الاقتصاد والتنمية والديموقراطية والنسَق السياسي المُغلَق في العراق
د. عماد عبد اللطيف سالم
2025-09-25 03:36
"النَسَق" ORDER هو مجموعة من "العناصر" لها "نظام" مُعيّن SYSTEM.. وهذه "العناصر" ترتبط وتتفاعل فيما بينها، وتعمل معاً، وتعتَمِد على بعضها البعض، لكي تؤدي "وظيفة" معينة تعمل على تحقيق "هدفٍ" ما.
في "النسق المُغلق" للديموقراطية العراقيّة، لا يمكن بناء "نظام عام" يسمح بظهور قوى (اقتصادية وسياسية) جديدة ومُتطوِّرة وقادرة على المُبادَرَة و"القيادة"، وبالتالي (وبقدر تعلّق الأمر بالاقتصاد) لا يمكن بناء "اقتصاد سوق" رأسمالي- تقليدي- مُنضَبِط، ولا "اقتصاد سوق اجتماعي" حديث.
هذا "النسَق المُغلَق"، وهذا "النظام العام" (القابِض على الريع بأنواعهِ كافّة) سيفعلُ ما بوسعه من أجل "إعادة انتاج" القوى السياسيّة- المُجتمعيّة "القديمة" ذاتها، أكثر ممّا يعمل (أو حتّى يسمَح) بـ "انتاج" قوى فاعِلة "جديدة".
وفي مواجهة "القوى القديمة" الأكثر نفوذاً وهيمنة (اقتصاديّاً ومُجتمعيّاً) سيضيقُ مجال "المُنافسَة" أمامَ أيِّ "قوى صاعدة جديدة".. تلكَ "القوى" التي يمكن أن تجِدَ أفضلَ تجسيدٍ لها في "قِطاعٍ خاص" مُنتِج مُبتَكِر ومُبادِر، وغير"مُتطَفِّل" على "قنوات" تسريب الريعِ الحكوميّة، وأكبرُ قُدرةً على "التراكُم" و "تكوين رأس المال الثابت" والنموّ، وأكثرُ "استقلاليَةً" من القطاع الخاص "المُتكَلِّس" والفاسد و"التابِع" لـ "بُنية" و"منظومات" النظام السياسي- الاقتصادي- القائم الآن.
لن تكون هناك "فُرَص" قابلة للتوظيف، ولا "ابتكار" قابل للتجسيد، ولا "إمكانيّات" قابلة للتخصيص (الأفضل والأمثل والأكفأ) للموارد الاقتصادية، ولا "تنمية"، ولا "استدامة" في إطار "منظومات قِيَم" و"ترتيبات" حُكم غير قادرة على أن تعملَ بشكلٍ أفضلَ مما تقومُ بفعلهِ الآن.
بـ "حُزمةِ" الديموقراطيّةِ كُلّها (وليسَ بـ "عودٍ" واحدٍ منها اسمهُ "الانتخابات")، وفي إطارِ منظومات "الحُريّات" غيرُ القابلةِ للنقضِ عند "التهديدات"، وبدَفعٍ من "عدالتها" غيرُ القابلةِ للحَجب عند "الضرورات"، سوف تبدأ عملية "التأسيس" لـ"نظام اقتصادي عراقي جديد".. نظام كفوء ومُتطوِّر، يُعزّز قِيَم العمل المُنتِج، ويحترم شروط ومعايير "الانتاجيّة التنافسيّة"، ويحِلُّ محَلَّ هذه الفوضى العارِمة، في هذا "البازار" الاقتصادي البائس الموجود الآن.
لهذا.. وبهذا.. لم يتقدّم الاقتصاد العراقي خُطوةً واحدةً إلى الأمام طيلةَ رُبعِ قَرنٍ من "وقت التنمية" الذي ضاعَ إلى الآن دون جدوى.. وإن كانَ هُناكَ من خَطا "خُطوةٌ" مثل هذه "إلى الأمام"، فقد كانت تعقبُ ذلكَ دائماً "خطوتانِ إلى الخَلْف".
ولهذا.. وبهذا.. عاشت (وشهدَت واختبَرَت) عملية "التنمية الشاملة" في العراق مفاعيل نمطها "الانتكاسي" السريع، وما ترتّبَ عليه من تداعيات وعواقبَ وخيمة.
اذا كانت "الديموقراطيّة" مُجرّدَ "انتخابات" فإنّها ستُعيدُ انتاجَ "منظومات القِيَم" ذاتها التي أدّت إلى هذا "الانتكاس" الاقتصادي والسياسي والمجتمعي، ليس في العراق "المُعاصِر" فقط، بل وعلى امتداد وقائع وتفاصيل تاريخهِ "الحديث".
في "أوضاعٍ" كهذه "لا أحدَ سيعمَل، ولا أحدَ سيَمُرّ" سوى تلكَ القوى المُمسِكَةِ بمصادر "القوّةِ الاقتصاديّةِ" الآن.. وسوفَ يختنِقُ "الآخرونَ الضُعفاء" جميعاً وهُم محشورونَ في "أعناقِ الزجاجات".. وسوفَ تُقفَلُ لاحِقاً(وبأسرعِ ممّا يتصوّر الكثيرون) حتّى "البازاراتُ والشورجات" التي يملكها "العرّابون"، و ستُفلِسُ حتّى "الدكاكين" التي يُديرُها "صبيان المافيا"، وسيُدفَنُ تحتَ سقوفها الصدِئة أيُّ أملٍ ببناء اقتصادٍ حديث.
"الديموقراطيّةُ العراقيّةُ" تؤسِّسُ لحُكمٍ دائمٍ لـ "المُلاّكِ الغائبين"، و تمنحُ "السراكيلَ" سُلطةَ التحكُّمِ بـ "الأقنانِ" المُرتبِطينَ بهذه الأرضِ العظيمةِ المُعذّبَةِ التي يقتلها السَبَخُ والخُذلان.
"الديموقراطيةُ العراقيّة" بنسختها "الانتِخابيّة" لا تسمَح(ولن تسمَح) بتحلُّل وتفكُّك وتفسُّخ "النظام القديم" ليَحِلّ محلّه "نظامٌ جديد".
"الديموقراطيّة العراقية" هي جزءٌ رئيس في منظومات "النسَق المُغلَق" التي تسمَح ببقاء "النظام القديم" لأطولِ مُدّةٍ ممكنة، من خلال "إعاقة" صعود قوى جديدة قادِرة على "الإزاحة" اللازمة (الضروريّة والكافية) لبناء "نظامٍ جديد".
وبينما يُفتَرَض بـ "النسَق السياسي" أن يكون "مفتوحاً"، أكثر من كونهِ "نسَقاً مُغلَقاً"، وأن يُحقِقَ حالةً دائمةً من الاستقرار التي تسمح بتطوّر الاقتصاد والمجتمع، يحدثُ ما هوَ نقيضٌ لذلكَ في العراق.
إنّ "النسق المفتوح" يتكوّن من "أجزاء" مُتفاعِلة ومُترابِطة يعتمِد بعضها على بعض، وتسعى لتحقيقِ "هدفِ مُشترَك".
غيرَ أنّ هدف "النسَق السياسيِّ" المُغلَقِ في العراق ليسَ هدفاً "مُشترَكاً" لـلجميع.
ومن أبرز "مُقوّمات" هذا "النسَق" هو السعيُ الدائم لاحتكار السُلطة، والسيطرة على الثروة، والإكراه غير المشروع( للأعداء والخصوم والمُعارِضين، بل وحتّى لغيرِ "المُوالين")، ووجود "وحدات" رسميّة، وغير رسميّة تتحكّم بأدوات وأساليب تفاعل "النظام" مع بيئتهِ التقليديّة.. وهذه "الوحدات" هي من تُحدِّد "نمط تكيُّف" هذهِ الأدوات والأساليب لـ "المتغيّرات".. هذه "المُتغيّرات" التي قد تُشكِّلُ لها نوعاً من أنواعِ "التهديد".. ليسَ التهديد الذي تعتقِد أنّهُ "قائمٌ" الآنَ فقط، بل وذلكَ التهديدُ "المُحتمَلُ" أيضاً.
ومن أهم "مُخرجات" هذا النسَق السياسي المُغلَق هو "تفريخ" حكومات متعاقِبة لا تتكامَل أو تتّسِق مع بعضها البعض(منهجيّاً وإجرائيّاً وفكراً ورؤية)، مع أنّها نتاجٌ للنسَقِ السياسيّ ذاته.. وبالتالي فإنّ هذه الحكومات غير قادرة على انجاز "عملية" للتنمية قائمة على الشمول والاستدامِة، ولا على بناء مصالح "وطنيّة- سياديّة –عُليا" عابِرة للإثنيات، و نابِذة لـ "التَخادُمات"، ومُستَقِلّة عن المصالح الضيّقة للتحالفات و"المُكوِّنات".
كما أنّ واحدة من أسوأ مُخرجات هذا "النسق"، وواحدة من أكثر مُفارقاتهِ إثارةً للسُخرية، هو أنّ نتائج الانتخابات التي يُصِرُّ عليها النظام السياسي، بهدف اكتساب "شرعيتهِ الدستوريّة" من خلالها، لن يتمّ القبول بها في حال "خسارة" الأطرافِ المُهيمِنة لنتائجها من خلال "صناديق الاقتراع".. أي أنّ نتائج هذه الانتخابات يجب أن تصُبَّ في مصلحة الشركاء و"أصحاب المصلحة" المُهيمنين على هذا النظام السياسي، وإلاّ عُدّت باطِلة و"مُزوَّرَة" ونتائجها "مُعدَّة سَلَفاً" من قبل "أعداء" النظام في الداخلِ والخارج.
هناكَ مُفارقة مُحزِنة أخيرة تتعلّق بـ "مصير" عمليّة التنمية، وعلاقة هذه "العمليّة" بنتائج الانتخابات في العراق.
فهذه "العمليّة" الطويلة والصعبة والتدرُّجيّة – التراكميّة (طويلة الأجل وباهظة التكاليف على أكثر من صعيد) لا يمكن الإيفاء بمتطلبّاتها واشتراطاتها من خلال "الاستعراضات"، ولا تمويل برامجها ومشاريعها (قصيرة الأجل) من خلال "مكرمات" الحكومات و"اتاوات" المافيات.
الانتخابات في العراق تتمّ كل أربع سنوات، ومع كلّ "دورة نيابيّة" جديدة يأتي رئيس وزراء جديد، بـ "طاقم" وزاري جديد.. ورئيس مجلس الوزراء هذا ليس شرطاً أن يكون من "الفائزين" في الانتخابات، بل قد يكونُ من "الخاسرين".. وحتّى "الفائز" لن يكونَ بإمكانهِ (من خلال النسق السياسي المُغلَق الذي يتحكّم به وبسياساته وقراراته) أن يكسِرَ "الحلقة المُفرَغة" للتخلُّف والفساد مُتعدّد الأبعاد.. والوزراء الذين يرأس مجلسهم (وبالذات المعنيّونَ منهم بالشأن الاقتصادي) لا يعرفونَ ما الذي فعلهُ "أسلافهم" بالضبط، ولا من أين ابتدأوا وإلى أينَ انتَهوا.. وهكذا، وسَيراً على هُدى الآيةِ الكريمة "كُلَّمَا دَخَلَت أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُختَهَا".. بوسعكَ أن تقرأَ على "الاستِدامةِ" السلام.
واذا أردتم أمثلةً على أنّ لا شيء من سياسات ومشاريع الاصلاح والتنمية في العراق قابل للتنفيذ والاستكمال والاستدامة( بفعل نمط ادارة "النسق السياسي المغلق" للشأن الاقتصادي، واستخدامه للانتخابات كأداة للتخلّص من "غير المرغوب" فيهم).. وبغضّ النظر عن تقييم المختصّين لواقعية هذه "المشاريع" والسياسات والخُطط، وعن جدواها الاقتصاديّة(على المدى البعيد)، فإنّ بوسعنا ذِكر "وقائع" من "التاريخ الاقتصادي" القريب، والقريب جدّاً في العراق، وكما يأتي:
- لم يتمكّن السيد نوري المالكي (حتّى وهو رئيس لمجلس الوزراء) من تمرير "قانون البنى التحتية" في مجلس النواب(وهو القانون الذي كان المالكي يعتقِد أنّهُ "لو شُرِّع لحقّقَ للعراق طفرة اقتصادية وتجارية" هائلة)، وعندما لم يتمّ تكليفه بولاية ثالثة (رغم فوزه في الانتخابات) تم "تغييب" هذا القانون تماماً.
- بعد السيد المالكي لم يتمكّن السيّدان حيدر العبادي وعادل عبد المهدي من تنفيذ الأهداف الرئيسة لخطة التنمية الوطنية 2018-2022 (مع أنّ الأوّل قد "أقرّ" هذه الخطة في مجلس الوزراء، بينما اعتمدها الثاني كمصدر رئيس لـ "برنامجه الحكومي").. وبعدهما تم ركن هذه الخطة على الرفّ.
- لم يتمكّن رئيس مجلس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، و وزير المالية السابق علي عبد الأمير علاّوي من تطبيق الخطوط الرئيسة "للورقة البيضاء" على أرض الواقع، وبـعد "رحيلهما" عن "سدّة الحُكم" تحولّت "الورقة البيضاء إلى "شتيمة" مُقذِعة، والقرار الوحيد (الذي كان صحيحاً في حينه، على الأقل من حيث مبرّراته المنطقية، وهو تخفيض قيمة الدينار مقابل الدولار) تمّ الغاؤه بـ "خِفَّة شعبويّة" استعراضيّة، غير مدروسة، بمجرّد تكليف السيد السوداني برئاسة مجلس الوزراء.
- عندما استلم السيّد السوداني رئاسة السلطة التنفيذية، حوّلَ "البرنامج الحكومي" الخاص به إلى "خطّة للتنمية"، وتجاهلَ تماماً خُطة التنمية الوطنية 2024-2028، وكرّسَ موارد وتخصيصات الموازنة العامة للدولة لخدمة "مشروعات" هذا "البرنامج الحكومي"، وقام بإعداد "موازنة -ثلاثيّة" تتضمّن "انفاقاً عامّاً" هائلاً، ومع ذلك حظيت هذه "الموازنة" بموافقة مجلس النواب(وهو أمرٌ يحدث لأوّل مرّة في التاريخ المالي للعراق).. لا بل أنّ السيّد السوداني(ولم يتبَقّ لهُ سوى أشهر قليلة في رئاسة مجلس الوزراء) قد وجّهَ في نهاية آب 2025 بأن تقوم "اللجنة الوطنيّة العليا للاستراتيجيات في العراق" بالمباشرة في استكمال تنفيذ متطلبات "الرؤية الوطنية الشاملة طويلة الأمد"، تحتَ شِعار: (العراق 2050 – نحو التنميّة والمستقبل)، والتي يُفتَرَض بها أن"تُمهِّد لتحوّل استراتيجي في منظومة الدولة العراقية على مختلف الصعد التنموية، والاقتصادية، والإدارية، والتقانة الرقمية والذكاء الاصطناعي"!!
ولو تمّ تكليف بديل عن السيّد السوداني بعد الانتخابات القادمة، ستتحوّل "المُجسَّرات" إلى "نُكتة"، ولن يجد "طريق التنمية" من يسيرُ في "شوارعهِ" العريضةِ والطويلةِ على امتداد المسافةِ بين "الفاو" و "فايدة".
أمّا "الرؤية الوطنية الشاملة طويلة الأمد"(العراق 2050).. فنحنُ الآنَ يا دولة رئيس مجلس الوزراء نعيشُ معك في عام 2025 على وَقع أزمات اقتصاديّة- ماليّة مريرة غير قابلة للحلّ على المدى القصير.. أمّا في عام 2050، فإنّنا، كُلّنا، سنكونُ "موتى في الأجل الطويل "(كما قال استاذنا الاقتصادي العظيم "جون مينارد كينز" قبل مائةِ عامٍ من الآن).. ونتمنى ألاّ يكونَ العراقُ "ميّتاً" مثلنا.. في ذلكَ الأجلِ الطويل.