خبراء الاقتصاد ضد العلماء
النمو الطويل الأجل
بروجيكت سنديكيت
2018-03-06 05:49
KENNETH ROGOFF
كمبريدج ــ لم يكترث أغلب المتنبئين في عالَم الاقتصاد بالتطورات الأخيرة التي شهدها الذكاء الاصطناعي (عل سبيل المثال، القفزة الكمية التي أظهرها برنامج الشطرنج الذاتي التعلم ديب مايند في ديسمبر/كانون الأول الماضي)، فهم لا يرون في هذه التطورات تأثيرا كبيرا على اتجاه النمو الأطول أمدا. ومن المؤكد أن مثل هذا التشاؤم أحد الأسباب وراء بقاء أسعار الفائدة الحقيقية (المعدلة تبعا للتضخم) عند مستوى شديد الانخفاض، حتى إذا ارتفع سعر الفائدة على السند الأميركي القائد لعشر سنوات في الأشهر القليلة الأخيرة بمقدار نصف نقطة مئوية. وإذا كان التشاؤم على جانب العرض مناسبا، فإن التأثير الأكبر المترتب على حزم الضرائب والإنفاق الضخمة الأخيرة في الولايات المتحدة من المرجح أن يكون رفع التضخم وليس تعزيز الاستثمار.
هناك أسباب كثيرة للاعتراض على السياسة المالية الأميركية الأخيرة حتى لو كان خفض معدل الضريبة على الشركات منطقيا (وإن لم يكن بالقدر الذي أقره التشريع). فأولا، نحن نعيش في عصر يتسم باتساع فجوة التفاوت وانخفاض حصص العمل في الدخل نسبة إلى حصص رأس المال. ويتعين على الحكومات أن تبذل المزيد من الجهد لإعادة توزيع الدخل والثروة.
من الصعب أن نعرف في أي شيء يفكر الرئيس الأميركي دونالد ترمب عندما يتباهى بأن سياساته ستحقق نموا قد يصل إلى 6% (ما لم يكن يتحدث عن الأسعار، وليس الناتج!). ولكن إذا تجسدت الضغوط التضخمية حقا فإن النمو الحالي ربما يدوم لفترة أطول كثيرا مما يعتقد المتنبئون والأسواق.
في كل الأحوال، يركز تشاؤم خبراء الاقتصاد على النمو في الأجل الطويل. ويرتكز موقفهم على اعتقاد مفاده أن الاقتصادات المتقدمة من غير الممكن أن تأمل في تكرار الدينامية التي تمتعت بها الولايات المتحدة في الفترة من 1995 إلى 2005 (وغيرها من الاقتصادات المتقدمة في وقت لاحق)، ناهيك عن أيام الرخاء في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
ولكن يتعين على المشككين أن يضعوا نصب أعينهم حقيقة مفادها أن العديد من العلماء، عبر مختلف التخصصات، ينظرون إلى الأمور بشكل مختلف. يعتقد الباحثون الشباب على وجه الخصوص أن التطورات في المعرفة الأساسية تظل على سرعتها المعهودة، حتى وإن كان تطوير التطبيقات العملية يستغرق وقتا طويلا. والواقع أن طائفة صغيرة ولكنها مؤثرة من الباحثين تروج لنظرية "التفرد" لعالِم الرياضيات المجري الأميركي جون فون نيومان. فذات يوم، سوف تصبح الآلات المفكرة متطورة إلى الحد الذي يجعلها قادرة على اختراع آلات أخرى دون أي تدخل بشري، وعلى نحو مفاجئ تتقدم التكنولوجيا أضعافا مضاعفة.
إذا كان الأمر كذلك فربما ينبغي لنا أن نشعر بقدر أكبر من القلق بشأن العواقب الأخلاقية والاجتماعية المترتبة على النمو المادي الأسرع من أن يستوعبه البشر روحيا. يتركز الخوف الشديد من الذكاء الاصطناعي في الأغلب على التفاوت بين الناس ومستقبل العمل. ولكن كما حذرنا كُتَّاب الخيال العلمي لفترة طويلة فإن التهديدات المحتملة الناشئة عن ولادة أشكال "الحياة" القائمة على السليكون مخيفة حقا.
من الصعب أن نعرف من على حق: فلا أهل الاقتصاد ولا العلماء يتمتعون بسجل أداء عظيم عندما يتعلق الأمر بالتنبؤات الطويلة الأمد. ولكن في اللحظة الراهنة، وبصرف النظر عن إمكانية اندلاع معركة بين الإنسان والآلة، يبدو من المعقول تماما أن نتوقع ارتفاعا كبيرا في نمو الإنتاجية خلال السنوات الخمس المقبلة.
من المعلوم أن المكونات الرئيسية للنمو الاقتصادي هي الزيادات في قوة العمل، والزيادات في الاستثمار (العام والخاص)، و"الإنتاجية"، أي على وجه التحديد الناتج الذي يمكن إنتاجه بالاستعانة بكمية معينة من المدخلات، بفضل أفكار جديدة. وعلى مدار السنوات العشر إلى الخمس عشرة المنصرمة، كانت العناصر الثلاثة جميعها منخفضة بدرجة محزنة في الاقتصادات المتقدمة.
فقد تباطأ نمو القوة العاملة بشكل حاد نظرا لانخفاض معدلات المواليد، مع عجز الهجرة عن التعويض عن النقص حتى في أميركا ما قبل ترمب. وقد لعب تدفق النساء إلى قوة العمل دورا كبيرا في تعزيز النمو في الجزء الأخير من القرن العشرين. لكن هذا بلغ منتهاه إلى حد كبير الآن، وإن كان بوسع الحكومات أن تبذل المزيد من الجهد لدعم مشاركة الإناث في قوة العمل وتحقيق المساواة في الأجور.
على نحو مماثل، انهار الاستثمار العالمي منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 (ولكن ليس في الصين)، الأمر الذي أدى إلى انخفاض النمو المحتمل. كما انحدر نمو الإنتاجية القابل للقياس في كل مكان، فهبط إلى النصف تقريبا في الولايات المتحدة منذ طفرة التكنولوجيا في منتصف تسعينيات القرن العشرين. ولا عجب أن تكون أسعار الفائدة الحقيقية العالمية شديدة الانخفاض، في حين تطارد المدخرات المرتفعة في مرحلة ما بعد الأزمة مددا أصغر من فرص الاستثمار.
ومع ذلك فإن أفضل رهان هو أن تأثير تطبيقات الذكاء الاصطناعي وغير ذلك من التكنولوجيات الجديدة على النمو سيكون أكبر كثيرا من التأثير الذي خلفته حتى الآن. من المعروف أن الأمر قد يستغرق وقتا طويلا للغاية قبل أن تعيد الشركات تخيل العمليات الإنتاجية لاستغلال التكنولوجيات الجديدة: وتعد السكك الحديدية والكهرباء من الأمثلة الرائدة هنا. ومن المرجح أن يعمل ارتفاع النمو العالمي كمحفز للتغيير وخلق الحوافز لحمل الشركات على الاستثمار وتقديم تكنولوجيات جديدة، والتي سيحل بعضها محل العمل، مما يعوض عن التباطؤ في نمو قوة العمل.
مع تلاشي الآثار المترتبة على الأزمة المالية، وربما بدء الذكاء الاصطناعي في اكتساب المزيد من الثِقَل، فربما يظل اتجاه نمو الناتج في الولايات المتحدة قويا بسهولة على مدار السنوات العديدة المقبلة (وإن كان الركود أيضا من الاحتمالات الواردة بطبيعة الحال). وسوف يكون الارتفاع المقابل المحتمل في أسعار الفائدة العالمية الحقيقية أكثر مخادعة من أن يتمكن القائمون على البنوك المركزية من الإبحار عبره. وفي أفضل الأحوال، سوف تتمكن البنوك المركزية من "ركوب الموجة"، كما فعل ألان جرينسبان في تسعينيات القرن العشرين، وإن كان المزيد من التضخم أكثر ترجيحا هذه المرة.
الخلاصة هنا هي أن لا صناع السياسات ولا الأسواق ينبغي لها أن تراهن على استمرار النمو البطيء، الذي دام خلال العقد المنصرم، إلى العقد المقبل. لكن هذه الأخبار قد لا تكون موضع ترحيب تام. فإذا كان العلماء على حق، فربما نندم على النمو الذي نحصل عليه.