مجهولات غير متوقعة كان من الواجب التنبؤ بحدوثها
بروجيكت سنديكيت
2020-04-01 03:18
بقلم: جيفري فرانكل
كمبريدج ــ في كثير من الأحيان، يُـطـلَـق على أحداث مثل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19)، وانهيار سوق الإسكان في الولايات المتحدة في الفترة من 2007 إلى 2009، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، مسمى "البجعات السوداء". المقصود من هذا المصطلح الإيحاء بأن لا أحد كان بوسعه أن يتوقع قدوم مثل هذه الأحداث. لكن في حقيقة الأمر، كانت كل من هذه الوقائع تنطوي على مجهولات معلومة، وليس ما وصفه وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد بأنه "مجهولات مجهولة".
في كل من هذه الحالات، كان المحللون من أصحاب البصيرة والاطلاع على عِلم ليس فقط بأن مثل هذا الأمر قد يحدث، بل وأنه من المرجح أن يحدث في نهاية المطاف. ورغم أن الطبيعة الدقيقة لمثل هذه الأحداث وتوقيتات حدوثها لم يكن من الممكن التنبؤ بها بقدر كبير من اليقين، فإن شدة العواقب كانت متوقعة. لو وضع صناع السياسات في الاعتبار المخاطر واتخذوا المزيد من الخطوات الوقائية مسبقا، فربما كانوا ليتمكنوا من تجنب الكارثة أو تخفيف آثارها.
في حالة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، كان علماء الأوبئة وغيرهم من خبراء الصحة يحذرون لعقود من الزمن من خطر تفشي جائحة فيروسية، وكان أحدث هذه التحذيرات في العام الماضي. لكن هذا لم يمنع الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الادعاء بأن الأزمة كانت "غير متوقعة"، وأنها قضية "لم يتصور أحد قَط أنها قد تمثل مشكلة". على نحو مماثل، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، أكد الرئيس جورج دبليو بوش مخطئا على أن "لا أحد في حكومتنا، على الأقل، ولا في الحكومة السابقة كما أظن، كان بوسعه أن يتخيل تعمد قيادة طائرات لإسقاطها على بنايات على مثل هذا النطاق المروع".
في ضوء مثل هذه التصريحات، من المغري أن نعزو هذه الكوارث إلى انعدام الكفاءة التنفيذية كسبب وحيد. لكن الخطأ البشري عند قمة المسؤولية أسهل من أن يشكل تفسيرا كاملا، مع الأخذ في الاعتبار أن عامة الناس والأسواق المالية فوجئت أيضا في كثير من الأحيان. فقبل اندلاع أزمة 2008 المالية مباشرة، سجلت أسواق الأسهم ارتفاعات غير مسبوقة تاريخيا، ومرة أخرى قبل الانهيار الأخير الذي بدأ في أواخر فبراير/شباط. في كل من الحالتين، كانت هناك وفرة من المخاطر التالية النادرة الحدوث التي كان من المحتم أن تعمل ضد الوفرة الطائشة.
في هذه المناسبات، لم يكن المستثمرون يتبعون توقعات أساسية مفرطة في التفاؤل وحسب، بل إنهم لم يروا أي مخاطر على الإطلاق. حتى أن مؤشر VIX ــ المؤشر الذي يقيس تقلبات الأسواق المالية المتصورة (والمعروف أحيانا باسم "مؤشر الخوف") ــ كان قريبا من أدنى مستوياته المسجلة على الإطلاق قبل انهيار 2007-2009 وقبل انهيار 2020.
تساعدنا عدة عوامل في تفسير السبب وراء وقوع الأحداث المتطرفة عادة على نحو مفاجئ يباغتنا. أولا، حتى الخبراء الفنيون من الممكن أن يغفلوا عن الصورة الكبيرة إذا لم يلقوا شبكتهم على مساحة واسعة بالقدر الكافي عند تحليل البيانات. فهم في بعض الأحيان لا ينظرون إلا إلى مجموعات البيانات الحديثة، على افتراض أنه في عالم سريع التغير، تصبح الأحداث التي وقعت قبل 100 عام عديمة الصِلة. ويأتي الأميركيون غالبا بمجموعة إضافية من الغمامات: والتي تتمثل في التركيز المفرط على الولايات المتحدة. يشكل عدم الاهتمام ببقية العالم بالقدر الكافي أحد المخاطر المصاحبة للاستثنائية الأميركية.
في عام 2006 على سبيل المثال، كان جهابذة التمويل الذين قاموا بتسعير الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري يعتمدون في المقام الأول على التاريخ الحديث لأسعار المساكن في الولايات المتحدة، فعملوا فعليا بموجب قاعدة مفادها أن أسعار المساكن لا تهبط أبدا بالقيمة الاسمية. لكن تلك القاعدة كانت تعكس فقط حقيقة مفادها أن المحليين أنفسهم لم يشهدوا قَط أسعار المساكن تهبط بالقيمة الاسمية في ذات الوقت. الواقع أن أسعار المساكن هبطت في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين، وفي اليابان في تسعينيات القرن العشرين. لكن هاتين الواقعتين لم تتزامنا مع التجربة الحية التي خبرها المحللون الماليون المقيمون في الولايات المتحدة.
لو راجع هؤلاء المحللون مجموعة أوسع من البيانات، فإن تقديراتهم الإحصائية كانت لتسمح باحتمال هبوط أسعار المساكن في نهاية المطاف، وبالتالي، انهيار سوق الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري. إن المحللين الماليين الذين يقصرون بياناتهم على بلدانهم والفترة الزمنية التي يعيشون فيها أشبه بالفلاسفة البريطانيين في القرن التاسع عشر الذين استنتجوا بالاستقراء من الملاحظة الشخصية أن كل طيور البجع بيضاء. ويبدو أنهم لم يذهبوا قَط إلى أستراليا، حيث اكتُـشِـفَـت البجعات السوداء في القرن السابق، ومن الواضح أنهم لم يستشيروا علماء الطيور.
علاوة على ذلك، حتى عندما يدرك الخبراء أبعاد الموقف على النحو الصحيح، فإن القادة السياسيين لا ينصتون غالبا. وهنا تكمن المشكلة في ميل الأنظمة السياسية إلى عدم الاستجابة للتحذيرات التي تقدر خطر وقوع كارثة ما برقم يبدو منخفضا مثل 5% سنويا، حتى ولو كانت التكاليف المتوقعة المترتبة على تجاهل مثل هذه الاحتمالات هائلة. الواقع أن الخبراء الذين حذروا من قدوم جائحة خطيرة كان تقييمهم للمخاطر مصيبا. وكذا فعل أشخاص مثل بِل جيتس والعديد من المراقبين المخضرمين الذين يعملون في قطاعات متباعدة مثل الصحة العامة وصناعة السينما. لكن الحكومة الفيدرالية الأميركية لم تكن مستعدة.
الأسوأ من ذلك أن إدارة ترمب ألغت فعليا في عام 2018 الوحدة التابعة لمجلس الأمن الوطني التي أنشأها الرئيس باراك أوباما للتعامل مع مخاطر الأوبئة؛ كما حاولت إدارة ترمب خفض ميزانيات مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها وغير ذلك من هيئات الصحة العامة. ليس من المستغرب إذن أن يأتي تعامل أميركا مع الجائحة ــ الافتقار إلى أنظمة الاختبار والنقص الخطير في معدات الرعاية الحرجة ــ أسوأ كثيرا حتى الآن من أداء الاقتصادات المتقدمة الأخرى، وخاصة سنغافورة وكوريا الجنوبية.
ولكن بالإضافة إلى تقليص قدرة أميركا على الاستجابة للأوبئة والجائحات، لم يكن لدى البيت الأبيض أي خطة ببساطة، ولم يدرك حتى أن الأمر يستلزم وضع خطة، حتى بعد أن بات من الواضح أن فاشية فيروس كورونا في الصين ستنتشر على مستوى العالم. بدلا من ذلك، ارتبكت الإدارة وراحت تشتت اللوم وتوزعه، وفشلت في تصعيد إجراء الاختبارات، فأبقت بالتالي على عدد الحالات المؤكدة منخفضا على نحو مصطنع، ربما لدعم أسعار الأسهم.
أما عن ادعاء ترمب بأن "لا أحد على الإطلاق عاين أي شيء من هذا القبيل من قبل"، فلا يحتاج المرء إلا إلى الرجوع إلى فاشية أيبولا قبل أربع سنوات والتي قتلت 11 ألف شخص. لكن الموتى كانوا بعيدين في غرب أفريقيا. كما قتلت جائحة الإنفلونزا في الفترة 1918-1919 675 ألف أميركي (إلى جانب 50 مليون شخص حول العالم)، لكن ذلك كان قبل 100 عام.
يبدو أن قادتنا السياسيين لا يتأثرون إلا عندما تتسبب كارثة في مقتل أعداد كبيرة من المواطنين داخل بلدانهم وضمن إطار ذاكرتهم الحية. إذا لم تر بجعة سوداء بأم عينيك، فلابد أنها لا وجود لها.
الآن يتعلم العالَم عن الأوبئة والجائحات بطريقة صعبة وقاسية. ولا نملك إلا الأمل في أن لا يكون الثمن الذي ندفعه من أرواحنا بالغ الارتفاع ــ وأن نكون تعلمنا الدروس الصحيحة.