هل تغير إنسان دافوس؟
بروجيكت سنديكيت
2020-02-02 04:25
بقلم: جوزيف ستيغليتز
دافوس ــ يوافق هذا العام حلول الذكرى السنوية الخمسين لعقد اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي الرائد الذي ضم النخب التجارية والسياسية العالمية في دافوس بسويسرا. لقد تغير الكثير منذ أول اجتماع حضرته في دافوس عام 1995. في ذلك الحين، كان الحماس متقدا بشأن العولمة، وكانت الآمال عظيمة في انتقال الدول الشيوعية سابقا إلى اقتصاد السوق، وكانت الثقة غامرة في قدرة التكنولوجيات الجديدة على فتح آفاق جديدة يستفيد منها الجميع. وكنا نتصور أن الشركات، بالعمل مع الحكومة، ستقود الطريق.
اليوم، والعالم يواجه أزمات مثل تغير المناخ والتدهور البيئي واتساع فجوات التفاوت، أصبح المزاج مختلفات تماما. فقد أوضحت سلوكيات شركات مثل فيسبوك، التي لا تمانع في توفير منبر للتضليل والمعلومات الزائفة والاستغلال السياسي، بصرف النظر عن العواقب التي قد يخلفها ذلك على الديمقراطية، حجم المخاطر التي قد يفرضها اقتصاد المراقبة الاحتكاري الذي تسيطر عليه جهات خاصة. وقد أظهر قادة الشركات، وليس فقط في القطاع المالي، قدرا مذهلا من الـخِسة والفساد الأخلاقي.
علاوة على ذلك، تتعرض التعددية للهجوم. فالولايات المتحدة، أقوى مدافع عن التعددية في التاريخ، تحكمها الآن إدارة ملتزمة بشعار "أميركا أولا" وتقويض التعاون العالمي، حتى في حين أصبحت الحاجة إلى التعاون في مجموعة من المجالات ــ بما في ذلك السلام والصحة والبيئة ــ واضحة على نحو متزايد.
سلط اجتماع هذا العام الضوء على التحرر من وهم النموذج الأميركي المهيمن على نحو متزايد والمتمثل في شعار المساهمين أولا الذي يعمل على تعظيم أرباح الشركات. قبل أكثر من خمسين عاما، ساق مؤسس ورئيس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب الحجج لصالح رأسمالية أصحاب المصلحة: فالمؤسسات يجب أن تكون مسؤولة عن مصالح عملائها، وعمالها، ومجتمعاتها، والبيئة التي تعمل في إطارها، فضلا عن المساهمين فيها. قبل نحو 45 عاما، أوضحت بالتعاون مع ساندي جروسمان في إطار اقتصادي معياري أن تعظيم القيمة لصالح المساهمين لن يؤدي إلى زيادة الرفاهة المجتمعية. في خطاب تلو الآخر هذا العام، أوضح قادة أعمال وأكاديميون كيف قادتنا محاولات ميلتون فريدمان الناجحة في الدعوة إلى رأسمالية المساهمين بشكل مباشر إلى الأزمات التي نعيشها اليوم ــ بما في ذلك، في الولايات المتحدة، إدمان المواد الأفيونية، وانتشار مرض السكري في مرحلة الطفولة، وانحدار متوسط العمر المتوقع وسط ارتفاع معدل "الوفيات نتيجة لليأس" ــ فضلا عن الانقسامات السياسية التي عملت على تغذيتها.
من المؤكد أن الاعتراف بوجود مشكلة أمر ضروري إذا كنا راغبين في تغيير المسار. ولكن يتعين علينا أيضا أن نفهم أن الأسباب وراء الأمراض الاجتماعية تتجاوز مسألة تعظيم القيمة لصالح المساهمين. إذ تمتد جذور المشكلة إلى إيمان النيوليبرالية المفرط في الأسواق وتشككها في الحكومة، وهو ما أفضى إلى دعم أجندة سياسية تركز على إزالة القيود التنظيمية وخفض الضرائب. بعد تجربة دامت أربعين عاما، نستطيع أن نعلن فشل هذه الأجندة. إذ كان النمو أقل، وذهبت غالبية المكاسب إلى القمة. وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة، فلا يوجد إجماع بين قادة الأعمال.
على الرغم من أن التصفيق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي ألقى أحد الخطابات الافتتاحية، كان الأكثر ضعفا مقارنة بما شهدت لأي زعيم عالمي على الإطلاق، فلم ينتقده أحد تقريبا على الملأ. وربما خشي الحاضرون أن تنال منهم تغريدة انتقادية على تويتر أو شعروا بالامتنان لتخفيض الضرائب الذي استفاد منه أصحاب المليارات والشركات الضخمة على حساب كل شخص آخر تقريبا (الواقع أن معدلات الضرائب في الولايات المتحدة سوف ترتفع على نحو 70% من المنتمين إلى الوسط).
كان النشاز المعرفي ــ أو خيانة الأمانة ــ متجليا في أوضح صوره. فكان بوسع الحاضرين أن يسلطوا الضوء على أهمية تغير المناخ وأن يروجوا لاستجابة شركاتهم له، ومع ذلك يرحبون بمساعي ترمب الرامية إلى إلغاء الضوابط والقيود التنظيمية، والتي من شأنها أن تسمح للولايات المتحدة، التي تُـعَد بالفعل رائدة على مستوى العالم من حيث نصيب الفرد في الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي، بالاستمرار في تلويث كوكب الأرض.
فضلا عن ذلك، وعلى الرغم من الأحاديث الكثيرة عن رأسمالية أصحاب المصلحة، فلم نجد أي مناقشة حول خفض أجور الرؤساء التنفيذيين والمديرين لتصحيح التفاوتات المتزايدة الاتساع في الأجور، أو العنصر الأول في المسؤولية الاجتماعية للشركات: أن تدفع حصتك العادلة من الضرائب من خلال كبح جماح التهرب الضريبي، وضمان حصول البلدان النامية على حصة عادلة من عائدات الضرائب. وقد دفع هذا روب كوكس، المحرر العالمي لصحيفة Reuters Breakingviews إلى الدفع باقتراح مفاده أن رأسمالية أصحاب المصلحة ربما تكون استراتيجية لزيادة الرؤساء والمديرين التنفيذيين تحررا من القيود والأغلال: فإذا فشلوا في تحقيق أهداف الربح، يمكنهم أن يغمغموا قائلين إنهم كانوا حريصين على تحقيق أهداف أوسع تتعلق بالبيئة والمجتمع والحكومة.
كما لم تكن الإصلاحات التي قد تزيد من قوة المساومة لصالح العمال، من خلال تعزيز النقابات والمفاوضة الجماعية، في قلب المناقشة، برغم أن مثل هذه الإصلاحات في أوروبا أصبحت على رأس أجندة المفوضية الأوروبية الجديدة. إحقاقا للحق، أوضحت بعض الشركات الأميركية مثل باي بال التزامها بدفع أجور ملائمة للعيش، بما يتجاوز كثيرا الحد الأدنى للأجور الذي يفرضه القانون.
مع ذلك، يبدو أن بعض قادة الأعمال في دافوس هذا العام، وخاصة أولئك من أوروبا، أدركوا مدى إلحاح الحاجة إلى الاستجابة لتغير المناخ ونطاق العمل المطلوب. كما اتخذ بعضهم بالفعل خطوات عملاقة. ربما لا يزال بعض "الغسل الأخضر" واردا ــ البنوك التي تتحدث عن المصابيح الكهربائية الموفرة للطاقة في حين تقدم القروض لمحطات الطاقة التي تعمل بالفحم ــ لكن المد قد تحول.
كما أدرك عدد قليل من قادة الأعمال أن أمراضنا الاقتصادية والاجتماعية لن تعالج ذاتها ــ وأنه حتى لو كانت أغلب الشركات محفزة اجتماعيا، فإن التركيز الضيق الأفق على الأرباح ينطوي على سباق إلى القاع. إن شركة المشروبات الغازية التي لا ترغب في إنتاج مشروبات غنية بالسكر والتي يمكن أن تساهم في إصابة الأطفال بمرض السكري تخاطر بالخسارة لصالح شركات أقل ضميرا.
باختصار، لعبت الرأسمالية غير المقيدة دورا مركزيا في خلق الأزمات المتعددة التي تواجه مجتمعاتنا اليوم. وإذا كان للرأسمالية أن تنجح ــ إذا كان لها أن تتمكن من علاج هذه الأزمات وخدمة المجتمع ــ فإنها قادرة على القيام بذلك في هيئتها الحالية. ولابد أن ينشأ نوع جديد من الرأسمالية ــ وهو ما أسميته في مجال آخر الرأسمالية التقدمية، التي تستلزم إيجاد توازن أفضل بين الحكومة والأسواق والمجتمع المدني.
ربما تكون المناقشة في دافوس هذا العام جزءا من تحرك في الاتجاه الصحيح، لكن إذا كان القادة يعنون ما يقولون حقا، فيجب أن نرى بعض الأدلة: شركات تدفع الضرائب والأجور الملائمة للعيش، كبداية، وتحترم ــ بل وحتى تدعو إلى ــ الضوابط التنظيمية الحكومية الرامية إلى حماية صحتنا وسلامتنا وعمالنا وبيئتنا.