زوال الوهم النقدي
بروجيكت سنديكيت
2020-02-23 06:50
بقلم: روبرت سكيدلسكي
لندن ــ كانت الاستقالة القسرية التي فُـرِضَت على وزير خزانة المملكة المتحدة ساجد جاويد أحدث علامة على انقلاب الاقتصاد الكلي رأسا على عقب، وليس فقط في المملكة المتحدة. بالإضافة إلى استكمال طقوس دفن سياسات التقشف التي انتهجتها حكومات المملكة المتحدة منذ عام 2010، يشكل رحيل جاويد في الثالث عشر من فبراير/شباط أهمية أكبر.
من الواضح أن رئيس الوزراء بوريس جونسون عاقد العزم على التغلب على مقاومة وزارة الخزانة لطموحاته الهائلة في ما يتصل بالإنفاق. كانت آخر مرة حاول فيها رئيس وزراء بريطاني فتح صنابير الإنفاق الحكومي إلى مثل هذه الدرجة في عام 1964، عندما أنشأ هارولد ويلسون من حزب العمال وزارة الشؤون الاقتصادية في مواجهة عداء وزارة الخزانة للاستثمارات العامة. ولكن في أعقاب أزمة الجنيه الإسترليني في عام 1966، أعادت وزارة الخزانة فرض سيطرتها، وسرعان ما ألغيت وزارة الشؤون الاقتصادية. الواقع أن الخزانة، وهي أقدم وزارة وأكثرها استهزاء في الحكومة، تعرف كيف تنتظر في صبر.
لكن أحدث انقلاب دبره جونسون يدل أيضا على تحول عالمي من السياسة النقدية إلى السياسة المالية. بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت سياسة تثبيت الاستقرار، وهي من بنات أفكار جون ماينارد كينز، بزخم مالي قوي. وفقا لهذه الحجة، يجب أن تستخدم ميزانية الحكومة لموازنة الاقتصاد غير المستقر عند مستوى التشغيل الكامل للعمالة.
ولكن في سبعينيات القرن العشرين أتت الثورة النقدية المضادة بقيادة ميلتون فريدمان. قال فريدمان إن الاستقرار الوحيد الذي يحتاج إليه اقتصاد السوق الرأسمالي هو مستوى الأسعار. فشريطة أن يكون التضخم تحت السيطرة من قِبَل البنوك المركزية المستقلة وأن تبقى ميزانيات الحكومات "متوازنة"، يصبح في الإمكان تثبيت استقرار الاقتصادات عادة عند "معدلاتها الطبيعية للبطالة". ومنذ ثمانينيات القرن العشرين حتى اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008، كانت سياسة الاقتصاد الكي تُـدار في ظل فريدمان.
ولكن الآن عاد البندول إلى الاتجاه الآخر. والسبب واضح بما فيه الكفاية: فقد فشلت السياسة النقدية في توقع أو منع الركود العظيم في الفترة 2008-2009، وفشلت في تحقيق التعافي الكامل منه. ففي العديد من البلدان، بما في ذلك المملكة المتحدة، لا يزال متوسط الدخول الحقيقية أقل مما كان عليه قبل 12 عاما.
يجري التحرر من وهم السياسة النقدية بالتوازي مع قراءة أكثر إيجابية لبرنامج الرئيس الأميركي باراك أوباما للتعزيز المالي في الفترة 2008-2009، ونظرة أكثر سلبية لبرامج التقشف المالي في أوروبا بعد الركود. كانت نقطة التحول الملحوظة متمثلة في إعادة تأهيل المضاعفات المالية في عام 2013 بواسطة كبير خبراء صندوق النقد الدولي آنذاك أوليفيه بلانشارد وزميله دانييل لي. على حد تعبير بلانشارد مؤخرا، "كانت السياسة المالية مُـستَغَلَّة أقل مما ينبغي لها، على أنها مجرد أداة دورية". والآن، يلتمس حتى محافظو البنوك المركزية البارزون المساعدة من السياسة المالية.
تعود الحجة النظرية ضد الاعتماد على السياسة النقدية لتثبيت الاستقرار إلى زمن جون ماينارد كينز، الذي كتب: "ولكن إذا استسلمنا لإغراء التأكيد على أن المال هو المشروب الذي يحفز النظام ويبث فيه النشاط، فيتعين علينا أن نذكر أنفسنا بأن الأمر قد لا يخلو من العديد من الزلات على الطريق قبل أن ينتهي المشروب إلى أفواهنا". الأمر ببساطة أن المضخة النقدية شديدة التسريب. إذ ينتهي قدر كبير من المال إلى النظام المالي، ولا يذهب ما يكفي منه إلى الاقتصاد الحقيقي.
مؤخرا، اعترف مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا المنتهية ولايته بهذا قائلا إن البنوك التجارية كانت "عديمة الجدوى" للاقتصاد الحقيقي بعد بدء الركود، على الرغم من المبالغ الضخمة من الأموال التي ضُـخَّت إليها من قِبَل البنوك المركزية. الواقع أن النظرية التقليدية لا تزال تكافح لتفسير لماذا لا يزال ما قيمته تريليونات الدولارات من التيسير الكمي عالقا في أصول تقدم أسعار فائدة حقيقية سلبية حتى الآن.
مؤخرا، زعم كينيث روجوف من جامعة هارفارد أن سياسة تثبيت الاستقرار المالي "مسيسة إلى الحد الذي يجعلها بديلا غير صالح للبنوك المركزية التكنوقراطية المستقلة الحديثة". ولكن بدلا من التفكير في كيفية التغلب على هذا العيب، لا يرى روجوف بديلا للاستمرار في تطبيق نظام السياسة النقدية السائد ــ على الرغم من الأدلة الدامغة التي تؤكد أن البنوك المركزية غير قادرة على الاضطلاع بالدور المنوط بها. على الأقل، ربما تكون السياسة المالية قادرة من حيث المبدأ على القيام بمهمة تثبيت استقرار الاقتصاد؛ وليس من الوارد على الإطلاق أن تكون البنوك المركزية قادرة على ذلك.
يرجع هذا إلى سبب فني، والذي تحققنا من صحته قبل وبعد انهيار 2008. الأمر ببساطة أن البنوك المركزية غير قادرة على التحكم في المستوى الكلي للإنفاق في الاقتصاد، مما يعني أنها لا تستطيع التحكم في مستوى الأسعار والمستوى الكلي من الناتج وتشغيل العمالة.
الواقع أن المراقب الأقل تشككا من روجوف كان لينظر عن كثب في المقترحات بشأن تعزيز عوامل الاستقرار المالي التلقائية، بدلا من تجاهلها على أساس أنها قد تخلف "تأثيرات تحفيزية" (سيئة) وأن صناع السياسات سيتجاوزونها في بعض الأحيان. على سبيل المثال، كان المراقب العادل لينفتح على الأقل على فكرة ضمان الوظيفة في القطاع العام على النحو الذي توخاه قانون همفري-هوكينز لعام 1978 في الولايات المتحدة، والذي سمح للحكومة الفيدرالية بإنشاء "احتياطيات من فرص العمل العامة" لموازنة التقلبات في الإنفاق الخاص.
كان المقصود استنفاد هذه الاحتياطيات ثم إعادة تعبئتها مع تراجع الاقتصاد واشتداده وفقا للحاجة، وبالتالي خلق أداة للاستقرار التلقائي. ولو جرى تنفيذ قانون همفري-هوكينز، فإنه كان ليقلل إلى حد عظيم من ضرورة ترك سياسة مواجهة التقلبات الدورية لتقدير الساسة، في حين يخلق أداة لتثبيت الاستقرار أقوى كثيرا من أنظمة الضمان الاجتماعي التي تعتمد عليها الحكومات الآن.
من المؤكد أن تصميم وتنفيذ ضمان الوظائف على هذا النحو كان ليفضي إلى بعض المشاكل. ولكن لأسباب سياسية واقتصادية، ينبغي للمرء أن يحاول معالجة هذه المشاكل بدلا من القفز إلى استنتاج مفاده أنه "مع إعاقة السياسة النقدية وتحول السياسة المالية إلى الأداة الرئيسية المتاحة، ينبغي لنا أن نتوقع دورات أعمال أشد تقلبا"، كما فعل روجوف. الواقع أننا نملك من الذكاء ما يجعلنا نقوم بعمل أفضل من ذلك.