مواجهة أزمة غلاء تكاليف المعيشة في أفريقيا

بروجيكت سنديكيت

2024-09-19 04:04

بقلم: هيبوليت فوفاك

واشنطن، العاصمة- أثارت تكاليف المعيشة المتزايدة الارتفاع في أفريقيا موجة من الاحتجاجات في الأشهر الأخيرة، وهذا يؤكد على التكاليف الاقتصادية والاجتماعية المرتفعة بدرجة غير متناسبة نتيجة للتضخم في قارة تعاني من فقر مضطرد واسع الانتشار وضعف متزايد الـحِـدّة في مواجهة التقلبات العالمية. يبدو أن العالم يعيش الآن قصة تضخمين.

في مستهل الأمر، أثرت دورة التضخم الحالية ــ وهي نتاج لصدمات العرض المرتبطة بالجائحة والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة ــ على البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. لكن الضغوط التضخمية أصبحت أقل تزامنا بمرور الوقت. ففي حين انخفض نمو الأسعار بشكل حاد في الاقتصادات المتقدمة، فأنه يظل مرتفعا بعناد ــ وفي بعض الحالات يزداد ارتفاعا ــ في أفريقيا.

 ورغم أن التضخم في بلدان متقدمة عديدة يتجه نحو الانخفاض إلى المستوى 2% المستهدف من قِـبَـل البنوك المركزية، فقد بلغ خانة العشرات في ما يقرب من ثلث البلدان الأفريقية (وهي نسبة أعلى حتى عند استبعاد بلدان الفرنك الأفريقي، حيث ساهم الربط بعملة اليورو في تثبيت الاستقرار النقدي). على سبيل المثال، في مايو/أيار، بلغ معدل التضخم السنوي في نيجيريا، أحد أكبر اقتصادات أفريقيا، 34% ــ وهذا أعلى مستوياته في 28 عاما ــ ومن المتوقع أن يظل مرتفعا في النصف الثاني من العام، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى ارتفاع تضخم المواد الغذائية، الذي تسارع إلى 40%. هذا من شأنه أن يقلل من قدرة الأسر الشرائية ويزيد من خطر انعدام الأمن الغذائي، وخاصة بين المنتمين إلى طبقة متنامية من المواطنين المبتلين بالفقر والأكثر ضعفا وعُـرضة للخطر في نيجيريا.

 يضم هذا البلد أكبر عدد من السكان الذين يعيشون في فقر على مستوى العالم بعد الهند. من ناحية أخرى، لم تنجح الإصلاحات الحكومية الرامية إلى اجتذاب المستثمرين الأجانب، بما في ذلك خفض حاد لقيمة النيرة ــ التي فقدت 70% من قيمتها مقابل الدولار منذ يونيو/حزيران 2023 ــ إلا في زيادة الأمور سوءا على سوء في بلد يعتمد بِـشِـدّة على الواردات من المواد الغذائية وغيرها من الضروريات. في أغسطس/آب، انتشرت الاحتجاجات ضد الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن هذا الفشل في عِـدّة مدن نيجيرية كبرى. 

جاءت هذه الاحتجاجات في أعقاب أسابيع من أعمال الشغب في كينيا ضد مشروع قانون المالية الحكومي، الذي اقترح زيادة الضرائب على سلع أساسية مثل زيت الطعام، والخبز، والفوط الصحية، حتى في وقت حيث كان الملايين يكافحون بالفعل لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وقد قُتل العشرات من المتظاهرين في البلدين خلال محاولات رسمية لقمع الانتفاضات. يؤثر التضخم في أسعار المواد الغذائية على الأسر المنخفضة الدخل بدرجة أكبر من تأثيره على نظيراتها المرتفعة الدخل لأنها تنفق قسما أكبر من ميزانيتها على الضروريات.

 لاحظ أن تكاليف الغذاء تمثل 16% من إنفاق المستهلك في الاقتصادات المتقدمة، لكنها تمثل نحو 40% في البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. يفسر هذا الاختلاف في تكوين الإنفاق الطبيعة الأكثر تراجعا للتضخم في بلدان جنوب الصحراء الكبرى، وهي موطن لنحو 60% من أشد الناس فقرا على مستوى العالم، ولماذا يحمل التضخم هناك قدرا أعظم من مخاطر الاضطرابات السياسية. كما أدى الافتقار إلى فرص العمل الرسمية إلى تفاقم أزمة تكاليف المعيشة في أفريقيا. 

من المؤكد أن أجور العمال من ذوي الدخل المنخفض الذين يعملون في وظائف رسمية لا تواكب زيادات الأسعار. لكن أنشطة القطاع غير الرسمي ــ وهو شكل مُـقَـنَّـع من أشكال البطالة والقيود على الرخاء المشترك ــ تمثل نحو 85% من إجمالي العمالة في القارة، كما يتعين على هؤلاء العمال التعامل مع تقلبات الدخل والمكونات غير المتوقعة للتضخم، الأمر الذي يزيد من تضييق الـخِـناق على الأُسر.

توصلت أبحاث حديثة لتقييم التأثيرات التوزيعية التي تخلفها دورة التضخم على الأُسر في الولايات المتحدة إلى ظاهرة تعرف بمسمى "تفاوت التضخم": فقد ارتفعت الأسعار بسرعة أكبر بالنسبة لأولئك الذين يقبعون عند أسفل سلم توزيع الدخل مقارنة بأولئك عند القمة. ويشير انتشار الاحتجاجات في مختلف أنحاء أفريقيا إلى ديناميكية مماثلة تشهدها القارة، حيث تسببت أسعار المواد الغذائية المرتفعة على نحو غير متناسب نتيجة لاستجابة الأسعار الدولية الإيجابية لتغيرات أسعار الصرف في زيادة تكاليف الرعاية الاجتماعية في دورة التضخم هذه بشكل كبير.

تسببت السياسات الحكومية أيضا في تفاقم أزمة تكاليف المعيشة. فبدلا من دعم الفئات المستضعفة من خلال تدخلات موجهة، عمدت الحكومات إلى زيادة الضرائب وخفض الإنفاق عشوائيا لتلبية الالتزامات الخارجية. الآن، تستهلك أقساط الفائدة على الديون السيادية نحو ثلث عائدات كينيا وأكثر من ثلثي عائدات نيجيريا. وفي البلدين، كان للسياسة المالية المسايرة للاتجاهات الدورية وتدابير التقشف تأثير ثانوي سلبي على الأسعار، مما أدى إلى تأجيج التضخم وتفاقم أزمة تكاليف المعيشة. 

ولكن في الاستجابة للاحتجاجات، تعمل الحكومات على عكس اتجاه بعض سياساتها الدورية أو تنفيذ تدابير تكميلية للتخفيف من تأثيرها. فقد أقال الرئيس الكيني ويليام روتو حكومته بالكامل وسحب مشروع قانون المالية المثير للجدال، والذي كان من المتوقع أن يجمع 2.7 مليار دولار من العائدات الإضافية لتلبية الأهداف المالية التي حددها صندوق النقد الدولي. وفي نيجيريا، أعلنت الحكومة تعليق الرسوم الجمركية على الواردات من بعض الأغذية لمدة 150 يوما لتخفيف الضغوط المفروضة على الأُسر الـمُـنـهَـكة.

 مع ذلك، يجب بذل المزيد من الجهود لسد الفجوة بين النمو الفعلي والمحتمل وتوسيع الفرص المتاحة للشباب. إن أفريقيا هي القارة الأكثر ثراء بالموارد الطبيعية في العالم، ومع ذلك يواجه الأفارقة مستقبلا قاتما في بلدان تفتقر إلى المهندسين الكافيين والإرادة السياسية اللازمة لتحويل هذه الموارد، وخلق العدد الكافي من فرص العمل المجزية الأجر، وتوسيع نطاق الرخاء. لقد أدى اعتماد أفريقيا المفرط على الواردات كبديل لتوسيع الناتج الكلي إلى إدامة اختلالات التوازن الخارجية وتفريغ سوق الوظائف، فتسبب ذلك في انزلاق مزيد من الناس إلى براثن الفقر الـمُـدقِع. لتلبية تطلعات السكان الشباب، ينبغي للحكومات الأفريقية أن تعيد النظر في القيود المفروضة على الإنفاق العام والتغلب على أزمات ميزان المدفوعات المتكررة التي شكلت لفترة طويلة السياسة الاقتصادية في مختلف أنحاء القارة. 

إن زيادة الاستثمار في بناء قوة عمل تتقن استخدام التكنولوجيات الناشئة أمر بالغ الأهمية لتحفيز التصنيع. وهذا بدوره من شأنه أن يعزز قطاع التصنيع في أفريقيا، الذي خدم في أجزاء أخرى من العالم لفترة طويلة كمصعد اجتماعي ومسرع للنمو، وحفز التقارب مع البلدان المرتفعة الدخل. وسوف يعمل تحول الاقتصادات الأفريقية أيضا على دفع عجلة تطوير سلاسل القيمة الإقليمية، وتعزيز التجارة بين البلدان الأفريقية (وبالتالي التخفيف من تعرض المنطقة للتقلبات العالمية)، وبناء حواجز وطنية ضخمة لفطام المنطقة عن اعتمادها الـمُـنهِـك على المساعدات. لا ينبغي لصناع السياسات في أفريقيا أن يكتفوا بالاستثمار في رأس المال البشري لتحريك بلدانهم إلى أعلى سلم القيمة في اقتصاد عالمي حيث أصبحت التكنولوجيا محركا رئيسيا للنمو. بل يجب عليهم أيضا أن يسعوا جاهدين لتحقيق المساواة في القدرة على الوصول إلى الفرص وتحقيق الرخاء المشترك لدعم مفهوم الدولة القومية وتعزيز الأمن الوطني. وعلى حد تعبير سامورا ماشيل، أول رئيس لموزمبيق، "لكي تعيش الأمة، يجب أن تموت القبيلة". لفترة طالت كثيرا، أفضى النهج القبلي في التعامل مع الحكم إلى تقويض التنمية الوطنية، وإدامة الفقر بين الأجيال وتفاقم تفاوت التضخم.

* هيبوليت فوفاك، كبير الاقتصاديين السابق ومدير الأبحاث في بنك التصدير والاستيراد الأفريقي، وزميل باركر في شبكة التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، وزميل باحث في مركز الدراسات الأفريقية بجامعة هارفارد، وزميل متميز في الاتحاد العالمي لمجالس التنافسية، وزميل في الأكاديمية الأفريقية للعلوم.

https://www.project-syndicate.org/

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي