سؤال وجواب: كيف ننقذ أشجار العصور السحيقة في اليمن؟
دورية Nature
2022-11-01 07:21
عام 1999، انضم كَاي فان دام إلى بعثة أمميّة من خبراء متعددي التخصصات، انطلقت إلى أرخبيل سقطرى، الذي يتألف من مجموعة من الجزر اليمنية في بحر العرب، بهدف استكشاف أنظمة الماء العذب البيئية فيها. وتأثرًا بالتنوّع الحيوي الغني الفريد الذي وجده هناك، بدأ فان دام إدارة أنشطة بعثات سنوية إلى بحيرات جوفية في جزيرة سقطرى، كبرى جزر الأرخبيل، وإلى أنظمتها البيئية المائية والبرية الواقعة فوق سطح الأرض.
وفي عام 2010، نال من «جامعة جِنت» البلجيكية شهادة دكتوراه في العلاقات التطورية التي تجمع بين قشريّات المياه العذبة في تلك المنطقة. وعلى مرّ السنين، مع مواجهة الجزيرة لتحديات بيئيةَ ناجمة عن التغيّر المناخي، واشتعال حربَ أهلية بها منذ عام 2014، أخذ فان دام يسخّر ما اكتسبه من معارف ليحمي من الانقراض الحشرات المائية والسرطانات، إضافة إلى الأشجار المذهلة بتلك المنطقة. وعلاوة على عمل فان دام الميداني البيئي في سقطرى، حيث يتعاون مباشرة مع أهالي المنطقة، فإنه يعمل باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراه لدى «جامعة جِنت» وكذلك لدى «جامعة مندل» في مدينة بِرنو التشيكية.
ما الذي يميِّز سقطرى بشدة عن غيرها؟
إن ما يتمتع به أرخبيل سقطرى من ثراء في التنوع الحيوي، هو حصيلة عمليات تطور جرت بمعزل عن غيرها من العمليات على مدار ملايين السنين. فهذا الأرخبيل كان قد انفصم عن جنوبي جزيرة العرب خلال العصر الميوسيني (الذي امتد قبل فترة تتراوح ما بين 23 مليون سنة إلى 5 ملايين سنة مضت). ونحو 37% من أنواعه النباتية، و90% من زواحفه، و98% من حلزوناته البريّة لا وجود له في أي بقعة أخرى. كما أن هذه المنطقة هي الوحيدة بين ما أُدرج في لائحة اليونسكو للتراث العالمي من مواقع طبيعية يمنية. وقد أُضيفت إلى اللائحة في عام 2008.
جدير بالذكر، أنه كثيرًا ما يُشار إلى الجزر على أنها "مختبرات من العالم الحي لعمليات التطوّر الأحيائي". لذا، فمن الأهمية بمكان دراسة جزيرة سقطرى لخدمة علمي التاريخ الطبيعي والجغرافية البيولوجية. كما أن فهم الكيفية التي استمر بها بقاء عدد من الأنواع المعرضة بدرجة كبيرة للانقراض، من الطيور والنباتات واللافقريّات المتوطنة في هذه الجزر، قد يساعدنا في إنقاذ أنواع حية في بقاع أخرى.
كيف تغيّرت طبيعة عملك الميداني؟
كان لتجاربي المستمرة مع الطبيعة المذهلة في تلك المنطقة، وتواصلي مع سكّان جزرها أثرٌ كبير في نفسي. على سبيل المثال، الغابة الوحيدة المتبقية في العالم من أشجار دم الأخوين (Dracaena cinnabari) ذات الشكل المظلّي هناك، تبدو وكأنها من عالم آخر؛ وهي من بقايا العصور الميوسينية التي شهدت انتشارًا أوسع لهذا النوع من الأغطية النباتية في مختلف أرجاء العالم. وهنا، يجد المرء مزيجًا غريبًا بين المعالم الجيولوجية التليدة والحديثة، بدءًا من الجبال الجرانيتية، إلى الكثبان الرملية الساحلية، وكهوف الحجر الكلسي الضخمة؛ وكلٌّ منها يُؤوي أشكالًا فريدة من الكائنات المهددة بالانقراض.
وعندما أرى طابع التنوّع الحيوي الفريد الذي يميِّز سقطرى وكم أنه هش في مواجهة تأثيرات التغيّر المناخي، أشعر بأن مسؤولياتي قد تعاظمت لتشمل مهام أخرى بخلاف استكشاف الأنواع الحية ووضع تصنيفاتها. وقد واءمت بين جهودي تدريجيًا لتنصب جميعها على حفظ التنوّع الحيوي، واتجه عملي الميداني بدرجة أكبر إلى اتباع خطى استراتيجية، ممثلة في إجراء مسوح ميدانية تتقصى التنوع الحيوي بالمنطقة، بهدف تقييم الأخطار التي تتهدّد الأنواع المتوطّنة فيها. كما أساعد الوكالة اليمنية لحماية البيئة في وضع خطط حماية البيئة، بما في ذلك تأسيس المناطق المحمية وتحسينها. كذلك ندير أنشطة في المدارس ونتعاوُن مع سكّان سقطرى الأصليّين، لضمان تبنّي المجتمع المحلي هناك لمساعيَ حماية البيئة، ونناقش في الوقت نفسه مخاوفهم المتعلقة بالبيئة ووطأة التغيّر المناخي.
ما الأنواع التي ينصب عليها تركيز جهودك البحثية؟ ولًم تتناولها تحديدًا؟
بوصفي أحد الباحثين الرئيسَيينِ الذين يتشاركون إدارة مشروعٍ لحماية البيئة تموّله «مؤسسة فرانكلينيا» Franklinia، الواقع مقرّها في جنيف بسويسرا، أعمل مع زملاء من سقطرى وجامعة مندل وجامعة روما سابينزا على حماية أشجار دم الأخوين وعشرة أنواع متوطّنة من شجر اللُّبان Boswellia. كما أرأس في الوقت نفسه مجلس جمعية خيرية مقرّها المملكة المتحدة، تُسمى «أصدقاء سقطرى،»Friends of Soqotra ، تُعني بإدارة مشروعات لحفظ التنوّع الحيوي وللتوعية البيئية في سقطرى. وبمساعدة المجتمعات المحلية شماليّ سقطرى، أعدنا زراعة أشجار الأيكة الساحلية Avicennia marina التي كانت قد اختفت من الجزيرة قبل عقود. كما تنصب جهودي على دراسة حشرة مذهلة من رتيبة مقترنات الأجنحة، تُسمى اليعسوب الأزرق السقطري Azuragrion granti، وعلى سرطان مياه عذبة ذي ألوان زاهية من نوع Socotrapotamon socotrensis، وكلاهما مُدرج في القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض التي يصْدرها الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة.
ما أكبرُ المخاطر التي تتهدّد هذه النظم البيئية؟
رعي الماعز الجائر للنباتات في المنطقة، وغياب التقنيات التقليدية اللازمة لإدارة استخدام الأراضي، وكبح تأثيرات التغيّر المناخي. أما الأعاصير الشديدة، وحالات الجفاف في سقطرى، فيؤثران في النظم البيئية البريّة والمائية معًا. على سبيل المثال، كانت الأعاصير قد دمّرت مساحات واسعة من غابات أشجار اللّبان، وأشجار دم الأخوين الفريدة عامي 2015 و2018. كذلك نجد من بين المخاطر التي تهدد مخلوقات المياه العذبة: القحط، والانهيارات الأرضية الناجمة عن تناقص الغطاء النباتي، والتلوّث، والمخلوقات الدخيلة الغازية، التي تشمل على سبيل المثال، سمكة الجرو العربية Aphanius dispar.
والحل الأكثر فاعلية لدرء هذه التهديدات يكمن في انخراط المجتمعات المحلية بصورة فعلية في إدارة جهود الحفاظ على الطبيعة. فمع كل شجرة يتسبب المناخ في سقوطها، ينبغي للعلماء أن يتعاونوا مع السكّان المحليّين لزراعة شجرة أخرى بدلًا منها.
كيف اكتسبت ثقة مجتمعات المنطقة؟
أعمل بطبيعة الحال مع الفريق المحلي الذي يواصل العمل الميداني. كما أتعاون مع أهالي سقطرى الذين يملكون أراضي بالمنطقة. وأولي احترامًا كبيرًا لمعرفتهم البيئية الواسعة. وتجْمعنا بهم نقاشاتٌ طويلة في أثناء زياراتنا، نسألهم خلالها عن الجهود المطلوبة. ففي سقطرى، لم يُمارس العمل البيئي قط بصورة أفضل من تلك التي زاولها أهالي سقطرى على مدى قرون طويلة من الزمن. على سبيل المثال، من خلال درايتهم بجودة بخور شجر اللّبان ووقت إزهارها، أرشدونا إلى أنواع جديدة هجينة منها. ويعتني بمشتل أشجار اللّبان اليافعة الخاص بنا امرأةٌ سقطرية مسنّة تدعى مُنى، تتمتع بالخبرات التي توارثها أهالي المنطقة في العناية بمثل هذه الشتلات.
كيف تأثر عملك الميداني بالحرب الأهلية الدائرة؟
ظلّت سقطرى آمنة نسبيًّا للعمل الميداني مقارنة ببرّ اليمن الرئيس، بيد أن المشهد السياسي بالبلد متقلّب ومعقّد. وهذا يتطلّب منا التمتع بالمرونة عند مناقشة قضايا العمل البيئي مع صنّاع القرار المحليّين، الذين يُستبدلون أكثر من مرة خلال المشروع الواحد.
نعمل باستمرار على تقييم المخاطر المرتبطة بأنشطتنا، وعلى الإبقاء على تواصل يتسم بالشفافية بين أعضاء فريق البحث من جهة، والمجتمعات المحلية وزعمائها من جهة أخرى، فيما يخص مراحل عملنا، والغرض من وجودنا في تلك البقعة. وفي ظروف مثل تلك، ينبغي للعلماء أن يكونوا على دراية ممتازة بطبيعة تضاريس المنطقة وأحوالها الجوية، مع تلافي خوض مجازفات غير ضرورية، والتحقق من حين لآخر من سلامة سير العمل بمكالمات عبر الجوال.
هل ثمة نصيحة تسديها إلى العلماء المتخصصين في العمل البيئي ممن في مقتبل مسيرتهم المهنية؟
لزعماء المجتمعات المحلية سلطةُ تسهيل العمل البيئي الميداني أو إعاقته. ولا يعطي جميع هؤلاء الزعماء الأولوية لحفظ الطبيعة. لذا، لديّ بعض النصائح العملية لبناء ثقة متبادلة وشراكات طويلة الأمد معهم: احرصوا على التواصل المستمر معهم، واحترموا ثقافتهم ومعارفهم البيئية، وتعاونوا معهم على حماية مصالح سكان المنطقة، لا سيما في أثناء الكوارث الطبيعية.
هل وقعتم على أي اكتشافات غير علمية عن سقطرى؟
لامس سكّان سقطرى شغاف قلبي. فالود وحسن الضيافة جزء أساسي من ثقافتهم. وهم يتحدّثون إحدى اللغات السامية المهددة بالزوال، وهي لغة صمدت في وجه تقلّبات الزمن بفضل التقاليد المحكيّة، مثل الشعر والأغاني. كما أنهم خطباء مفوّهون ويستخدمون الفكاهة في التواصل فيما بينهم. وقد جلبت والدَيّ إلى سقطرى لأريهما ما خطف فؤادي بها، فتفهما مشاعري.