تشريح الانهيار الناجم عن جائحة فيروس كورونا
بروجيكت سنديكيت
2020-04-15 04:25
بقلم: إسوار براساد/إيثان وو
إيثاكا ــ يوشك الاقتصاد العالمي أن ينزلق إلى هاوية أسوأ أزماته منذ الحرب العالمية الثانية. فكما يوضح مؤشر Brookings-FT TIGER (مؤشرات تتبع التعافي الاقتصادي العالمي) المحدث مؤخرا، أصبح النشاط الاقتصادي، والأسواق المالية، وثقة القطاع الخاص في تدهور مستمر. وإذا ظل التعاون الدولي عند مستواه الحالي، فإننا مُـقـدِمون لا محالة على انهيار أكثر حِدّة.
من المؤكد أن الانكماش الحاد غير العادي الحالي ربما يكون قصيرا نسبيا، مع عودة النشاط الاقتصادي بقوة إلى المستويات السابقة بمجرد تسطح منحنى العدوى بفيروس كورونا 2019 (كوفيد-19 COVID-19). ولكن هناك سبب وجيه يدعونا إلى القلق من أن الاقتصاد العالمي يتجه نحو ركود عميق طويل الأمد. يتوقف الكثير على مسار الجائحة وما إذا كانت استجابات صناع السياسات كافية لاحتواء الضرر والعمل في ذات الوقت على إعادة بناء ثقة المستهلك والأعمال.
لكن التعافي السريع يبدو بعيد الاحتمال إلى حد كبير. فقد تضرر الطلب بشدة، كما وقعت ارتباكات شديدة في سلاسل الإمداد التصنيعية، والأزمة المالية جارية بالفعل. على النقيض من انهيار 2008-2009، الذي أشعل شرارته نقص السيولة في الأسواق المالية، فإن أزمة كوفيد-19 تنطوي على قضايا أساسية خاصة بقدرة شركات وصناعات بعيدة تماما عن القطاع المالي على الوفاء بديونها.
علاوة على ذلك، من الواضح أن الصدمة الحالية متزامنة وعالمية. أثناء أزمة 2008 وفي أعقابها مباشرة، واصلت بعض الأسواق الناشئة، وخاصة الصين والهند، تسجيل نمو قوي، مما ساعد في انتشال بقية اقتصاد العالمي من الهاوية. لكن هذه المرة، لا يوجد اقتصاد محصن، ولن يتمكن أي اقتصاد من قيادة التعافي المدفوع بالتصدير. لقد عمل انهيار اليوم على زيادة المخاطر الانكماشية والمالية في الاقتصادات المتقدمة، كما وجه ضربة قوية لمصدري السلع الأساسية. وفوق كل هذا، تسجل أسعار النفط انخفاضا أشد مما ينبغي لها في ظل الظروف الحالية، وذلك لأن المملكة العربية السعودية وروسيا تغرقان الأسواق بالنفط.
وصل الاقتصاد الأميركي إلى حالة من الجمود الفعلي، مع إغلاق القسم الأعظم من قطاع الخدمات، وتعطل النشاط الصناعي، وإفساح سوق العمل الشديدة النشاط المجال لموجة عارمة من البطالة في غضون بضعة أسابيع فقط. وقد استجابت الولايات المتحدة بتدابير تحفيز مالي ونقدي غير عادية، والتي من شأنها أن تساعد في تخفيف التداعيات الفورية المترتبة على الأزمة. ولكن هناك احتياج واضح إلى مزيد من التحفيز الموجه للتخفيف من الأضرار البعيدة الأمد، وخاصة لحماية الأسر والشركات الصغيرة الضعيفة اقتصاديا.
أما عن أوروبا واليابان، اللتين كانتا تشهدان ضغوطا اقتصادية حتى قبل اندلاع الجائحة، فمن المرجح أن تعاني كل منهما من انحدارات كبيرة في الناتج وزيادات ضخمة في معدلات البطالة. صحيح أن شبكات الأمان الاجتماعي القوية (نسبة إلى تلك في الولايات المتحدة) ستخفف من تأثير الأزمة على الفئات الأكثر ضعفا من الناحية الاقتصادية، لكن الطريق إلى التعافي سيكون طويلا وصعبا.
من جانب الصين، يبدو أن اقتصادها بدأ يعود جزئيا إلى الحركة النشطة، على الرغم من استجابات الحكومة المقيدة حتى الآن في السياسة النقدية والمالية. فقد تقلص الإنتاج الصناعي ومبيعات التجزئة والاستثمار في الأصول الثابتة بشكل حاد في يناير/كانون الثاني، وفبراير/شباط، لكن يبدو أن الانكماش بلغ منتهاه الآن. في بعض النواحي، يُـعَـد الاقتصاد الموجه في الصين في وضع أفضل من اقتصادات السوق لتحمل مثل هذه الصدمات الهائلة، لأن الدولة يمكنها حشد الموارد الوطنية بما يتجاوز الحدود التي تسمح بها أدوات الاقتصاد الكلي التقليدية، فضلا عن تقديم الدعم المباشر للشركات والبنوك. لكن اقتصاد الصين لم يخرج من الضائقة بعد. فمع ارتفاع معدلات البطالة، من المرجح أن يظل الطلب المحلي والخارجي ضعيفا، وسوف يظل احتمال حدوث موجة ثانية من العدوى يشكل تهديدا مستمرا.
كما تتجه اقتصادات ناشئة أخرى إلى فترة قاتمة بشكل خاص. فالعديد منها لديها أنظمة رعاية صحية عاجزة متداعية، هذا فضلا عن المراكز الحضرية المكتظة بالسكان، ومستويات عالية من الفقر، وهذا لا يترك مجالا يُـذكَر للمناورة بين السيطرة على الجائحة وتجنب الكارثة الاقتصادية. وما يزيد الأمور سوءا على سوء أن بعض هذه البلدان يتعين عليها أن تتعامل مع انقلابات في اتجاهات تدفق رأس المال، وانخفاض قيمة العملة، وتراجع الطلب بشدة على الصادرات. وتواجه بلدان أخرى أعباء ديون هائلة ازدادت ثِـقَلا وبات تمويلها أشد صعوبة.
فرضت حكومة الهند، التي كانت تكافح بالفعل تباطؤ النمو الحاد، حالة الإغلاق على البلاد، لكنها ستظل تواجه أزمة صحية واقتصادية مزدوجة. وربما يؤدي إنكار الحكومة البرازيلية للجائحة إلى الإبقاء على النشاط الاقتصادي قائما في الأمد القريب، لكن الأسواق المالية وأسواق العملة هناك بدأت تسقط بالفعل، مما يعكس احتمال الإغلاق في نهاية المطاف.
في مجمل الأمر، ربما تخلف المذبحة الاقتصادية والمالية التي جلبتها جائحة فيروس كورونا ندوبا عميقة ودائمة على جسد الاقتصاد العالمي.
الواقع أن البنوك المركزية على الأقل تحاول الارتقاء إلى مستوى التحدي. فقد اتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تدابير غير عادية لدعم الأسواق المالية من خلال شراء الأصول، وتوفير السيولة الدولارية للعديد من البنوك المركزية الأجنبية. وبالمثل، أعلن البنك المركزي الأوروبي، عن عمليات شراء ضخمة من سندات الحكومة والشركات وغير ذلك من الأصول، مؤكدا أن "التزامنا باليورو بلا حدود". ويستعد بنك إنجلترا لتمويل الإنفاق الحكومي بشكل مباشر. وحتى البنوك المركزية في الأسواق الناشئة، مثل بنك الاحتياطي الهندي، تدرس طرح برامج للتيسير الكمي، والذي من شأنه أن يمنع الأسواق المالية من التجمد.
لكن البنوك المركزية لا يمكنها التعويض عن الهبوط في طلب المستهلكين أو تحفيز الاستثمار بمفردها. ومع الإفراط في استخدام أدوات السياسة النقدية التقليدية وغير التقليدية إلى حد الإجهاد، فسوف يضطر صناع السياسيات المالية إلى بذل المزيد من الجهد. الواقع أن التدابير المالية الجيدة التوجيه من الممكن أن تخفف من شدة الضربة الموجهة إلى المستهلكين والشركات ــ وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، التي لا تملك عادة إلا الحد الأدنى من الاحتياطيات المالية ــ فتساعد بالتالي في دعم تشغيل العمالة والطلب. في هذه الأوقات العصيبة، لابد أن تتبنى جميع الحكومات التي تستفيد حاليا من تكاليف الاقتراض المنخفضة هذه التدابير بشكل كامل، حتى وإن كانت تعاني بالفعل من مستويات عالية من الدين العام.
علاوة على ذلك، سوف تحتاج البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل حيث الأنظمة الصحية غير وافية إلى دعم كبير من جانب المجتمع الدولي، والذي ربما يشمل تخفيف أعباء الديون بشروط ميسرة. ولكن من المؤسف أن عجز العالم حتى الآن عن تشكيل جبهة مشتركة يشهد على تآكل التعاون الدولي، وهو ما يزيد من جسامة الضرر الذي لحق بثقة الأعمال والمستهلك.
لكن هذا يجب أن يتغير. فالعالم يحتاج بشكل عاجل إلى تبادل نزيه وشفاف للمعلومات من جانب القادة الوطنيين، على أن يقترن هذا بخطوات قوية لاحتواء الجائحة، وبرامج تحفيز واسعة النطاق لتخفيف التداعيات الاقتصادية، واستراتيجية دقيقة المعايرة لاستئناف النشاط الاقتصادي بمجرد أن يصبح استئنافه آمنا.