مصير الميزانية العمومية العالمية
بروجيكت سنديكيت
2023-01-02 06:49
بقلم: اندرو شنغ، شياو قنغ
هونج كونج ــ تماما كما تزودنا الميزانية العمومية لأي شركة برؤية واضحة لمدى صحتها المالية، فإن "الميزانية العمومية العالمية"، التي تحصر أصول والتزامات الحكومات والشركات والأسر والمؤسسات المالية، تعطينا صورة لصحة الاقتصاد العالمي. قاد هذا المنطق معهد ماكنيزي العالمي إلى البدء في العمل بانتظام على تجميع وتحديث ميزانية عمومية عالمية تغطي عشرة بلدان تمثل مجتمعة أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
أظهرت أول ميزانية عمومية عالمية يصدرها معهد ماكينزي العالمي في أواخر عام 2021 أن الأصول العالمية، خلال الأعوام العشرين الأولى من هذا القرن، كانت تنمو بسرعة أكبر من نمو الناتج. في عام 2020، تجاوز مجموع الأصول في الميزانية العمومية العالمية 1.5 كوادريليون دولار (نحو 18.1 ضعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي) ــ حوالي ثلاثة أضعاف الإجمالي في عام 2000 (عندما كانت الأصول تعادل نحو 13.2 ضعف الناتج المحلي الإجمالي). كما تجاوز نمو الثروة العالمية نمو الناتج المحلي الإجمالي (الفاتر نوعا ما)، مما يعني أن الثروة أصبحت متركزة على نحو متزايد بين أصحاب الأصول العقارية والمالية.
في عامي 2020 و2021، أول عامين من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) ــ تسارعت هذه الاتجاهات، مع تضخم الميزانية العمومية العالمية حتى مع توقف نمو الناتج المحلي الإجمالي. الواقع أنه على الرغم من خسائر الدخل التي بلغت مليارات الدولارات ــ فقد أضيف ما قيمته 100 تريليون دولار إلى الثروة العالمية خلال هذه الفترة، وكان ذلك مدفوعا إلى حد كبير بتوسع مالي ونقدي غير مسبوق. مع صك 39 تريليون دولار من العملة الجديدة والودائع، ارتفعت أسعار الأصول إلى عنان السماء. في الوقت ذاته، سجلت التزامات الديون نموا بلغ 50 تريليون دولار، وتنامت التزامات الحقوق بنحو 75 تريليون دولار.
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، لعب توسع القطاع المالي، من خلال خلق الديون في المقام الأول، دورا رئيسيا في زيادة صافي الثروة (الأصول مطروحا منها الخصوم)، عن طريق تأثير الأسعار غالبا. خلال الفترة 2000-2021، كان نحو 50% من الزيادة في صافي الثروة العالمية راجعا إلى ارتفاع أسعار الأصول فوق مستوى التضخم، 29% من التضخم العام، و23% من صافي الاستثمار. لذا، فعلى الرغم من نمو صافي الثروة العالمية، ظل الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي منخفضا نسبيا. وعلى هذا فقد تسبب التمويل المفرط في تقويض نمو الإنتاجية.
تغيرت الصورة بشكل كبير في عام 2022. فبينما استمر التمويل، تقلصت الميزانية العمومية العالمية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي للمرة الأولى منذ عقود من الزمن.
كانت الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا، والتي دفعت أسعار الطاقة والغذاء إلى الارتفاع، سببا في تفاقم التضخم، كما دفعت البنوك المركزية الكبرى إلى رفع أسعار الفائدة. وانحدرت أسعار الأسهم والسندات العالمية الحقيقية بنحو 30% و20% على التوالي، مما أدى إلى انخفاض صافي الثروة في العديد من البلدان، وخاصة أستراليا، وكندا، والصين، وألمانيا، والسويد. في الوقت ذاته، أدى تراجع سوق العقارات إلى خفض صافي القيمة (الثروة)، وأيضا الاستهلاك، وخاصة في الصين، حيث تشكل العقارات نحو 60% من الأصول التي تملكها الأسر.
مع بداية عام 2023، يصبح السؤال الواضح: هل يكون عام 2022 نقطة تحول تواصل بعدها الميزانية العمومية العالمية انحدارها، أو هل تستأنف الأصول والثروة العالمية ارتفاعها نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي؟ تتوقف الإجابة إلى حد كبير على السياسات في الصين، التي كانت تمثل 18% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وصافي الثروة العالمية في عام 2021.
استنادا إلى نتائج مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي الأخير ــ حيث يجري تحديد أجندة السياسة الاقتصادية كل عام ــ من المنتظر أن يركز صناع السياسات في الصين على تحفيز الطلب، وتثبيت استقرار سوق الإسكان، ودعم النمو باستخدام الأدوات المالية والنقدية. على سبيل المثال، أعلن نائب رئيس مجلس الدولة ليو هي عن خطط لتعزيز الدعم المالي وزيادة السيولة لصالح قطاع العقارات الـمُـنـهَـك.
لكن التحديات التي تواجه صناع السياسات في الصين تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك كثيرا. لقد أثبتت سياسة خفض الإصابات بمرض فيروس كورونا إلى الصِـفر كونها شديدة التدمير لاقتصاد الصين. لكن تخفيف القيود المرتبطة بالجائحة ــ وهي العملية التي بدأت للتو ــ ستثبت أيضا أنها شديدة الإرباك، وتهدد بتقويض الصحة العامة والثقة. بينما تعمل الحكومة على حماية الصحة العامة، يتعين عليها أن تعمل أيضا على تأمين سبل معايش الناس وحماية الاستقرار الاجتماعي.
وقد يفرض التباطؤ العالمي ــ الناجم عن الحرب الدائرة في أوكرانيا ــ عبئا على الطلب الكلي العالمي أيضا، مما يضر بالتجارة الصينية، في حين تؤدي ارتباكات سلاسل التوريد المتواصلة إلى تفاقم الضرر. ثم هناك التأثير الساحق للطلب نتيجة للكوارث الطبيعية، التي أصبح وقوعها مرجحا على نحو متزايد مع استمرار تغير المناخ. (من الجديد بالذكر هنا أن الميزانية العمومية العالمية لا تضع في الحسبان رأس المال الطبيعي ــ الذي يتدهور بشكل حاد ــ حيث لم توضع معايير التقييم إلا في العام الفائت. هذا فضلا عن استبعاد رأس المال البشري).
ما يزيد الطين بلة أن العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة أصبحت مشحونة على نحو متزايد، مع إصرار الولايات المتحدة على تنفيذ تدابير ــ مثل القيود المفروضة على مبيعات أشباه الموصلات والآلات التي تنتجها ــ الغرض منها تجويع اقتصاد الصين بحرمانه من التكنولوجيات والمكونات المتقدمة. لهذا السبب، أشار قادة الصين إلى دعم الشركات الخاصة والشركات المملوكة للدولة، بما في ذلك تخفيف التدابير التنظيمية التي عطلت ثقة الأعمال في قطاعات عديدة.
تشير السياسات الأميركية التي تستهدف الصين إلى مشكلة أكبر: أصبح الحفاظ على التعاون الاقتصادي الدولي أمرا متزايد الصعوبة لكن الميزانية العمومية العالمية تُـظـهِـر أنه في حين قد تتسبب أخطاء السياسات في الاقتصادات الكبرى المهمة جهازيا في دفع الاقتصاد العالمي بأسره إلى الأسفل، فلن يتسنى لأي دولة إصلاح هذه الأخطاء بمفردها. بعبارة أخرى، يشكل التعاون ضرورة حيوية لمنع ركود الميزانية العمومية الكلاسيكي (عندما تنكمش أسواق الأصول، وتشح السيولة).
مثلما يَـعِـد استخدام الأسلحة النووية بالدمار المؤكد المتبادل، فإن الافتقار إلى التعاون الاقتصادي سيؤدي حتما إلى "الانكماش المؤكد المتبادل"، لأن أي دولة لا تستطيع بمفردها إحياء الطلب العالمي. الأسوأ من ذلك أن الحكومات قد تستسلم مع تدهور الأوضاع إلى إغراء ملاحقة تدابير أقرب إلى سياسات الحماية ــ متجاهلة دروس الكساد العظيم. وعلى هذا فمن المفهوم أن يستعد المخططون الاقتصاديون في الصين وأماكن أخرى الآن لاستقبال الركود.