أوروبا وأزمة الغاز التالية
بروجيكت سنديكيت
2023-03-09 06:42
بقلم: إدواردو كامبانيلا
ميلانو ــ تستطيع أوروبا الآن أن تتنفس الصعداء ــ في الوقت الحالي. فبفضل الشتاء المعتدل بدرجة استثنائية واستراتيجية جيدة التصميم لفرض تدابير تنويع العرض وخفض الاستهلاك، تجنبت القارة أزمة طاقة كارثية محتملة بعد غزو روسيا لأوكرانيا. تبلغ سعة تخزين الغاز غير المستغلة في أوروبا الآن نحو 60% ــ أعلى بنحو عشر نقاط مئوية من المتوسط التاريخي لهذا الوقت من العام ــ كما انخفض سعر مرفق نقل الـمِـلكية القياسي بأكثر من 85% من الذروة التي بلغها في أغسطس/آب، من 340 يورو لكل ميجا واط ساعة (360 دولارا/ميجا واط ساعة) إلى أقل من 50 يورو/ميجا واط ساعة.
لكن هذا الحظ السعيد لا يجب أن يقودنا إلى الشعور بالرضا عن الذات. فلا يزال خطر إعادة التسعير في الأشهر المقبلة قائما، وهو ما قد يؤثر بشكل كبير على فواتير الطاقة التي تتحملها الشركات والأسر. ومن المرجح أن يصبح إحكام أسواق الغاز الأوروبية أكثر وضوحا مع اقتراب فصل الصيف، وهو ما قد يدفع الأسعار مرة أخرى نحو 100 يورو/ميجا واط ساعة أو حتى أعلى. ولم تنته بعد معركة البنك المركزي الأوروبي ضد التضخم.
على الرغم من تعقيد وضع الطاقة في أوروبا، فمن الممكن فهمه بالاستعانة ببعض العمليات الحسابية البسيطة نسبيا. قبل الغزو الروسي، كان استهلاك الغاز الطبيعي في أوروبا يقل قليلا عن 500 مليار متر مكعب سنويا. أضف الغاز المخزن اليوم (المرتفع بدرجة غير عادية)، والإنتاج المحلي، والواردات الحالية من كل من الغاز الطبيعي والغاز الطبيعي الـمُـسال (بما في ذلك من روسيا)، فيصبح المجموع 440 مليار متر مكعب. وعلى هذا فإن أوروبا ستحتاج إلى خفض استهلاكها أو زيادة وارداتها من الغاز الطبيعي الـمُسال بمقدار 60 مليار متر مكعب لسد الفجوة بين العرض والطلب.
لكن الحديث عن هذه الاستراتيجية أسهل من تنفيذها فعليا. فعلى الرغم من تمكن أوروبا من خفض استهلاكها من الغاز إلى ما يقرب من 430 مليار متر مكعب في عام 2022 (أقل من المستوى في عام 2021 بنحو 13%)، فقد لعب الطقس الدافئ في غير حينه دورا أساسيا في هذا، وكان التباين كبيرا بين البلدان. فنجد أن إسبانيا، التي تستفيد من قلة تعرضها للغاز الروسي، لم تخفض استهلاكها إلا بشكل طفيف، في حين خفضت فرنسا وإيطاليا الاستهلاك بدرجة أقل من المتوسط الأوروبي. على النقيض من ذلك، خفضت ألمانيا وهولندا بدرجة أكبر، مع تقليل استهلاكهما بنحو 20% مقارنة بعام 2021.
بافتراض عودة أنماط الطقس إلى طبيعتها النسبية في الشتاء المقبل، يتعين على الحكومات الأوروبية أن تسعى إلى خفض استهلاكها بنحو 10% عن المستويات في عام 2021 للإبقاء على الإجمالي عند مستوى أقل من 450 مليار متر مكعب. ورغم أن الاتحاد الأوروبي حدد هدفا طوعيا بنسبة 15% في العام الماضي، فإن هذا ما كان ليتحقق لولا الطقس الذي كان حارا بدرجة غير طبيعية. وهذا يعني أن هدف خفض الاستهلاك بنسبة 10% أكثر واقعية.
سيأتي التخفيض جزئيا من صناعات مثل المواد الكيميائية، والمعادن، والزجاج، التي تستخدم الغاز الطبيعي بشكل مكثف والتي خلف عليها عام 2022 بعض الندوب. في ذات الوقت، سوف تحافظ الشركات والأسر الأوروبية في الأرجح على ممارسات توفير الطاقة الحكيمة التي تبنتها، وسوف تظل أسقف الاستهلاك الإلزامية (كتلك المفروضة على التدفئة السكنية) قائمة في الأرجح. إذا كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن يتسنى سد 50 مليار متر مكعب من فجوة العجز التي تبلغ 60 مليار متر مكعب من خلال خفض الاستهلاك.
وسوف يتطلب سد فجوة العجز المتبقية (10 مليار متر مكعب) أن تستورد أوروبا المزيد من الغاز الطبيعي الـمُـسال من موردين عالميين. وفقا لهيئة الطاقة الدولية، من المتوقع أن يزداد الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي الـمُـسال في عام 2023 بنحو 23 مليار متر مكعب. لكن هذا يعني أن أوروبا ستحتاج إلى الحصول على ما يقرب من نصف إجمالي هذه الزيادة. وبما أنها ستجد نفسها في منافسة شرسة مع اقتصادات آسيا المتعافية ــ وخاصة الصين ــ فمن المرجح أن يتسبب الطلب على الغاز الطبيعي الـمُـسال في دفع سعر مرفق نقل الملكية فوق المستويات الحالية، ليصبح الحد الأدنى عند مستوى يقرب من 80 يورو/ميجا واط ساعة.
وسوف تزداد صعوبة الموقف إذا توقفت واردات الغاز الطبيعي والغاز الطبيعي الـمُـسال من روسيا تماما، وهو الاحتمال الذي يظل واضحا. في مجمل الأمر، يبلغ حجم هذه الشحنات حاليا نحو 45 مليار متر مكعب (20% فقط من مستويات ما قبل الحرب). وإذا اقترن هذا بالعجز الذي يبلغ 10 مليارات متر مكعب، فسوف تؤدي خسارة العرض على هذا النحو إلى خلق فجوة تقدر بنحو 55 مليار متر مكعب، وهذا أكثر من ضعف الزيادة المتوقعة في الإمداد العالمي من الغاز الطبيعي الـمُـسال. ولأن جزءا بسيطا فقط من الغاز الروسي يمكن تحويله بعيدا عن أوروبا وبيعيه في الأسواق الدولية، فسوف يكون المعروض في سوق الغاز الطبيعي الـمُسال العالمية ناقصا بشدة. في هذا السيناريو، سيُـدفَـع بسعر مرفق نقل الملكية إلى ما يتجاوز 100 يورو/ميجا واط ساعة ــ أكثر من عشرة أمثال السعر قبل الحرب ــ وقد تضطر الحكومات إلى اللجوء إلى التقنين.
علاوة على ذلك، حتى لو كان المعروض العالمي من الغاز الطبيعي الـمُـسال كافيا، فسوف تظل أوروبا مفتقرة إلى القدرة اللازمة لإعادة تحويل الغاز الـمُـسال إلى حالته الغازية. إذ أنها ستضطر إلى معالجة نحو 190 مليار متر مكعب في مثل هذا السيناريو المتطرف، لكن قدرتها الحالية تبلغ نحو 157 مليار متر مكعب (وإن كان المزيد من المرافق قيد الإنشاء). بطبيعة الحال، إذا كان خفض الاستهلاك أقل من 10%، فسوف يكون نقص الغاز أعلى بدرجة كبيرة، مما يخلق ضغوطا أكثر حدة تدفع الأسعار إلى المزيد من الارتفاع.
مع ذلك، من غير المرجح أن تتجاوز أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا 200 يورو/ميجا واط ساعة لثلاثة أسباب (بخلاف حقيقة أن الاتحاد الأوروبي حدد سقفا للسعر لا يتجاوز 180 يورو/ميجا واط ساعة). أولا، كانت الأسعار المرتفعة العام الماضي راجعة جزئيا إلى نقص الاستعداد لمثل هذه الصدمة غير المسبوقة. فمقارنة بعام مضى، أصبحت أوروبا في موقف أقوى كثيرا للتعامل مع نقص الغاز. ثانيا، ستساعد عمليات الشراء المشتركة للغاز الطبيعي على مستوى الاتحاد الأوروبي في السيطرة على الأسعار، نظرا لقوة التفاوض الهائلة التي تتمتع بها الكتلة باعتبارها أكبر سوق منفردة على مستوى العالم.
ثالثا، يعكف الاتحاد الأوروبي حاليا على إدخال معيار أسعار خاص به لعقود الغاز الطبيعي الـمُـسال. في الوقت الحالي، ترتبط أسعار الغاز الطبيعي الـمُـسال في أوروبا بسعر مرفق نقل الملكية، والذي يتأثر بشكل مباشر بارتباكات تدفق الغاز الطبيعي إلى القارة. لكن المعيار الجديد سيجعل أسعار الغاز الطبيعي الـمُـسال في أوروبا أكثر استجابة للديناميكيات في سوق الغاز الطبيعي الـمُـسال العالمية مقارنة بتسليم الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب.
على الرغم من تقلص دور روسيا كمورد للغاز إلى أوروبا بشكل كبير، فإن شحناتها ستظل تشكل ضرورة أساسية لإيجاد التوازن بين العرض والطلب في السوق الأوروبية إلى أن يتسنى بناء المزيد من قدرات إعادة تحويل الغاز الـمُـسال إلى حالته الغازية، أو إلى أن تُـطـرَح مصادر بديلة للطاقة. لا شك أن الغاز الطبيعي الـمُـسال أصبح أكثر أهمية في خليط الطاقة الأوروبي مقارنة بما كانت عليه الحال قبل بضع سنوات فقط؛ ولكن مقدار الإغاثة الذي يمكنها توفيره محدود. سوف تظل آليات خفض الاستهلاك والتضامن (في حالة النقص الشديد في العرض) ضرورية لتجنب أزمة الطاقة في الشتاء المقبل.