التلوث المروري يرتبط بتزايُد احتمالات الإصابة بالأمراض المتزامنة
موقع للعلم
2023-01-09 06:18
بقلم: محمد أبو زيد
يُعد تلوث الهواء الخارجي السبب البيئي الرئيسي للوفيات المبكرة على مستوى العالم؛ إذ يسهم في وفاة ما بين أربعة إلى تسعة ملايين شخص سنويًّا، ويرتبط التعرض القصير الأمد والطويل الأمد لتلوث الهواء بتطور الأمراض الحادة والمزمنة وتفاقمها، وضمن ذلك أمراض القلب والأوعية الدموية والسكتة الدماغية، وأمراض الجهاز التنفسي مثل الربو واضطراب الانسداد الرئوي، ومرض السكري، وحالات التنكس العصبي.
ويزداد الأمر خطورةً في ظل تقديرات منظمة الصحة العالمية التي تؤكد أن "أكثر من 99٪ من سكان العالم يتعرضون لمستويات غير صحية من الملوثات، مما يزيد من تلوث الهواء، باعتباره أحد الأولويات الرئيسية للصحة العامة في جميع أنحاء العالم".
من هنا تأتي أهمية الدراسة البريطانية الحديثة التي أكدت وجود علاقة مباشرة بين التلوث الناتج عن حركة المرور والإصابة بأمراض قلبية ونفسية متعددة طويلة الأجل، من بينها الربو وأمراض القلب التاجية، والاكتئاب وتعاطي المخدرات.
الأمراض المتزامنة
استندت الدراسة التي نشرتها دورية "فرونتيرز إن بابليك هيلث"(Frontiers in Public Health)، وأجراها باحثون في "معهد الطب النفسي وعلم النفس وعلم الأعصاب" في "كينجز كوليدج لندن"، إلى البيانات الصحية الخاصة بـ364 ألفًا و144 شخصًا (52.6% من النساء)، وبمتوسط عمر بلغ 52.2 عامًا من بين أكثر من 500 ألف شخص ترددوا على 22 مركزًا في إنجلترا وإسكتلندا وويلز في الفترة ما بين 2006 وحتى 2010.
لكن عينة البحث اقتصرت على سكان إنجلترا لأن بعض المتغيرات المشتركة (مثل المساحات الخضراء السكنية، والتلوث الضوضائي) لم يتم جمعها في ويلز أو إسكتلندا، كما أخذ الباحثون بعين الاعتبار العوامل المتعلقة بالبيئة المحيطة بالأشخاص، مثل مدى قربهم من الطرق الرئيسية وكثافة حركة المرور على هذه الطرق، والتلوث الضوضائي على مدار 24 ساعة، والمساحة السكنية الخضراء.
وكشفت الدراسة، التي تُعد الأكبر من نوعها على مستوى العالم، أن المستويات العالية من تلوث الهواء المرتبط بالمرور ينتج عن جسيمات PM2.5 (جسيمات دقيقة قطرها أقل من 2.5 ميكروجرام)، وثاني أكسيد النيتروجين، ويرتبط بزيادة خطر الإصابة بـ"الأمراض المتزامنة" على المدى الطويل.
وتُعرف الأمراض المتزامنة (تزامُن الأمراض) بــمعاناة الأشخاص من مرضين مزمنين أو أكثر في الوقت نفسه، ويؤثر على 27% من البالغين في المملكة المتحدة، في حين يعاني نصف سكان أوروبا على الأقل ممن تبلغ أعمارهم 65 عامًا فأكثر من تزامُن الأمراض.
ولفتت الدراسة إلى وجود ارتباط بين الأمراض العصبية والجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية واضطرابات الصحة العقلية الشائعة مثل الاكتئاب والقلق، لكنها أكدت أن الأمر يتطلب مزيدًا من البحث في هذا النقطة.
أخطار متزايدة
استعان الباحثون ببيانات "البنك الحيوي في المملكة المتحدة"، وهو عبارة عن قاعدة بيانات طبية حيوية واسعة النطاق تحتوي على معلومات وراثية وصحية متعمقة من نصف مليون مشارك في المملكة المتحدة تتراوح أعمارهم من 40 إلى 60 عامًا، وتزداد قاعدة البيانات بانتظام ببيانات إضافية ويمكن للباحثين من جميع أنحاء العالم الوصول إليها لإجراء أبحاث حيوية في أكثر الأمراض شيوعًا والتي تهدد الحياة، وقام الباحثون بتقييم المشاركين المصابين بـ36 نوعًا من الأمراض الجسدية وخمسة أمراض نفسية مزمنة.
وتشير نتائج الدراسة إلى أن "المشاركين الذين تعرضوا لتركيزات أعلى من 10 ميكروجرامات/م3 من الجسيمات الدقيقة يواجهون أخطارًا متزايدةً بنسبة 20% للإصابة بأمراض نفسية وعضوية متعددة طويلة الأجل مقارنةً بالأشخاص الذين يتعرضون لتركيزات أقل من 10 ميكروجرامات/م3.
وأظهرت الدراسة أن المشاركين الذين تعرضوا لأكثر من 30 ميكروجرامًا/م3 من ثاني أكسيد النيتروجين يواجهون زيادة بنسبة 20% في احتمالات تعرُّضهم لخطر الإصابة بحالتين من الأمراض المتزامنة أو أكثر مقارنةً بالمشاركين الذين تعرضوا لتركيزات أقل من 20 ميكروجرامًا/م3 من ثاني أكسيد النيتروجين.
القاتل الصامت
يؤكد مارك أشورت -أستاذ الرعاية الأولية في "كنجز كوليدج لندن"، والمشارك في الدراسة- أن تلوث الهواء يؤثر تأثيرًا قطعيًّا على أنظمة الجسم ويزيد من احتمالية الإصابة بأمراض متعددة طويلة الأجل.
يقول "أشورت" في تصريحات لـ"للعلم": من المعروف أن التعرُّض طويل الأمد لتركيزات تلوث الهواء مرتبط ارتباطًا سلبيًّا بمجموعة واسعة من الأمراض الفردية غير المعدية، ولكن لم يتم التحقق من دوره في الأمراض المتزامنة في المملكة المتحدة، لقد استهدفنا تقييم الارتباطات بين التعرض طويل الأمد لتلوث الهواء والأمراض المتزامنة وشدتها وأنماطها باستخدام بيانات البنك الحيوي في المملكة المتحدة.
يضيف "أشورت": يؤدي التلوث الناتج عن حركة المرور إلى الإصابة بأمراض متعددة، أهمها الرجفان الأذيني، وأمراض القلب التاجية والانسداد الرئوي المزمن (الذي تسبب في 3.23 ملايين حالة وفاة في عام 2019)، وفشل القلب، إضافةً إلى اضطرابات نفسية وعصبية أهمها القلق والاكتئاب والإقدام على تعاطي المخدرات.
ويتابع: اقتصرت الدراسة على تتبُّع الأخطار الناتجة عن ملوثات ثاني أكسيد النيتروجين وجسيمات PM2.5، وهي جسيمات مجهرية يبلغ عرضها 2.5 ميكرون ويقل قطرها 30 مرةً عن قطر شعرة الإنسان، وعندما ترتفع مستويات هذه الجسيمات في الجو تدخل إلى الجهاز التنفسي للإنسان وتنفذ إلى رئتيه، ويطلق عليها القاتل الصامت بسبب خطورتها الشديدة على الرئة والقلب، ما يستوجب مزيدًا من الرقابة على تلك الانبعاثات لحماية البشرية من آثارها القاتلة وأضرارها الرهيبة على الاقتصاد؛ إذ تتطلب معالجتها رصد مبالغ ضخمة يتم توجيهها إلى الرعاية الصحية.
التلوث والانتحار
وردًّا على سؤال مجلة "للعلم" حول ما إذا كان تلوث الهواء الناتج عن حركة المرور قد يؤدي إلى زيادة نسبة الانتحار أو زيادة نسبة الجريمة في الأماكن التي تعاني من هذا التلوث بسبب الأمراض العصبية التي يسببها، يقول "أشورت": لم تتطرق الدراسة إلى هذه النقطة، وهي أمر يستحق الدراسة بالفعل وسبق أن تناولته دراسات أخرى سابقة، فالاكتئاب الناتج عن التلوث قد يصل إلى مراحل متقدمة تؤدي إلى التفكير في الانتحار، وقد يؤدي إلى زيادة معدلات الجريمة.
وتشير دراسة سابقة أجراها باحثون بجامعة كامبريدج إلى وجود ارتباط بين "تلوث الهواء بجسيمات PM2.5 وزيادة معدلات الاكتئاب والانتحار"؛ إذ أوضحت الدراسة التي اعتمدت على تحليل بيانات 684 ألفًا و859 شخصًا لمعرفة أن "التعرض لجسيمات PM2.5 الدقيقة الملوِّثة للهواء له تأثير قوي للغاية على زيادة معدلات الاكتئاب والانتحار".
أرقام صادمة
من جهته، يقول وليد هندي، استشاري الصحة النفسية: "إن تقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2016 ذكرت أن 58% من حالات الوفاة المبكرة الناجمة عن تلوث الهواء الخارجي كانت بسبب مرض القلب الإقفاري والسكتة الدماغية، و18% من حالات الوفاة المبكرة الناتجة عن تلوث الهواء كانت بسبب الانسداد الرئوي المزمن، وعدوى الجهاز التنفسي السفلي، بينما كان سرطان الرئة وراء 16% من حالات الوفاة المبكرة".
يقول "هندي" في تصريحات لـ"للعلم": تلك الأرقام الصادمة يجب أن تحفز صانعي السياسات حول العالم إلى إيجاد حلول للحد من التلوث من خلال إصدار تشريعات مغلظة وعقوبات رادعة لكل الهيئات والشركات والمصانع التي تسبب التلوث، بالإضافة إلى إنشاء التجمعات الصناعية في أماكن بعيدة عن الحيز العمراني، وتوفير مصادر بديلة للطاقة.
بدوره، يتفق جمال فرويز -استشاري الطب النفسي والمخ والأعصاب- مع ما ذهبت اليه الدراسة، مضيفًا في تصريحات لـ"للعلم": يؤثر التلوث على المخ والأعصاب، ويؤدي إلى ظهور أمراض عقلية وعصبية بنسب عالية جدًّا في بعض المناطق الأكثر تشبعًا بالملوثات، وهي المناطق الأكثر فقرًا، وفي هذه المناطق لا يتم اللجوء إلى الطب النفسي كثيرًا، وهو ما يؤدي إلى استفحال تلك الأمراض.