تاجر البندقية وزبون المعرفة العراقي
مسلم عباس
2020-02-19 04:45
ما تزال مسرحية تاجر البندقية عالقة في ذهني، وربما اذهان عشرات الالاف من الشباب العراقي باعتبارها المسرحية الأشهر والأكثر التصاقا بحياتهم في أخطر مراحلهم العمرية، فهي معروفة ليس لجاذبيتها، وليس لطريقة الكاتب في استعراض مشاهدها، وانما بحجم الخوف الذي تولده لدى الشاب العراقي، انها الصخرة الكبيرة التي وقفت عقبة امام تحقيق أحلام الشباب لعبور مرحلة الثانوية الى الجامعة.
كان علينا ان نقرأ هذه المسرحية ككتاب منهجي في الصف السادس الاعدادي، وان نحفظ جميع كلماته، وان نتوقع أسئلة ملتوية ما يدفعنا لاستكشاف المجهول عبر الاستعانة بالتدريس الخصوصي، واللجوء الى الأسئلة المحلولة للسنوات السابقة لعلنا نستطيع الحصول على درجة تمككننا من تحصيل درجة نعبر بها الى المرحلة الجامعية.
عندما تبحث عن هذه المسرحية في مواقع الانترنت تجدها جميلة وتستحق القراءة، لكن المنهجية التعليمية حولتها الى كابوس يلاحق الطلاب، فاصبحت غير محبذة للقراءة، والأكثر اثارة للشفقة انها زادت من القطيعة بين الطالب والكتاب، فاذا كان كاتب مثل وليم شكسبير لم يستطع ان يجذب الطلاب الى مسرحياته فمن يمكنه ان يقوم بهذه المهمة؟
خشبة المسرح الفاشل
المشكلة ليست بالكاتب، انما في تحويل كل شيء الى كتاب منهجي يخصع لقواعد الامتحان الصارمة ما يجعل الطالب يفكر به باعتباره عقبة تمنعه من العبور للمرحلة اللاحقة وليس مادة يمكنه ان يستفيد منها او يستمتع في مشاهدها لتدفعه في النهاية الى قراءة المزيد من الكتب المشابهة، وهذه الطريقة في التدريس تقتل العقلية الإبداعية لدى الطلبة فهم لا ينظرون الى الكتب الا باعتبارها عقبة امام تحقيق احلامهم لا سيما وانها _نتيجة طريقة التدريس_ لا تقدم لهم أي شيء من المتعة او المعرفة النافعة في حياتهم اليومية.
هذه المسرحية التي تحولت الى كتاب منهجي صارم، هي المثال الابرز لطريقة تحويل المادة التشويقية في الصفوف الدراسية الى أسئلة واجوبة مطلوب من الطالب العراقي الإجابة عليها في امتحان الباكالوريا، وعليه ان يحصل على درجات كاملة حتى يختار الكلية التي يريديها او يذهب الى ما تفرضه عليه نتيجة الترشيح الوزراري.
هنا في هذه النقطة تنحو المدرسة الى عالم مختلف، عالم لا ينتمي الى عالم الطلاب، عالم معقد ومجرد وغير نافع، فالمدارس يفترض انها تنمي ملكة القراءة لدى الطالب، لا ان تضع الحواجز امامه، وتزرع بذورة الكراهية بينه وبين الكتاب، حب استكشاف الجديد ودخول عالم القراءة هي المهمة الأساسية للمدرسة، فالجيل الذي يتعلم مهارات القراءة للكتب العظيمة يمكنه ان يكون جيلا عظيما، اما عملية اختزال الإنتاج الثقافي والادبي في أسئلة وزارية محبطة للطلبة يمكن ان تقلب الطاولة على المجتمع وتؤسس لممارسة حمية معرفية تضعف جانب المطالعة اليومية فينا، فمسرحيات شكسبير هي مثال صغير من عالم كبير من الأخطاء التي مرت بها العملية التربوية في العراق، كما هو الحال أيضا في التدريس الجامعي، فالمعرفة الاكاديمية هنا منفصلة عن الواقع الذي نعيشه، والطالب لا يشعر بأي صلة سوى بينه وبين الكتاب، وما يدفعه لاكمال الدراسة هو الحصول على لقب "خريج جامعي" والامل في الحصول على وظيفة حكومية، وبما ان الشهادة الجامعية صارت امراً معتادا وغير جذاب فقد نجد في السنوات المقبل عزوفا عن الدخول في الجامعات من قبل الطلبة الذي شهروا سيف الاعتراض على كل ما له علاقة بالمعرفة.
الطلاب اليوم يسيطرون على التظاهرات التي خرجت منذ شهر تشرين الأول عام 2019 وحتى الان، وهم لا يعترفون بعد الان بالتعليم الذي تقننه الحكومة، واعلنوا تمردهم عليه عبر الاضراب الطلابي الذي استمر لمدة أربعة اشهر، ورغم ما في الاضراب من جوانب سياسية الا ان التعليم لو كان على مستوى من الهيبة والاحترام لدى هؤلاء الطلبة لما تركوه لمدة أربعة اشهر، ولما هددوا المؤسسات التعليمية والتربوية بمختلف التهديدات واجبروها على اتخاذ قرارات تتناسب مع ما يطالبون به.