في حقبة الغليان العالمي.. العراق يصارع الموت جفافا

شبكة النبأ

2023-08-15 06:03

قال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك إن حرارة الصيف الشديدة والتلوث في جنوب العراق الذي كان يزوره يشيران إلى أن "حقبة الغليان العالمي" قد حلت.

وتصدرت 15 مدينة عراقية، يوم الاثنين، قائمة المدن الاعلى حرارة على مستوى العالم.

وسجل قضاء خانقين في محافظة ديالى اعلى درجة حرارة عالمياً حيث بلغت 52.4 درجة مئوية، فيما سجلت مدن الناصرية وكربلاء والديوانية والرفاعي وبدرة، الكوت وعين التمر، وبغداد والسماوة درجات حرارة تجاوزت 50 مئوية "، تليها المدن العراقية الأخرى.

وتقول الأمم المتحدة إن العراق من أكثر الدول عرضة لتغير المناخ في العالم.

وأدى تراجع هطول الأمطار إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية إلى جفاف مستمر منذ سنوات. وقالت وزارة الموارد المائية إن مستويات المياه هذا العام وصلت إلى أدنى مستوياتها المسجلة.

وتراجع منسوب المياه في نهري العراق الرئيسيين دجلة والفرات وأصبح أقل من أن يحافظ على الزراعة التي ازدهرت على ضفافهما سابقا.

وللعام الرابع على التوالي، يواجه العراق، البلد الخامس الأكثر تأثّراً بالتغير المناخي في العالم بحسب الأمم المتحدة، موجة جفاف، ما يفرض على الحكومة الكفاح لتوفير مياه الشرب والري.

ويقول المتحدث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال لوكالة فرانس برس "المخزون الاستراتيجي من المياه في العراق (حاليا) هو الأدنى في تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ مطلع عشرينات القرن الماضي".

وتقول منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إن الأراضي المستخدمة في أنشطة الزراعة بجميع أنحاء العراق، انخفضت لحوالي نصف المساحة التي كانت مزروعة في عام 2020.

ويعود ذلك إلى تراجع الأمطار وارتفاع درجات الحرارة. لكن فضلاً عن الجفاف ونقص الأمطار، تعترض الحكومة العراقية على بناء الجارتين تركيا وإيران سدودًا على نهري دجلة والفرات تؤدي إلى تراجع حادّ في كميات المياه التي تصل إلى الأراضي العراقية.

وجاءت تعليقات تورك في ختام زيارة للعراق استغرقت أربعة أيام التقى خلالها بعدد من القادة وزار أنحاء في البلاد بينما بلغت درجات الحرارة أحيانا 50 درجة مئوية. وتناول تورك خلال زيارته ملف حقوق الإنسان مع التركيز على تغير المناخ.

وخلال جولته في العراق حيث تبلغ درجات الحرارة قرابة الخمسين مئوية، ووسط جفاف شديد، زار تورك جنوب البلاد حيث "الحقول جرداء ورازحة تحت وطأة الجفاف"،.

وعن زيارته للبصرة المنتجة للنفط في جنوب العراق، قال تورك في مؤتمر صحفي ببغداد "عند وقوفي في هذه الحرارة الحارقة... ومع استنشاق الهواء الملوث بسبب الكثير من مشاعل الغاز المنتشرة في المنطقة، اتضح لي أن حقبة الغليان العالمي قد بدأت بالفعل".

وقال تورك "ما يحدث هنا هو نافذة على مستقبل قادم الآن لأجزاء أخرى من العالم إذا واصلنا الفشل في الاضطلاع بمسؤوليتنا في اتخاذ إجراءات وقائية ومخففة لحدة تغير المناخ".

وقال تورك لفرانس برس في بغداد في ختام زيارة دامت أربعة أيام، إن "ارتفاع درجات الحرارة والجفاف وفقدان التنوع البيئي، (أمور) باتت واقعاً. هي بمثابة إنذار إلى العراق والعالم أجمع"، مضيفاً "حينما نشاهد أوضاع تلك المجتمعات، فنحن نشاهد مستقبلنا".

للعام الرابع على التوالي، يواجه العراق، البلد الخامس الأكثر تأثّراً بالتغير المناخي في العالم بحسب الأمم المتحدة، موجة جفاف.

ويعود ذلك إلى تراجع نسبة الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، لكن السلطات تحمّل جزءا من المسؤولية إلى سدود تبنيها الجارتان تركيا وإيران على منابع دجلة والفرات، ما يسبب انخفاضاً في منسوب الأنهر التي تعبر العراق.

وفي تموز/يوليو، حذّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) من أن منطقة الأهوار التاريخية في جنوب العراق تشهد "أشدّ موجة حرارة منذ 40 عاماً"، متحدثةً كذلك عن تراجع شديد لمنسوب المياه.

واستعاد تورك تعبيراً استخدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الشهر الماضي، حيث قال إن العالم قد دخل في "عصر الغليان"، مضيفاً أنه "هنا (في العراق)، نعيش ذلك، ونراه كلّ يوم".

وجعل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من مكافحة التغير المناخي واحدة من "أولويات" حكومته، لكن ناشطين بيئيين يحذرون من ضعف التحرّك في هذا الصدد.

ويعكس الصيف تداخل أزمات يعيشها بشكل يومي سكان العراق البالغ عددهم 43 مليون نسمة، من تهالك قطاع الكهرباء والارتفاع المتواصل في درجات الحرارة بالإضافة إلى النقص في المياه.

ويشكّل ملف المياه مصدر توتر بين العراق وتركيا وطالب العراق أنقرة مراراً بالإفراج عن مزيد من المياه.

العراق يمر بأصعب مرحلة للجفاف

وقال المتحدث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال لفرانس برس، رداً على سؤال عن مستوى المياه في نهري دجلة والفرات، إن "العراق الآن لا يتسلم إلا 35% من استحقاقه الطبيعي من المياه، ما يعني أن العراق فاقد 65% من استحقاقاته من المياه الخام، سواء في دجلة أو الفرات".

وأثار سفير تركيا في بغداد علي رضا غوناي الجدل في تموز/يوليو 2022 حين اتهم العراقيين بـ"هدر المياه".

وأكد وزير الموارد المائية عون ذياب عبدالله، أنَّ العراق يمر بأصعب مرحلة للجفاف وللموسم الرابع على التوالي.

وقال عبد الله في تصريح للصحيفة الرسمية إنَّ "العراق يمر بأصعب مرحلة من الجفاف للموسم الرابع على التوالي، بسبب قلة الاطلاقات المائية وتأثيرها في مناسيب نهري دجلة والفرات، وخزين البلاد الستراتيجي، ما حدا بالحكومة إلى منع زراعة الشلب والذرة الصفراء للموسم الحالي لحاجتها الماسة إلى كميات وافرة من المياه".

وبين أنَّ "وزارته تبذل جهوداً حثيثة واستثنائية لتأمين مياه الشرب والاحتياجات المنزلية والصناعية والصحية والبيئية، إلى جانب حصص الأهوار وتحسين بيئة الأنهار، كما أنها تطبق نظام مراشنة عادل وصارم لتوزيع المياه".

وكشف عبد الله عن "وجود مؤشرات إيجابية وتفاهمات مع الجانب التركي لتفعيل بنود مذكرة التفاهم بين البلدين، أهمها الخطة التشغيلية الصيفية لسدوده وخزاناته، والتي على أساسها ستعد الخطة المائية للبلاد"، مؤكداً أنَّ "العراق وخلال اتصاله بالجانب التركي لمس مؤشرات إيجابية بزيادة نسب الاطلاقات المائية لنهري دجلة والفرات خلال الصيف الحالي".

وأشار إلى "توصل وزارته إلى معالجات وحلول للتقليل من الشح المائي، كإنشاء السدود لحصاد المياه في الصحراء الغربية والجنوبية لتعزيز خزين المياه الجوفية والاستفادة منه بدعم القطاع الزراعي، وإضافة إلى حملات لإزالة وردم بحيرات الأسماك غير المرخصة البالغ عددها خمسة آلاف، ونتج عنها حتى الآن، ردم أكثر من 40 بالمئة منها".

وتابع وزير الموارد المائية أنَّ "المعالجات تتضمن رفع المضخات غير المرخصة عن نهر الفرات، ونصب أخرى عائمة إضافية بمحطة الثرثار لرفع تصريف المياه إلى ذنائب الأنهر بمحافظات البصرة وذي قار والمثنى والديوانية وبابل، من 70 م3 /ثا الحالية إلى 100 م3/ثا، مع تنفيذ مشاريع التبطين للسواقي (اللحاف الخرساني)، إضافة إلى السواقي المعلقة للتقليل من الضائعات المائية ضماناً لوصول كامل الحصص المائية إلى مستحقيها".

من جهته أكد عضو مجلس النواب جاسم العلوي،أن موارد العراق المائية تراجعت إلى النصف، فيما شدد على ضرورة وضع استراتيجية موحدة لمواجهة خطر شح المياه.

وقال الموسوي في تصريح صحافي، إن" موارد العراق المائية تراجعت بنسبة 50 بالمئة بسبب فترات الجفاف"، محذراً "من دخول العراق مرحلة الحرج المائي".

وأضاف، انه "يتوجب على الجميع تضافر الجهود لوضع استراتيجية موحدة لمواجهة خطر شح المياه وأهمية رفع الوعي لدى الناس لترشيد استهلاك المياه".

وأشار الموسوي الى أن "الحكومة وضعت في أولوياتها معالجة ملف المياه بالطرق الحديثة من خلال إنشاء محطات حديثة لتحلية مياه البحر واستغلال المياه الجوفية إنقاذ واقع الحال بدلا عن إسراف المياه بشكل فوضوي".

الجفاف يهدد أنماط الحياة

يربّت مصطفى أحمد بيد حانية على جسد جاموس الماء قبل أن يربط كيس العلف حول رقبته، وهو يرعى القطيع الذي يملكه والده بمحافظة النجف في جنوب العراق، وهو نشاط توارثته العائلة على مدى أجيال، قبل أن يصبح شُحّ المياه سيفا مصلتا يهدد بقطع الأرزاق وتغيير نمط الحياة بالكامل.

يشكل العراق جزءا مما يعرف بمنطقة "الهلال الخصيب"، وهي الأرض الممتدة من ساحل البحر المتوسط إلى الخليج ويعيش أهلها على الزراعة منذ آلاف السنين.

لكن الأوضاع تغيرت والأحوال تبدلت وأصبح كل شيء مهددا بالدمار لعدة عوامل ومجموعة أسباب من بينها بناء السدود على منابع نهري دجلة والفرات، وتراجع هطول الأمطار وعقود من الصراعات.

قال أحمد عبد الحسين، والد مصطفى، إن النقص الحاد في المياه بحي المشخاب الذي يعيشون فيه أصبح يفرض عليه بيع أفراد القطيع واحدا تلو الآخر، وهو شيء يترتب عليه إحساس بالألم وشعور بالمرارة خاصة لدى الابن.

فقد القطيع مؤخرا عجلا صغيرا يبلغ من العمر شهرين. وقال مصطفى البالغ من العمر 13 عاما "أشعر بالأسى لفقده... لأنني أحبهم فعلا.. الآن أصبح لدينا تسعة فقط".

وكان عدد أفراد القطيع في العام الماضي 20.

وتحدثت رويترز إلى ست من عائلات الرعاة والمربين في محافظة النجف، قالوا جميعا إنهم لم يكن أمامهم خيار ثالث خلال الأشهر الماضية، فإما بيع ماشية أو تركها تنفق أمام أعينهم.

وقال مسؤول محلي إن عدد جاموس الماء في منطقة أم خشم المجاورة انخفض من 15 ألفا قبل خمس سنوات إلى 9000.

وقال خالد شمال المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية إن محافظة النجف لم يصل إليها سوى حوالي 40 بالمئة من حصتها المعتادة من المياه في السنة الحالية.

وفي الأهوار بجنوب العراق يزداد الوضع سوءا في منطقة تعيش بالفعل حالة هشاشة بيئية. وتتعرض الأهوار الآن لأشد موجة حر خلال 40 عاما، وتقول منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) إن ما يقرب من 70 بالمئة من الأهوار أصبحت أرضا جرداء محرومة من المياه.

وأضاف المتحدث باسم وزارة الموارد المائية أن كميات المياه المتدفقة في نهري دجلة والفرات أصبحت أقل بنحو 70 بالمئة هذا العام، مقارنة بالعقود السابقة.

ويشير المسؤولون والخبراء إلى بناء السدود على المنابع في تركيا وإيران، وتغير المناخ، وتقنيات الري التي عفا عليها الزمن، وغياب خطط الإدارة طويلة الأجل كأسباب جذرية لأزمة المياه التي تدفع الآلاف إلى النزوح من الريف.

وفي المشخاب، تحولت الأراضي على مد البصر إلى مساحات جرداء، وأصبح على حيوانات عبد الحسين تحمل هبات الغبار القادمة من أراض كانت تزرع في السابق، فيما لم يبق لقطيع الجاموس سوى القليل من المياه للحفاظ على برودة أجسادها.

قال عبد الحسين وهو يتطلع إلى ماشيته الواقفة في المياه الراكدة "هذه مياه قديمة"، مضيفا "أنها تعاني بسبب العطش".

وتؤثر نوعية المياه على صحة الحيوانات، ذلك لأن المياه الملوثة تضعف جهازها المناعي.

قال نذير الأنصاري، الأستاذ في جامعة لوليا السويدية للتكنولوجيا، إن النجف من أفقر مناطق العراق من حيث جودة المياه. وأضاف أن المياه الفاقدة غير المعالجة والأسمدة الكيماوية التي تعرف طريقها لمجاري الأنهار تجعل المياه غير صالحة للاستهلاك كلما تحرك التيار وتدفقت المياه باتجاه المصبات في الجنوب.

وأوضح أنه كلما انخفض منسوب المياه، تزداد نسبة الملوحة لتتخطى الحدود الموصى بها للاستهلاك الآدمي.

دمار الزراعة

بالإضافة إلى نقص المياه، تتضافر مجموعة من العوامل والأسباب لزيادة معاناة المزارعين في محاولات تغذية حيواناتهم من بينها الانخفاض الحاد في إنتاج المحاصيل وارتفاع أسعار العلف.

تقول منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إن الأراضي المستخدمة في أنشطة الزراعة بجميع أنحاء العراق، انخفضت لحوالي نصف المساحة التي كانت مزروعة في عام 2020.

وفي محافظة النجف، تزداد الأوضاع سوءا بشكل لا مثيل له حيث تتدنى نسبة الأرض المُستَغلة إلى خمسة بالمائة فقط من نظيرتها عام 2020 بعد أن توقفت زراعة الأرز بشكل تام تقريبا بسبب شح المياه.

وكان الرعاة والمربون على غرار عبد الحسين يزرعون أراضيهم بأنفسهم، أو يتحصلون على العلف الرخيص من مزارعي الأرز.

يقول عبد الحسين "عندما لا يأكل الجاموس... لا يدر الحليب"، مضيفا أن دخله تضاءل بشدة بعد أن فقط مصدر ربحه الرئيسي، وأنه يجد صعوبات في توفير العلف الذي أصبح في الغالب مستوردا وأغلى ثمنا.

وأضاف بينما كان قرص الشمس يميل نحو الغروب على المشخاب "بعد أشهر قليلة ربما ينتهي كل شيء". وأشار إلى أن البديل الوحيد هو الانتقال إلى ضواحي النجف، حيث يعيش باقي أفراد أسرته، لكي يتمكن من الحصول على مياه الشرب.

تقول المنظمة الدولية للهجرة إن 62 ألف شخص نزحوا في جميع أنحاء العراق بسبب الجفاف حتى العام الماضي. وانتقل الكثيرون من الريف إلى المدن التي تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وضعف الخدمات.

قال علي رضا قريشي، الممثل المحلي لبرنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة، إن العراق بحاجة إلى وضع الخطط وتطبيق الاستراتيجيات للتكيف مع الأوضاع. وأضاف أن بغداد تستخدم الآن عائدات النفط لتجنب أزمة جوع لكن "شبكات الأمان هذه" لن تكون كافية لتعويض فقدان سبل الرزق ومصادر العيش.

وفي غرفة جلوس قليلة الأثاث قال عبد الحسين إنه أخرج أبنائه من المدارس منذ سنوات لمساعدته في رعاية القطيع، مضيفا أنه يشعر بالندم على هذا القرار "أكثر من أي شيء آخر".

وتقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إن حوالي سبعة بالمئة من القاصرين الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة و17 عاما يعملون يندرجون تحت وصف الأطفال العاملين أو فئة عمالة الأطفال بالعراق.

قال أحمد إنه يريد العودة للدراسة بعد أن رأى حيواناته تختفي واحدا تلو الآخر.

ولأنه لا يعرف القراءة أو الكتابة، يخشى والده من انسداد الآفاق وتضاؤل الفرص أمام مستقبله.

وقال عبد الحسين "مصير حياتنا مجهول. لا نعرف ماذا ينتظرنا" في المستقبل.

دجلة يصارع الجفاف

الحرارة المرتفعة وانقطاع الكهرباء والماء عن البيوت في ظلّ صيف بغداد الحارق لا تدع متنفسًا أمام الشباب مثل وسام عبد، سوى نهر دجلة، لكن حتى هذا النهر التاريخي يصارع الجفاف.

تحت شمس حارقة وهواء جافّ يلفح المراكب القليلة التي تعبر النهر، جاء وسام عبد بعد الظهر للسباحة في نهر دجلة في منطقة الأعظمية في بغداد، هرباً من انقطاع الكهرباء والماء في منزله.

لكن بدل أن يسبح، تعين على الشاب أن يسير من الشاطئ وحتى منتصف النهر بسبب انخفاض مستوى المياه.

في أطراف أخرى من النهر، المياه فيها أعمق، تنافس شبّان على القفز من أعلى صخرة إلى المياه ليسبحوا فيها. لكن في مواقع أخرى تطفو مساحات من اليابسة على وجه المياه الضحلة.

يقول وسام البالغ من العمر 37 عاماً وقد بلغ مستوى المياه حتى خاصرته، "أنا أعيش هنا في الأعظمية أباً عن جدّ، والمياه تنحسر كل عام... لقد عبرت سيراً على الأقدام".

ويروي الشاب أنه يأتي إلى النهر "للتسلية والتبرّد، نعود ليلاً أيضاً، فلا كهرباء عندنا ولا ماء. نأتي لكي نتنفس ونستريح".

وبسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء، يقول وسام الموظف هو نفسه في وزارة الكهرباء، إنه يأتي أحيانا إلى النهر بعد منتصف الليل للسباحة قبل أن يعود إلى بيته.

وتعكس هذه الحالة تداخل أزمات يعيشها بشكل يومي سكان العراق البالغ عددهم 43 مليون نسمة، من تهالك قطاع الكهرباء والارتفاع المتواصل في درجات الحرارة في بلد تقول الأمم المتحدة إنه من الدول الخمس الأكثر تضرراً من بعض آثار التغير المناخي، بالإضافة إلى النقص في المياه.

وفضلاً عن الجفاف ونقص الأمطار، تعترض الحكومة العراقية على بناء الجارتين تركيا وإيران سدودًا على نهري دجلة والفرات تؤدي إلى تراجع حادّ في كميات المياه التي تصل إلى العراق.

وفي كلّ صيف، تتكرر المعاناة إذ يصل انقطاع الكهرباء اليومي أحياناً إلى عشر ساعات، وأكثر في بعض الأوقات مع ارتفاع درجات الحرارة.

فعلى الرغم من غنى العراق بالنفط، فإن مرافق البنية التحتية فيه متردية بفعل عقود من النزاعات وسوء الإدارة والفساد.

ولسد النقص، يلجأ البعض إلى استخدام المولدات الكهربائية.

ولعلاج انقطاع الكهرباء، تحتاج المحطات العراقية إلى إنتاج 32 ألف ميغاواط يوميًا. ولكن الانتاج ما زال بعيدًا عن ذلك، وإن وصل في بعض الأحيان إلى 26 ألف ميغاواط، وفق السلطات.

ففي النصف الأول من شهر تموز/يوليو، ازداد الانقطاع في الكهرباء سوءاً. فقد تراجعت إمدادات الغاز إلى النصف مؤخراً من الجارة إيران التي تمدّ العراق بثلث احتياجاته من الطاقة، بسبب الآلية المعقدة التي ينبغي على العراق أن يدفع من خلالها مستحقات الغاز للبلد الخاضع لعقوبات أميركية، تبلغ 11 مليار يورو.

في الأثناء، تعهّدت الحكومة العراقية بأنّ إمداد الكهرباء سوف يتحسّن خلال أيام لا سيما بعد الاتفاق مع طهران على مقايضة الغاز بالنفط الأسود والخام، وفق ما أعلنت الحكومة قبل أيّام.

وقالت وزارة الكهرباء الجمعة إن الإنتاج قد ارتفع من جديد إلى 24 ألف ميغاواط يوميًا.

والملفّ شديد الحساسية، فقد كان انقطاع الكهرباء سبباً في تظاهرات عمت في الماضي مختلف أنحاء البلاد.

لا يوجد ماء

وفي حين شهد الاسبوع الأول من تموز/يوليو ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة في العالم، وفق المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، تقول هيئة الأنواء الجوية العراقية إن العراق على موعد مع موجة حرّ في عطلة نهاية الأسبوع قد ترفع درجات الحرارة السبت في بغداد إلى 47 وفي البصرة في أقصى جنوب البلاد إلى 50 درجة مئوية.

في صيف العام 2022، انخفض مستوى نهر دجلة كثيرًا إلى درجة أن فرانس برس صورت شباناً يلعبون الكرة الطائرة في وسط النهر. حينها قالت وزارة الموارد المائية إن السبب هو وجود "ترسبات" متراكمة في وسط النهر تعمل السلطات على إزالتها.

يقول طه عدي الذي ولد قبل 34 عاماً ونشأ قرب نهر دجلة وورث مهنة صيد الأسماك عن جدّه ووالده، "في العاملين الأخيرين، ازداد الجفاف سوءًا". وأضاف أن في بعض المناطق "يعبر الناس النهر من ضفة إلى الضفة الأخرى سيراً".

يتذكر طه كيف كانت مياه النهر تصل حتى شرفة منزل جده الأثري الذي ما زال جاثما على النهر. لكنها الآن دون ذلك بكثير. ويقول الشاب "كان يروي لي أبي وأعمامي أنهم كانوا يرسون المركب قرب المنزل".

حتى السمك، لم يعد متوفراً. يقول الشاب "لا يوجد سمك، فقط سمك صغير، لأنه لا يوجد ماء".

ردم مزارع تربية الأسماك

يتأمل عمر زياد ومن حوله بساتين النخيل في قريته في وسط العراق، حقلاً جافاً كان يضمّ حوضاً لتربية الأسماك قامت السلطات بردمه في إطار جهودها لترشيد المياه بهدف مواجهة الجفاف المتزايد.

ولحفظ ما تبقى من الاحتياطات المائية، تعمل السلطات على تنظيم جذري لبعض الاستخدامات، لا سيما ما هو مخالف منها للقانون والذي كان يتمّ التساهل معه في الماضي.

في هذا الإطار، أطلقت حملة منذ نهاية أيار/مايو لإقفال مزارع تربية الأسماك غير المرخصة.

وطال ذلك أحواضاً كان يملكها عمر زياد البالغ من العمر 33 عاماً والذي فقد سبعة أحواض في مزرعة عائلته الواقعة في قرية البو مصطفى، بعدما ردمها موظفون في وزارة الموارد المائية لأنها غير مرخّصة.

ويقول الشاب الذي يعمل كذلك مدرساً "أعمل منذ عشرين عاماً في تربية الأسماك مع أبي وأخوتي السبعة".

وكان زياد وأشقاؤه يقومون بتربية 50 ألف سمكة في أحواض العائلة بمردود شهري يتراوح بين 1300 و2600 دولار. وكانوا يربّون أسماك الشبوط التي تستخدم في إعداد طبق "المسقوف" المشهور في العراق.

ويتابع الشاب "كنا نبيع الأسماك بسعر متدنّ" للسوق المحلية. أما اليوم، وبعد إغلاق مزارع الأسماك، ارتفعت الأسعار في السوق و"تجاوزت الـ8000 دينار للكيلوغرام الواحد"، أي ضعف سعرها السابق، وفق زياد.

من مكان مرتفع، تبدو الأراضي المجففة متراصة وتحدّها طرق ريفية، ويكسر أحيانا المشهد الممل، حوض مائي وحيد نجا من تدخّل الحكومة.

ويقول زياد "كانت هناك 80 بحيرة أسماك في منطقتنا تعيل حوالى 1500 عائلة، بقيت منها خمسة أحواض فقط كان يحمل أصحابها تراخيص".

في المقابل، يطالب عبدالله سامح، ابن عم زياد الذي يعمل كذلك مربياً للأسماك، السلطات ب"إيجاد بديل" لمن فقدوا عملهم. ويرى الشاب الثلاثيني أن إجراءات الحكومة "لم تحل مشكلة" المياه، مضيفاً "جُفّفت أحواضنا، لكن إذا سألت في مناطق الجنوب يقولون إنهم لم يحصلوا على أي مياه".

ويقول المتحدث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال لوكالة فرانس برس "المخزون الاستراتيجي من المياه في العراق (حاليا) هو الأدنى في تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ مطلع عشرينات القرن الماضي".

ويقرّ المسؤول أنه إضافة إلى العوامل الجيوسياسية وتراجع معدلات الأمطار، المشكلة أيضاً داخلية، لا سيما "سلوكيات وممارسات الري والزراعة" التي تستهلك الكثير من المياه.

ويضيف "ما زلنا نعيش ثقافة وفرة المياه ولم نغادرها إلى ثقافة شحّ المياه وترشيد الاستهلاك".

ويوضح أن "بحيرات الأسماك المتجاوزة أسهمت في زيادة المساحة المعرّضة للتبخّر وزيادة تخندق وتسرب المياه والملوثات البيئية".

وأغلقت قرابة نصف الأحواض الخمسة آلاف غير المرخصة التي كانت موجودة في العراق، وفق شمال الذي انتقد وجود "أحواض أسماك (غير مرخّصة) لا تدفع ضرائب ورسوما وضمانا"، معتبرا أن "ردمها واجب وطني".

وعلى الرغم من تأييده إغلاق الأحواض المخالفة، تساءل رئيس جمعية صيادي ومربي الأسماك في العراق أياد الطالبي خلال لقاء بثته قناة "الإخبارية" الحكومية "هل استُثمرت المياه التي أوقف استخدامها لتربية الأسماك؟".

وذكّر الطالبي بأن "العراق كان ينتج 900 ألف إلى مليون طن من الأسماك سنوياً"، لكن بعد حملة السلطات، انخفض الإنتاج إلى 190 ألف طن.

وأضاف أن قطاع الأسماك كان يوظّف مليوني شخص، محذّراً من أن "هذه العائلات كلها ستهاجر إلى المدينة".

ويشير المتحدث باسم وزارة الموارد المائية إلى أن السلطات قد تسمح "مستقبلا بالأحواض أو الأقفاص العائمة ضمن مسار النهر" لتربية الأسماك، لأن "استهلاكها للمياه أقل".

في جنوب العراق، يشكّل ارتفاع ملوحة المياه التحدّي الحقيقي للصيادين في شطّ العرب، النهر الذي يلتقي فيها دجلة والفرات قبل أن يصبّ في نهر الخليج.

وخلال كل موسم صيف، يتراجع تدفّق المياه العذبة القادمة من شمال البلاد مقابل تزايد المدّ البحري المالح، ما يؤدي إلى الاختلال في النظام البيئي.

ويزيد هذا الأمر معاناة خضير عبود، صياد السمك البالغ من العمر 71 عاماً،

وفيما يتفقّد شباكه وهو على قاربه عند حافة النهر، يتذكّر الرجل صاحب اللحية البيضاء أنه "في الماضي، كانت تصلنا أسماك مختلفة.... لكن بعدما جاء الماء المالح انتهت، انقرضت، لم يبقَ شيء".

اليوم، يكسب الرجل حوالى عشرة آلاف دينار (7 دولارات) مما يصطاده، لكن "هذا لا يكفي، لديّ عائلة".

ويشير الى إن العديد من "الصيادين تركوا العمل وتوجهوا لعمل آخر (مثل) عمل البناء"، مضيفاً "لم يبقَ إلاّ قلّة، كبار في السن، نعمل" في الصيد.

بحيرة الحبانية بركة راكدة

عمل محمد في متجره الصغير في المدينة السياحية القريبة من بحيرة الحبانية في وسط العراق لسنوات، لكنه لم يشهد عاماً مثل 2023 إذ طال الجفاف الذي يضرب العراق البحيرة وأثّر سلباً على جذب السياح.

في أكثر أيّام شهر آب/أغسطس حراً، لم يكن المكان الذي يضمّ شققاً سياحية وفندقاً، يهدأ في الماضي خصوصاً في أيام عطلة نهاية الأسبوع.

لكن يوم الجمعة هذا لم يأتِ سوى عدد قليل من الزبائن إلى متجر محمد. أما الشاطئ الذي ازدادت مساحته مع تراجع منسوب المياه، فبدا خالياً. ولم يعد المكان سوى ظلٍّ لما كان عليه في الماضي، حينما كان واحداً من أفضل المنتجعات السياحية في الشرق الأوسط بعد تأسيسه في العام 1979.

يروي محمد من أمام دكانه الذي يبيع فيه المرطبات والمياه وملابس ومعدّات السباحة لسياح لم يأتوا هذا العام لفرانس برس أنه "خلال العامين الماضيين، كان هناك عمل وحركة"، لكن "الآن لا يوجد مياه، هذا عام جفاف".

ويضيف الشاب البالغ من العمر 35 عاماً والذي فضّل عدم إعطاء اسمه كاملاً أنه "بسبب قلّة المياه، توقف العمل وتوقفت الحركة، لا يأتي أحد...إذا عادت المياه، يعود الناس".

وبالفعل، فإنّ مياه البحيرة التي تبعد نحو ساعة ونصف في السيارة عن بغداد، تراجعت عشرات الأمتار.

يوضح مدير الموارد المائية في محافظة الأنبار جمال عودة سمير لفرانس برس أن "البحيرة تحتوى الآن على 500 مليون متر مكعّب من المياه" فقط، مقابل "قدرة استيعابية قصوى هي 3,3 مليار متر مكعب"، مضيفاً أنه في العام 2020، كانت البحيرة ممتلئة إلى حدّها الأقصى.

بعد الظهر، خلت المدينة السياحية في الحبانية تماماً إلّا من بضعة كلاب شاردة ونوارس حلّقت فوق ما تبقّى منها. ووُضعت مظلّات متفرقة على الشاطئ بينما بدت الشقق السياحية المحيطة خالية.

لعب الأطفال في بقعة واحدة لا تزال المياه جارية فيها. أما في مواقع أخرى، فالمياه ضحلة وموحلة، ولا تصلح للسباحة.

جاء قاسم لفتة من مدينة الفلوجة المجاورة إلى البحيرة لقضاء وقت مع عائلته وأولاده.

يقول الرجل البالغ من العمر 45 عاماً والذي يعمل تاجراً أنه في السابق "كنا نأتي إلى هنا وكان الوضع أفضل، كانت المياه أعلى، ووضع المكان أفضل"، لكن هذه السنة "هي الأسوأ، بسبب قلة المياه وانخفاض مستوى البحيرة".

وناشد الدولة "أن تهتم بالمكان، لأنه المتنفس الوحيد ليس فقط لأهل الأنبار بل للمحافظات الجنوبية وبغداد أيضاً".

في الحبانية، ساهم تراجع الأمطار وارتفاع درجات الحرارة في انخفاض المنسوب المتأثّر أيضا بتراجع نهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويعبر في سوريا ويغذّي البحيرة.

وبحسب مدير الموارد المائية في الأنبار، فإن تراجع منسوب البحيرة ونهر الفرات يعود إلى "قلة الإطلاقات المائية من دول المنبع مثل تركيا وسوريا"، ولذلك اضطرت الوزارة "إلى سحب المياه من بحيرة الحبانية لتعزيز الحصص المائية في محافظات الوسط والجنوب".

وتقول السلطات العراقية إن السدود التي تبنيها الجارتان تركيا وإيران تعدّ سبباً رئيسياً في تراجع منسوب نهري دجلة والفرات على الأراضي العراقية.

يعمل صداع صالح محمد في إدارة المنتجع منذ 25 عاماً. ولحظ في حديث مع فرانس برس أنه "منذ أكثر من عام، بدأت البحيرة بالانخفاض".

وأضاف صالح، مدير قسم التدقيق والرقابة الداخلية في المدينة السياحية أنه "لا يمكن المقارنة" مع السنوات السابقة، "ففي مثل هذه الأوقات، تكون الحبانية ممتلئة، سواء السكن أو الشاطئ".

لكن "حالياً، أصبح ارتياد السياح للحبانية ضعيف جداً جداً"، كما قال. وفي العام 2020، وعلى الرغم من الحجر الصحي المرتبط بجائحة كورونا، سجلت الشقق السياحية 9 آلاف حجز، لكنّها حالياً لم تتجاوز 3 آلاف منذ مطلع العام، وفق المسؤول.

وتابع بحسرة "البحيرة أصبحت عبارة عن بركة ماء راكدة لا تصلح لا للشرب ولا للسباحة".

ذات صلة

أزمة البرود الجنسي: أسبابها وحلولهاالخطاب السياسي الإسلامي في العراق.. اضاءات في طريق التجديددفاع عن المثقفكيف أصبحت جامعة كولومبيا بؤرة للاحتجاجات في الجامعات العالمية؟الدولة من الريع الاستهلاكي الى الاستثمار الانتاجي