الحجة لصالح الاقتصاد الجريء
بروجيكت سنديكيت
2019-03-13 06:56
داني رودريك
كمبريدج ــ في نهاية عام 1933، أرسل جون ماينارد كينز خطابا مفتوحا رائعا إلى الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت. كان فرانكلين ديلانو روزفلت تولى منصبه في وقت سابق من ذلك العام، في خضم ركود اقتصادي دفع بربع القوة العاملة إلى البطالة. أطلق روزفلت سياساته الطموحة بعنوان الصفقة الجديدة، والتي تضمنت برامج الأشغال العامة، وإعانات الدعم الزراعية، والضوابط التنظيمية المالية، وإصلاحات العمل. كما أخرج الولايات المتحدة من معيار الذهب لإعطاء السياسة النقدية المحلية قدر أكبر من الحرية.
وافق كينز على الاتجاه العام لهذه السياسات، لكنه أعرب أيضا عن بعض انتقادات حادة. فكان يخشى أن يتسبب روزفلت في تعقيد جهود التعافي الاقتصادي من خلال توسيع أجندته السياسية دون داع. لم يفعل روزفلت شيئا يُذكَر لزيادة الطلب الكلي، لكنه بذل قصارى جهده لتغيير قواعد الاقتصاد. كان كينز يستهدف بشكل خاص قانون التعافي الصناعي الوطني، الذي عمل، بين أمور أخرى، على توسيع حقوق العمال وتعزيز النقابات المستقلة إلى حد كبير. وقد أبدى قلقه الشديد من أن يتسبب قانون التعافي الصناعي الوطني في استنزاف ثقة الأعمال وإثقال كاهل البيروقراطية الفيدرالية، دون تقديم مساهمة مباشرة في تحقيق التعافي. وكان يرى أن بعض النصائح التي يتلقاها روزفلت "مختلة ومريبة".
لم يفكر كينز كثيرا في اقتصاد روزفلت، لكنه كان على الأقل ناقدا متعاطفا. ولأن قدرا كبيرا من الصفقة الجديدة كان متعارضا مع المعتقدات الاقتصادية التقليدية السائدة، فلم تحظ سياسات فرانكلين ديلانو روزفلت بقدر كبير من الدعم من جانب كبار أهل الاقتصاد في ذلك الزمن. على سبيل المثال، يشرح سيباستيان إدواردز في كتابه الحديث الرائع بعنوان العجز الأميركي عن سداد الديون، أن الرأي الغالب بين خبراء الاقتصاد كان أن كسر ارتباط الدولار بالذهب من شأنه أن يخلق حالة من الفوضى وعدم اليقين. وكان الاقتصادي المخلص الوحيد في "طاقم التفكير" الذي شكله روزفلت هو ريكسفورد توجويل، وهو أستاذ غير مشهور من جامعة كولومبيا وكان يبلغ من العمر 41 عاما، ولم يكن يدرس حتى لطلاب الدراسات العليا.
تُرى هل يثبت أهل الاقتصاد كونهم أكثر قدرة على المساعدة اليوم، في وقت حيث أصبحت التحديات التي تواجهنا على نفس القدر تقريبا من إلحاح تلك التي واجهتنا في فترة الكساد العظيم؟ قد لا تمثل البطالة مشكلة حادة في أغلب الدول المتقدمة حاليا، لكن شرائح كبيرة من قوة العمل تبدو معزولة عن التقدم الاقتصادي. الواقع أن مستويات التفاوت غير المسبوقة وفرص الدخل الهزيلة المتاحة للعمال الأكثر شبابا والأقل تعليما تتسبب في تآكل أسس الديمقراطيات الليبرالية. وأصبحت القواعد التي تقوم عليها العولمة في حاجة ماسة إلى الإصلاح. ويظل تغير المناخ يشكل تهديدا وجوديا.
تستلزم هذه المشاكل اللجوء إلى استجابات تتسم بالجرأة. ومع ذلك، يبدو أن خبراء الاقتصاد المنتمين إلى التيار السائد منشغلون في الأغلب الأعم بإصلاحات هامشية ــ تعديل قانون الضريبة هنا، وضريبة الكربون هناك، وربما بذل إعانات دعم الأجور ــ تترك هياكل السلطة التي تضمن قواعد اللعبة الاقتصادية دون مساس.
ربما يكون بوسع خبراء الاقتصاد أن يرتقوا إلى مستوى التحدي من خلال تبني رؤية أوسع. في الشهر القائت، انضممت إلى مجموعة من خبراء الاقتصاد البارزين لإطلاق مبادرة بعنوان "اقتصاد من أجل الرخاء الشامل". ومن أسواق العمل والتمويل إلى سياسات الإبداع والقواعد الانتخابية، يتلخص الهدف في التقدم بأفكار سياسية طموحة تولي اهتماما أكبر لأشكال التفاوت والإقصاء ــ واختلالات السلطة التي تنتج عنها.
كما أوضحت أنا وسوريش نايدو وجابرييل زوكمان في "بياننا"، لا يحظى عدد كبير من الأفكار السياسية السائدة في العقود القليلة الماضية بدعم الفِكر الاقتصادي السليم أو الأدلة المقنعة. كان ما يسمى الفِكر "النيوليبرالي"، في نواح كثيرة، انتقاصا للاقتصاد السائد. الواقع أن البحوث الاقتصادية المعاصرة، المنشورة على النحو اللائق، تُفضي بشكل كامل إلى أفكار جديدة لخلق مجتمع أكثر عدالة. وقد يكون الاقتصاد حليفا للرخاء الشامل. لكن الأمر متروك لنا نحن أهل الاقتصاد لإقناع جمهورنا بمدى صحة وجدارة هذه الادعاءات.
تتألف شبكتنا من اقتصاديين أكاديميين يؤمنون بأن الأفكار الجديدة يمكن تطويرها دون التخلي عن الدقة العلمية. والشعار الغالب في يومنا هذا هو "السياسة القائمة على الأدلة". وعلى هذا فإن ملخصات سياستنا تستند إلى التحليل التجريبي، باستخدام أدوات الاقتصاد السائد. ولكن من منظورنا، لا يُعَد النهج "القائم على الأدلة" نهجا يعمل على تعزيز المحافظين لصالح سياسات على هامش الترتيبات المؤسسية القائمة؛ بل هو نهج يشجع التجريب. ففي نهاية المطاف، كيف يمكننا تطوير أدلة جديدة دون تجربة شيء جديد؟
تعتمد الأسواق على مجموعة واسعة من المؤسسات لخلقها وتنظيمها وتثبيت استقرارها. ولا تأتي هذه المؤسسات في أشكال محددة سلفا. الواقع أن الممتلكات والعقود ــ وهي المؤسسات الأكثر أساسية اللازمة لتمكين الأسواق من العمل ــ تمثل هياكل قانونية يمكن تصميمها بأي عدد من الطرق. وبينما نتصدى للواقع الجديد الذي يخلقه الإبداع التكنولوجي وتغير المناخ، تصبح التساؤلات حول تخصيص حقوق الملكية بين مختلف المطالبين بالغة الأهمية. ولا يقدم الاقتصاد إجابات محددة هنا، لكنه يوفر الأدوات اللازمة لتحديد المقايضات والمفاضلات ذات الصِلة.
يتمثل أحد الموضوعات الشائعة التي تجري عبر مجموعتنا الأولية من المقترحات الخاصة بالسياسات في عدم تناسق السلطة والذي يشكل أداء الاقتصاد العالمي المعاصر. ويستبعد العديد من خبراء الاقتصاد الدور الذي تلعبه مثل هذه الاختلالات بسب عدم وجود مجال كبير للسلطة في ظل ظروف المنافسة الكاملة والمعلومات الكاملة. ولكن في العالَم الحقيقي الذي ندرسه، تتكاثر أشكال تباين وعدم اتساق السلطة.
لكن من له اليد العليا في المساومة على الأجور واستحقاقات العمل؟ من يهيمن على الأسواق ومن يجب أن يخضع لقوى السوق؟ من يمكنه التحرك عبر الحدود ومن بات عالقا في الديار؟ من يستطيع التهرب من الضرائب ومن لا يستطيع؟ من يشارك في وضع أجندة المفاوضات التجارية ومن يُستَبعَد من هذه المهمة؟ من يستطيع أن يصوت ومن يُحرَم من التصويت فعليا؟ نحن نزعم أن معالجة أوجه عدم التناسق هذه أمر منطقي ليس فقط من منظور توزيعي فحسب بل وأيضا لتحسين الأداء الاقتصادي الإجمالي. ويملك أهل الاقتصاد جهازا نظريا قويا يسمح لهم بالتفكير في مثل هذه الأمور.
على الرغم من احتلال خبراء الاقتصاد موقع يسمح لهم بوضع ترتيبات مؤسسية تتجاوز ما هو قائم حقا، فإن عاداتهم في التفكير على الهامش والالتصاق بالأدلة المتوفرة بين أيديهم يشجع النفور من التغيير الجذري. ولكن عندما يواجهون تحديات جديدة، يجب على أهل الاقتصاد أن يعكفوا على تصور حلول جديدة. والخيال هنا شديد الأهمية. لن تصادف كل محاولاتنا النجاح؛ ولكن إذا لم نجتهد في إعادة اكتشاف القيمة الكامنة في عقيدة فرانكلين ديلانو روزفلت ــ "التجريب الجريء المتواصل" ــ فسوف نفشل بكل تأكيد.