اختبار إفقار الجار

بروجيكت سنديكيت

2024-10-14 05:09

بقلم: داني رودريك

كمبريدج- مع لجوء كل الدول الـمُـتاجِـرة الكبرى على نحو متزايد إلى العمل الأحادي الجانب لتعزيز أهدافها الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية، والأمنية، يحتاج الاقتصاد العالمي بشدة إلى إطار معياري واضح لتحديد قواعد الطريق. ولعل نقطة الانطلاق المفيدة تتمثل في اتفاق الجميع من حيث المبدأ على عدم نشر سياسات إفقار الجار.

قد يبدو هذا معقولا، ولكن هل من الممكن تطبيقه عمليا؟ ألا تعتمد الدول على مثل هذه السياسات كثيرا إلى الحد الذي يجعل من غير الممكن إقناعها بتغيير أساليبها؟

في واقع الأمر، كلا، هي ليست كذلك. والتصور بأنها كذلك تمتد جذوره إلى خلط إدراكي بين السياسات التي تُـنـتِـج تأثيرات جانبية سلبية تمتد عبر الحدود والسياسات الرامية إلى إفقار الجار حقا. الواقع أنه من غير الـمُـجدي ــ والـهَـدّام ــ محاولة تهذيب كل السياسات من النوع الأول. ما يدعو إلى التفاؤل أن أفعال إفقار الجار لا تشكل سوى مجموعة فرعية صغيرة من مثل هذه السياسات.

لقد تخبطت العولمة المفرطة إلى حد كبير بسبب طموحها إلى المبالغة في تنظيم السياسات التي تنتج تأثيرات جانبية دولية. بالتركيز على السياسات التي تُـفـقِـر الجيران حقا يصبح بوسعنا استهداف المصدر الحقيقي للمشكلة وتحقيق مزيد من التقدم في المفاوضات الدولية.

لكي نفهم أهمية هذا التمييز، لنتأمل الحالة الكلاسيكية حيث تُـفضي سياسة تنتهجها إحدى الدول إلى إحداث أضرار في الخارج، وخاصة من خلال إضعاف نِـسَـب التبادل التجاري لدى دولة أخرى (أسعار الصادرات نسبة إلى الواردات). في الأصل، أَلَّـفَ جاجديش بهاجواتي سيناريو "الإفقار التجاري" هذا، ثم استخدمه بول صامويلسون لاحقا للزعم بأن نمو الصين الاقتصادي قد يلحق الضرر بالولايات المتحدة.

ثم لنتأمل هنا سياستين على وجه الخصوص. أولا، عندما تدعم الحكومة الصينية البحث والتطوير الذي يعزز قدرة الصين التنافسية في منتجات التكنولوجيا الفائقة ويخفض أسعارها في الأسواق العالمية، تتضرر الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة، لأن هذه مجالات ميزتها النسبية. ولكن على الرغم من الضرر، لا يجوز لنا أن نعتبر من المناسب أو اللائق أن نطلب من الصين إزالة مثل إعانات الدعم هذه، لأن حدسنا يُـنـبـئـنا بأن دعم البحث والتطوير أداة مشروعة لتعزيز النمو الاقتصادي، حتى ولو تكبد آخرون خسائر.

تتلخص السياسة الثانية في حظر تصدير العناصر الأرضية النادرة أو غيرها من المعادن الحيوية التي تُـعَـد الصين الـمُـوَرِّد العالمي الرئيسي لها. تستفيد الصين من زيادة أسعار هذه العناصر في الأسواق العالمية وجعل مُـصَدِّريها أكثر قدرة على المنافسة، نظرا لقدرتها على الوصول إلى المدخلات الأرخص. لكن هذا مثال واضح على سياسة إفقار الجار. ذلك أن مكاسب الصين تأتي نتيجة لممارسة قوة احتكارية عالمية تفرض الخسائر على منتجين أجانب.

تندرج السياسة ضمن فئة إفقار الجار عندما لا تتاح الفائدة التي تعود منها على الاقتصاد المحلي إلا من خلال الضرر الذي تُـلـحِـقه بآخرين. وقد صاغت جوان روبنسون هذا المصطلح في ثلاثينيات القرن العشرين لوصف سياسات مثل خفض القيمة التنافسي، والتي تعمل في حالة البطالة المنتشرة على تحويل العمالة من بلدان أجنبية إلى الاقتصاد المحلي. وتكون سياسات إفقار الجار في عموم الأمر سلبية المحصلة للعالم إجمالا.

قد يكون تمييز سياسات إفقار الجار صعبا في الممارسة العملية، لأن أي دولة من غير المرجح أن تعترف بها. لكن توضيح أنواع الأفعال التي تستحق الاعتراض حقا، وتضييق نطاق النزاعات وفقا لذلك، من المرجح أن يؤدي إلى نتائج اقتصادية أفضل. وهذا كفيل أيضا بأن يُـفضي إلى سياسات أفضل، لأنه سيشجع الحكومات على الانخراط في مناقشة أكثر نفعا حول ما تمارسه من أفعال، ولماذا تمارسه، والعواقب المحتملة.

بتطبيق هذا المنظور على العالم الحقيقي، نجد أن القسم الأعظم من السياسات الصناعية في الصين والولايات المتحدة اليوم لا تنتمي إلى فئة إفقار الجار. بل إن كثيرا منها ينبغي أن تُـعـتَـبَـر سياسات إثراء الجار.

أوضح مثال على ذلك هو النطاق الواسع من السياسات الصناعية الخضراء التي نشرتها الصين على مدى العقدين الأخيرين لخفض أسعار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والبطاريات، والمركبات الكهربائية. كانت هذه السياسات مفيدة بشكل مضاعف للاقتصاد العالمي. فهي تولد تأثيرات جانبية تُـثري الإبداع، فتقلل من التكاليف التي يتحملها المنتجون على مستوى العالم وتخفض الأسعار التي يتحملها المستهلكون. وهي تعمل على تسريع الانتقال من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، فتعوض جزئيا عن غياب تسعير الكربون.

عندما تَـسـتَـهدِف السياسات الصناعية على النحو المناسب العوامل الخارجية وإخفاقات السوق ــ كما في حالة إعانات الدعم الخضراء ــ فإنها لا تشكل ممارسة تثير القلق. علاوة على ذلك، في حين يمكننا إبداء مخاوف مشروعة بشأن حالات لا تُـلَـبى فيها هذه الشروط، تظل حقيقة قائمة مفادها أن تكاليف السياسات الصناعية غير الفعّالة تؤثر على الداخل في المقام الأول. ذلك أن دافعي الضرائب والمستهلكين المحليين هم الذين يدفعون ثمنها في هيئة ضرائب وأسعار أعلى. الواقع أن السياسات الصناعية الرديئة أقل إفقارا للجار من كونها إفقارا للذات.

بطبيعة الحال، قد تتكبد بلدان أخرى أيضا بعض التكاليف. لكن هذا لا يعني أنه من المرغوب أن يكون لشركاء التجارة رأي. وليس من الواقعي ولا المعقول أن نتوقع من الحكومات أن تكون استجابتها لحجج تسوقها بلدان أخرى حول ما هو مفيد من منظورها أكبر من استجابتها لقناعاتها الخاصة. إن شركاء التجارة أحرار دوما في فرض ضماناتهم الخاصة، حتى عندما لا تكون السياسات التي يستجيبون لها من فئة إفقار الجار.

على سبيل المثال، إذا كانت الحكومة قلقة بشأن الأمن القومي أو أي عواقب سلبية تعود على أسواق العمل المحلية، فينبغي لها أن تتمتع بالحرية في فرض القيود على الصادرات أو الرسوم الجمركية لمعالجة هذه المخاوف. في الظروف المثالية، لابد أن تكون مثل هذه الاستجابات محسوبة جيدا وموجهة بشكل ضيق نحو الهدف المحلي الـمُـعـلَـن، لا أن تكون مُـصَـمّـمة لمعاقبة البلدان التي لا تنخرط في سياسات إفقار الجار.

يُـشَـكِّـل التمييز بين العدد الضئيل من تدابير إفقار الجار ومجموعة واسعة من السياسات الأخرى التي تُـوَلِّـد تأثيرات عابرة للحدود خطوة أولى مهمة نحو تخفيف التوترات التجارية. والاهتمام بذلك من شأنه أن يسمح للمفاوضات الدولية بالتركيز على المشكلات الحقيقية، مما يترك للحكومات حرية ملاحقة أهداف سياسية مشروعة في الداخل. إن العمل نحو عالَم من مساعدة الذات هو إلى حد كبير اقتصاد سليم وسياسة موفقة.

* داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، وهو رئيس الجمعية الاقتصادية الدولية ومؤلف كتاب ”حديث مباشر عن التجارة: أفكار لاقتصاد عالمي عاقل“

https://www.project-syndicate.org/

ذات صلة

لماذا نستذكر فاطمة؟في تاريخ العقل.. أو في تاريخ الحداثةسايكولوجيَّة الصراع حول فلسطينالوصمة Stigma: بين الفرد والمجتمع والأيديولوجيامتى نجد المحاصيل العراقية في الأسواق العالمية؟