل شيء، مقابل أكثرية تعاني من خسائر ونواقص لا تُعد ولا تحصى.
لذلك تؤكد الوقائع أن العمل الجماعي المنسّق بصورة جيدة، لا يمكن أن يفشل في تحقيق النتائج المرجوة منه، وقد وُصف العمل الجماعي بأنه يشبه أسلوب العمل كفريق (Teamwork) ويشترط في هذا النوع من العمل، التركيز والوضوح والتدوين والموضوعية، وتجنب الفردية والاتصال، ويهدف العمل الجماعي إلى التطوير، ويتم حل المشكلات عبر التخطيط لإيجاد العلاج المناسب للمشكلة من خلال المناقشة الجماعية. وهذه تشكل امتيازا للعمل الجماعي على الفردي الذي غالبا ما تكون ثماره اقل فاعلية بسبب مساحتها الضيقة، لاسيما أنها تقتصر في فوائدها وربحيتها على فرد واحد لا اكثر.
أما عمل الجماعة فهو يعود بالربحية على الكل من دون استثناء، ونعني بالكل ذلك الفريق الجماعي المشترك بإنجاز العمل، لذلك ورد في قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى/ سورة المائدة. كذلك ورد في الحديث النبوي الشريف: خير الناس أنفعهم للناس.
فعندما يشترك الفرد في عمل جماعي لاشك أن عمله مع الجماعة سوف يكون أكثر نفعا للآخرين ولنفسه في وقت واحد، بسبب اكتسابه لسمات المشاركة والتعاون، ونبذ السلوك الأناني الذي لا يعود بالنفع حتى على صاحبة، وهكذا نستطيع أن نجزم بلا شك او تردد، أن الانسان الفرد عندما ينخرط مع الآخرين في عمل جماعي، فإن الربحية التي تتحقق عن عمله، سوف تكون شاملة ولا تنحصر بفرد دون غيره، وهذا بالضبط ما تحتاجه المجتمعات والدول التي لا تزال قابعة الى الآن، في المراتب السفلى للتخلف.