لا تقتلوا أنفسكم بأيديكم..
بمناسبة تجاوز درجة الحرارة سقف الـ (50) درجة مئوي
علي حسين عبيد
2016-07-20 07:47
توجد هذه الأيام تحديدا، ساونا مجانية في العراق، فجميع مناطق ومدن العراق وصلت فيها درجة الحرارة على مشارف الخمسين او تجاوزتها، حتى مناطق شمال العراق التي كانت ملاذا للعراقيين وغيرهم أيام الصيف القائظ، لم تختلف فيها مستويات درجات الحرارة المرتفعة كما هو الحال في المدن والمحافظات الوسطى والجنوبية.
بطبيعة الحال هذا الارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة، وبالعراق تحديدا، لم يأت اعتباطا، وإنما هنالك أسباب تقف وراءه، هذه الأسباب قليل منها يعود الى الطبيعة نفسها، وكثير من الأسباب يعود الى الإنسان نفسه، بحيث نستطيع القول أن الجحيم الأرضي الذي نجده اليوم في العراق هو صناعة بشرية بامتياز.
واحد من أهم الأسباب البشرية التي أسهمت في تجاوز درجات الحرارة سقف الخمسين، هو عبث الإنسان بالبيئة، فقد تم تدمير المساحات الواسعة للبساتين التي كانت تحيط بكربلاء وتتخلل مناطقها، فمثلا بساتين الحسينية المشهود لها بإنتاج أرقى الفواكه (الرمان والتفاح والعنب والكروم بأنواعها) فضلا عن أرقى أنواع التمور، هذه البساتين التي كانت تسهم بتقليل درجة الحرارة وتلطيف الجو وتحويل الهواء الساخن الى نسيم عذب، هذه البساتين والمناطق الخضراء قد امتدت إليها يد الإنسان تجريفا وتخريبا وتدميرا.
بيوت ساخنة
الحجة التي تقف وراء هذا التدمير هو تحويلها الى مناطق سكنية مكتظة بالناس تم بناء بيوتها بدون دراية ولا معرفة بالتصميم العمراني السليم، حيث الأزقة ضيقة حسيرة متداخلة مع بعضها وتم بناءها بطريقة عشوائية، الأمر الذي جعل منها عاملا مساعدا على مضاعفة درجات الحرارة الى أقصى حد، وهو ما يحدث الآن فعلا في كربلاء المقدسة وفي مدن الجنوب بعد أن قام أصحاب البساتين (تحت جشع وطمع النفس) بتحويل بساتينهم الى قطع أرضية صغيرة (100 متر مربع)، وبيعها بأثمان مغرية، بعيد عن الاستجابة او التمسك بتعليمات الدولة والقوانين البلدية التي تمنع مثل هذه الأعمال.
ولكن في الحقيقة لم يستجب أصحاب البساتين الى تعليمات مديريات البلديات، والناس أنفسهم الذين يشترون هذه الأراضي لا يشعرون بالذنب، فالمهم لديهم الحصول على قطعة ارض قريبة من مركز المدينة يسكنون بها، أما الأضرار اللاحقة فهي لا تعني شيئا لهم، وهكذا يشترك المشتري صاحب الحاجة للسكن، وصاحب البستان البائع تحت ضغط الجشع، لتتحول البساتين الخضراء الى بؤر تنفث الهواء الساخن الملوث في المدينة.
يحدث هذا على مرأى من الحكومة والبلديات وجميع الجهات المعنية بتطبيق القانون، فلا احد معني بتطبيق النظام، ولا احد يفكر بالغد وماذا سيحدث، المهم لدينا جميعا (أن نعيش اليوم)، أما غدا فلا نفكر فيه ولا نفكر بالمشكلات البيئية والمرضية التي سوف تتفشى لتصيب أولادنا وأحفادنا، إننا في الحقيقة نشترك جميعا في تعريض أنفسنا والأجيال القادمة الى أخطار لا حدود لها بسبب عدم التزامنا بالقانون وبعدم تحويل المناطق الخضراء الى بيوت ساخنة.
يُضاف الى كل هذا، هناك مشكلة أخرى، ان الدور السكنية لم يتم التخطيط لها بطريقة صحيحة، فلا توجد شوارع واسعة تُباعد بين البيوت كي لا يتم تراكم الهواء الملوث، كذلك لم يفكر أصحاب القرار والمسؤولين، أين ستذهب مخلفات أجهزة التبريد التي تنبعث من البيوت في منطقة محاصرة ومتداخلة مع بعضها.
إن الفوضى في بناء البيوت يسهم طبعا في زيادة الحرارة بسبب تراكم الهواء الملوث، بالإضافة الى البنايات الكثيرة، وإذا أضفنا ما ينبعث من عوادم السيارات في الشوارع على مدار الساعة، فإن أسباب ارتفاع درجة الحرارة بفعل الإنسان تبدو واضحة، ومع هذا كله هناك لا مبالاة في التعامل مع هذه القضية، حيث لم تبادر الجهات الحكومية او غيرها الى نشر وإحياء مناطق خضراء حول المدينة وفي داخلها أيضا.
زيادة المساحات المشجّرة
لماذا مثلا لا يتم تحويل كثير من الساحات الفارغة في كربلاء الى متنزهات وحدائق تقف بالضد من الهواء الملوث الذي يصنعه الإنسان تحت حاجته للتبريد وسير السيارات وما شابه، كذلك ثمة سؤال مهم موجَّه الى الجهات المسؤولة، لماذا تهتمون في زيادة البنايات العشوائية ولا تعيرون اهتمامكم لإنشاء المناطق الخضراء، مع علمكم المسبق بأهميتها للبيئة وصحة من يسكن هذه المدينة المقدسة الآن، او على مستوى القابل من السنين.
إن الصحيح في رأي المعنيين والمختصين، أن تبدأ منذ - الآن- الجهات المعنية الحكومية او سواها بمضاعفة المساحات الخضراء في المدينة، كذلك يمكنها تطبيق القوانين الحازمة للحد من التجاوز على البساتين والمساحات الخضراء، خاصة في البساتين التي تقع في أطرافها.
وثمة نقطة مهمة أخرى في هذا المجال أيضا، وهي تتعلق بإقامة حزام اخضر واسع يتم تنفيذه من لدن شركات عالمية وليس محلية سواء بطريقة الاستثمار أو سواها، فالمهم هنا هو ان نزيد الأشجار، ونضاعف أعدادها، وان نبذل الاهتمام الأقصى في هذا الجانب، خاصة أننا سمعنا أكثر من مرة بإقامة أحزمة خضراء حول المدينة من جهة الصحراء، وتم رصد مليارات الدنانير لمثل هذه المشاريع الزراعية التي لم تصمد أمام الجفاف، فبدلا من أن تكون أشجار هذه المشاريع حامية للمدينة تحولت الى عبء عليها واستنزفت أموالها بلا طائل ولا شك أن الفساد المالي والإداري له حضوره في هذا المجال.
خلاصة القول.. في العراق بلغت درجة الحرارة أكثر من خمسين درجة مئوية، وهذه ليست المرة الأولى طبعا، وإنما سنويا يحدث ذلك، وتحدث أضرار كبيرة تطول صحة الإنسان وتؤثر على مرضى القلب والربو وتصيب الأطفال والعمال (بضربة الشمس) وتحد من الأعمال في العراء أو المناطق غير المحمية بسقوف، وهذا يعني أن هذه القضية تتكرر طالما بقينا على قيد الحياة، لهذا ينبغي معالجتها بطريقة علمية والتخطيط لها بجدية من أصحاب القرار.