أصبحنا جميعا لاجئين فارين من المناخ الآن
بروجيكت سنديكيت
2018-08-05 06:49
جيفري د. ساكس
نيويورك ــ لقد عَبَر الإنسان الحديث، الذي ولِد في عصر مناخي يُسَمى الهولوسين، الحدود إلى عصر مناخي آخر يحمل مسمى الأنثروبوسين. ولكن بدلا من أنبياء يقودون البشرية في هذه البرية الجديدة المحفوفة بالمخاطر، تتقدم حاليا عصابة من منكري العِلم والملوثين لتضليل البشرية وقيادتها إلى خطر متعاظم. والآن، نحن جميعا لاجئون فارون من المناخ ويتعين علينا أن نرسم طريقا إلى السلامة والأمان.
كان الهولوسين عصرا جيولوجيا بدأ قبل أكثر من عشرة آلاف عام، حيث توفرت الظروف المناخية المواتية التي دعمت الحضارة الإنسانية كما نعرفها. والأنثروبوسين عصر جيولوجي جديد تحيط به ظروف بيئية لم تشهد البشرية مثلها من قَبل قَط. وما ينذر بالسوء أن درجة حرارة الأرض أصبحت الآن أعلى مما كانت عليه خلال عصر الهولوسين، بسبب غاز ثاني أكسيد الكربون الذي أطلقته البشرية إلى الغلاف الجوي بإحراق الفحم والنفط والغاز، وتحويل غابات العالَم وأراضيها المعشوشبة بلا تمييز إلى مزارع ومراع.
في هذه البيئة الجديدة يعاني الناس ويموتون، والقادم أسوأ كثيرا. إذ تشير التقديرات إلى أن إعصار ماريا حصد أرواح أكثر من 4000 شخص في بورتوريكو في شهر سبتمبر/أيلول الماضي. وأصبحت الأعاصير الشديدة أكثر تكرارا، وتتسبب العواصف الكبرى في المزيد من الفيضانات بسبب تزايد انتقال الحرارة من المياه المتزايدة الدفء في المحيطات، وارتفاع نسبة الرطوبة في الهواء الذي أصبح أكثر دفئا، وارتفاع مستويات سطح البحر ــ وكل هذا أصبح أكثر شِدة وتطرفا بفِعل تغير المناخ الناجم عن أفعال البشر.
في الشهر الماضي فقط لقى أكثر من تسعين شخصا حتفهم في ضواحي مدينة أثينا بسبب حرائق الغابات المدمرة التي أشعل شرارتها الجفاف ودرجات الحرارة المرتفعة. وتستعر حرائق الغابات الضخمة على نحو مماثل هذا الصيف في مواقع أخرى ساخنة أصبحت جافة حديثا، بما في ذلك كاليفورنيا، والسويد، وبريطانيا، وأستراليا. وفي العام الماضي شهدت البرتغال دمارا كبيرا. وفي مختلف أنحاء العالَم تُسَجَّل هذا الصيف درجات حرارة قياسية غير مسبوقة.
تُرى كيف بلغت البشرية هذا الحد من التهور الذي جعلها تتجاوز حدود الهولوسين، في تجاهل كامل لكل إشارات التحذير الواضحة ــ على نحو أشبه بتصرف شخصية في فيلم رعب؟ في عام 1972، اجتمعت حكومات العالَم في مدينة ستوكهولم لمعالجة التهديدات البيئية المتنامية. وفي الفترة التي سبقت انعقاد المؤتمر، نشر نادي روما دراسة بعنوان "حدود النمو"، التي قدمت لأول مرة فكرة مسار النمو "المستدام" ومخاطر تجاوز حدود البيئة. وبعد مرور عشرين عاما، ومضت إشارات التحذير ساطعة في ريو دي جانيرو، حيث اجتمعت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في قمة الأرض لتبني مفهوم "التنمية المستدامة" والتوقيع على ثلاث معاهدات بيئية كبرى لوقف الانحباس الحراري الكوكبي الناجم عن أفعال البشر، وحماية التنوع البيولوجي، ووقف تدهور الأراضي والتصحر.
بعد عام 1992، تجاهلت الولايات المتحدة، الدولة الأقوى في العالَم، المعاهدات الثلاث الجديدة بشكل صارخ، فأشارت بهذا إلى دول أخرى بأنها أيضا تستطيع أن تخفف من جهودها في هذا الصدد. وقد صَدَّق مجلس الشيوخ الأميركي على معاهدات المناخ والتصحر لكنه لم يفعل أي شيء لتنفيذها، بل إنه رفض حتى التصديق على معاهدة لحماية التنوع البيولوجي، وهو ما يرجع جزئيا إلى أن الجمهوريين في الولايات الغربية أصروا على احتفاظ ملاك الأراضي بحق التصرف في أملاكهم كما يحلو لهم دون تدخل دولي.
في وقت أقرب إلى الحاضر، تبنى العالَم أهداف التنمية المستدامة في سبتمبر/أيلول من عام 2015 ثم اتفاق باريس بشأن المناخ في ديسمبر/كانون الأول 2015. غير أن حكومة الولايات المتحدة تجاهلت عامدة مرة أخرى أهداف التنمية المستدامة، لتحتل المرتبة الأخيرة بين دول مجموعة العشرين في ما يتعلق بجهود التنفيذ من قِبَل الحكومة. وقد أعلن الرئيس دونالد ترمب اعتزامه سحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ في أقرب وقت ممكن، بحلول عام 2020، بعد أربع سنوات من بدء سريان الاتفاقية.
والأسوأ آت. ذلك أن ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون بفِعل أنشطة بشرية لم يبلغ بعد تأثيره الكامل في ما يتصل بالانحباس الحراري الكوكبي، وذلك نظرا لتأخر تأثيره على درجات حرارة المحيطات بشكل كبير. ومن المنتظر أن نشهد ارتفاعا في درجات الحرارة بنحو نصف درجة مئوية أخرى أو ما إلى ذلك على مدار العقود المقبلة، استنادا إلى تركيز ثاني أكسيد الكربون حاليا في الغلاف الجوي (408 جزءا في المليون)، وربما نشهد قدرا أعظم كثيرا من الانحباس الحراري إذا استمرت تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الارتفاع مع تواصل الأساليب المعتادة والاستمرار في إحراق الوقود الأحفوري. ولتحقيق أهداف اتفاق باريس التي تتمثل في الحد من زيادة درجات الحرارة بما "يقل كثيرا عن درجتين مئويتين" نسبة إلى مستويات ما قبل الصناعة، فإن العالَم يحتاج إلى التحول بشكل حاسم بعيدا عن الفحم والنفط والغاز ونحو الطاقة المتجددة بحلول عام 2050 تقريبا، ومن إزالة الغابات إلى استزراع الغابات واسترداد الأراضي المتدهورة.
لماذا إذن يواصل البشر الانغماس بحماقة في ممارسات تدفعهم إلى مأساة مؤكدة؟
السبب الرئيسي هو أن مؤسساتنا السياسية وشركاتنا العملاقة تتجاهل عامدة متعمدة المخاطر والأضرار المتصاعدة. فالسياسة تدور حول اكتساب السلطة وزخارف المنصب وامتيازاته والاحتفاظ بكل هذا، وليس حل المشاكل، حتى وإن كانت مشاكل بيئية تتعلق بالحياة والموت. كما تدور مسألة إدارة شركة كبرى حول تعظيم القيمة لصالح المساهمين، وليس حول ذِكر الحقيقة أو تجنب إلحاق ضرر كبير بكوكب الأرض. ويملك المستثمرون الباحثون عن الربح وسائل الإعلام الكبرى، أو على الأقل يفرضون نفوذهم عليها من خلال مشترياتهم من المساحات الإعلانية. وعلى هذا فإن مجموعة صغيرة للغاية من البشر، ولكنها بالغة القوة، تحرص على الإبقاء على نظام الطاقة القائم على الوقود الأحفوري على الرغم من الخطر المتنامي الذي يفرضه هذا على بقية البشرية اليوم وفي المستقبل.
ويُعَد ترمب أحدث أحمق مفيد حريص على تنفيذ رغبات الملوثين، بتحريض من الجمهوريين في الكونجرس، الذين يمولون حملاتهم الانتخابية بالاستعانة بمساهمات من جناة بيئيين مثل كوخ إندستريز. وقد ملأ ترمب حكومة الولايات المتحدة بأفراد ينتمون إلى جماعات الضغط في مجال الصناعة، والذين يعملون بشكل منهجي على تفكيك كل الضوابط التنظيمية البيئية التي يمكنهم الوصول إليها. ومؤخرا، رشح ترمب محاميا سابقا يعمل لصالح شركة ملوثة كبرى، "داو كيميكال"، لقيادة برنامج تنظيف السموم والاستجابة البيئية الشاملة التابع لهيئة حماية البيئة.
الواقع أننا في احتياج إلى نوع جديد من السياسة يبدأ بهدف عالمي واضح: السلامة البيئية من أجل سكان كوكب الأرض، من خلال الوفاء باتفاق باريس للمناخ، وحماية التنوع البيولوجي، وخفض التلوث الذي يقتل الملايين من البشر كل عام. وسوف تستمع السياسة الجديدة لخبراء العِلم والتكنولوجيا، وليس قادة الأعمال والساسة النرجسيين الذين لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية. يعمل علماء المناخ على تمكيننا من قياس المخاطر المتنامية. وينبئنا المهندسون بالكيفية التي يمكننا من خلالها تحقيق التحول السريع، بحلول عام 2050، إلى طاقة خالية تماما من الكربون. كما يوضح لنا علماء البيئة والمهندسون الزراعيون كيف نزرع محاصيل أكثر وأفضل على مساحات أقل من الأرض مع العمل على إنهاء إزالة الغابات واستعاد الأراضي المتدهورة سابقا.
إن مثل هذه السياسة ممكنة. بل إن جماهير الناس تتوق إليها. على سبيل المثال، تريد الأغلبية العظمى من الشعب الأميركي مكافحة الانحباس الحراري الكوكبي، والبقاء في اتفاق باريس للمناخ، وتبني الطاقة المتجددة. ومع ذلك، ما دامت نخبة ضيقة الأفق وجاهلة تحكم على الأميركيين وبقية البشر بأن يهيموا على وجوههم بلا هدف في صحراء سياسية جرداء، فسوف تنتهي بنا الحال جميعا في الأرجح إلى أرض قاحلة لا سبيل إلى الفرار منها.