العولمة والرأسمالية: وجهان لهيمنة صندوق النقد الدولي على الاقتصاد
ندى علي
2017-10-24 06:21
ان العداء الذي يكنه جمهور العاملين والمواطنون الفقراء في جنوب شرق اسيا وفي اوربا الشرقية وامريكا اللاتينية لصندوق النقد الدولي، لم يجلبه الصندوق لنفسه بنفسه فحسب، بل هو ايضاً يدفع بضع من الحكومات الى التحدث عنه بلهجة نقدية مشوبة دائماً بالتذمر منه، بيد ان هذه اللهجة لاتشير الى معارضة، حقيقية صادقة المقصد بل محاولة يستعان بها- في زمن الحملات الانتخابية بشكل خاص- لتقمص مظهر "تقدمي"، فلا حكومة واحدة تجرأت حتى الان على تعليق علاقاتها بالصندوق، وهذه الحقيقة ليست بالامر الغريب في الواقع قرار من هذا القبيل يعني ان البلد المعني قد قطع على نفسه في الحال الطرق الموصلة الى تدفقات رأس المال الدولية، وارتضى لحكومته ان تسقط ان عاجلاً او أجلاً .
على الرغم من ذلك اخذت وسائل الاعلام الدولية ومن يسمي نفسه خبيراً الانتقادات الموجهة من البعض الى الصندوق على محمل الجد، متنبئة "بتبدد اهميته" مستقبلاً، بل زاعمة ان نهايته المحتومة امست وشيكة الوقوع وتبنى وجهة النظر هذه العديد من المنظمات المعادية للصندوق، مساهمة من جانبها في ابعاده عن خط النار، وتمييع الاحتجاجات عليه في الدول الصناعية الغربية بشكل خاص، فما نفع النضال ضد مؤسسة مكتوب عليها الهلاك اصلا؟!
بيد ان هذا التقيم للوضع لا يجسد الحقيقة لا من قريب ولا من بعيد، ففي نهاية الالفية الثانية وبداية الالفية الثالثة كان من حق مصارف الوول ستريت وقيادات الشركات الدولية العملاقة والمسؤولين في وزارة الخزانة الامريكية، ان تنشرح صدورهم لما تحقق وان يستبشروا خيرا بما هو ات.
فعلى الرغم من الازمات الكثيرة التي اجتاحت العالم في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، نجح صندوق النقد الدولي في استعادة الهيمنة على اسواق ظلت مقفلة في وجه رأس المال على مدى عقود كثيرة من الزمن، وافلح من تمكين المستثمرين من جني ارباح وفيرة، حتى في ازمنة عمتها ازمات اقتصادية كبرى، واستطاع فضلا عن هذا وذاك قطع الشك باليقين، مبينا بنحو لا يقبل الخلاف ماهية الطرف صاحب القول الفصل في مسائل السياسات الاقتصادية والمالية في العالم اجمع.
الصندوق اثبت مكانته في نصف قرن
وعلى خلفية هذه النتائج الباهرة، لاشك ان السؤال هنا يدور في واقع الحال حول وهن صندوق النقد الدولي المزعوم، بل يدور في الحقيقة حول سبب القوة والعزة اللتين حازهما الصندوق في غضون نصف قرن من الزمن لاغير، كيف استطاعت مؤسسة مالية لا يصل عدد العاملين فيها الى ثلاثة الاف مستخدم غالبيتهم عملوا سابقا في دوائر ومكاتب واشنطن، نعم كيف استطاعت مؤسسة مالية من هذا القبيل، ان تتمتع بموقف متميز على المستوى العالمي، وفريد في التاريخ؟ وكيف نجحت هذه المؤسسة في ان تترك بصمتها على حياة جزء معتبر من البشرية بشكل مستديم، وبصورة عابرة للحدود الدولية؟
ان الامر الحاسم في الاجابة عن هذا السؤال لا يعثر عليه المرء لا في البنية الهيكلية السائدة في الصندوق ولا في الخصائص الفريدة السائدة في هيئاته القيادية، حقا يجند الصندوق الجزء الاعظم من موظفيه من الافراد المتخرجين من جامعات النخب الامريكية والاوربية، بيد ان الامر الواضح ايضا هو ان المرء لايلمس لدى موظفي الصندوق مؤهلات التفكير الاستراتيجي او قدرات ثقافية متميزة او تفوقا ذا بال في مجال اختصاصهم، فالتنبؤات التي قدمها الصندوق بشأن التطور الاقتصادي في دول العالم المختلفة دحضها الواقع في كثير من الاحيان، ولم يفلح واحد من اقتصادييه القياديين في التنبؤ بنحو صحيح ولو بواحدة من الازمات الدولية الكبرى، التي اجتاحت العالم في ماضي الايام، اضف الى هذا ان تدخلاته قد تركت في كثير من الاحيان الانطباع بان تعامله مع التطورات المستجدة كانت تتصف في اغلب الاحيان بالمبالغة والانانية ولا تنم عن ردود فعل محسوبة بدقة ومدروسة بالنحو المطلوب، وهكذا واذا كان سبب نجاحه لا يكمن في كفاءته هو نفسه ولا في كفاءات العاملين لديه فعندئذ لا مندوحة للمرء من ان يفترض ان لنجاحه سببا واحدا لاغير، سببا لابد ان يكمن في محيطه او في الظروف التي يعمل الصندوق في ظلها.
من وراء نجاح الصندوق؟
ان هذا الامر هو الذي يقدم لنا الحل الصحيح لهذا السؤال المحير، فهذه الظروف طرأت عليها، منذ تأسيس الصندوق عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، تغيرات جوهرية، تغيرات ساهمت في اندلاعها عوامل كثيرة، كان في مقدمتها: انهيار نظام بريتون وودز، وتعاظم ابعاد العولمة، وما افرز هذا التعاظم من تدهور في دور حركة النقابات العمالية الدولية، واعادة النظام الرأسمالي الى الاتحاد السوفيتي والى الدول الدوائر في فلكه وتزايد اهمية القطاع المالي على نحو متواصل ومتصاعد منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين.
ان العولمة، وهي تشابك ربوع العالم اقتصادياً ومالياً بشكل متين ومتصاعد ساهمت من جانبها في تعزيز هذه المكانة الخاصة للصندوق وتوسيع رقعتها، ففيما جرى ابتداء من منتصف سبعينيات القرن العشرين نقل اجزاء معتبرة من الانتاج الصناعي من الدول الصناعية الرائدة الى اسيا بشكل خاص ادى الجزء الاعظم من الارباح المتحققة هناك، يتدفق ثانية، وبنحو مباشر على الدول الصناعية الرئيسية وفي سياق التفتيش عن فرص استثمارية جديدة في ربوع المعمورة ادى صندوق النقد الدولي دوراً حاسماً في تقييم اهلية او صلاحية البلد المعني للحصول على قروض، وفي مدى اذعان هذا البلد لتنفيذ اصلاحات هيكلية قائمة على مبادىء الليبرالية الحديثة ففي هذا السياق وبالنسبة الى كبار المستثمرين بات الصندوق يمارس بشكل او بآخر دور المرشد الى فرصهم الاستثمارية العالمية والدليل على مدى تمتع اسثماراتهم بالامان المنشود.
ان ارتقاء الولايات المتحدة الى مصارف القوى العظمى تحقق في الحقبة السابقة على اندلاع الحرب العالمية الثانية بفضل الاهمية المتزايدة التي اكتسبها القطاع المالي، وكانت مصارف الاستثمار اهم قوة دفع لهذا التطور- علماً ان هذه المصارف كانت تضارب بودائع زبائنها، من دون علمهم في كثير من الاحيان ومن دون اهتمام كبير بالمخاطر الكامنة في عمليات المضاربة.
وكان انهيار بورصة نيويورك في العام 1929، واندلاع ازمة الكساد الكبير وتأزم الاقتصاد العالمي برمته، من ثم ما تلا هذه الازمة العظيمة من تعرض جماهير غفيرة من المواطنين الاميركيين الى فقر خطير قد تسبب في خسارة الكثير من هؤلاء المواطنين الجزء الاعظم من مدخراتهم التي كانوا قد اودعوها في حساباتهم الادخارية، اعتقاداً منهم انها امنة لا خطر يحف بها وغني عن البيان ان الغالبية العظمى من هؤلاء المواطنين كانت من الجماهير العمالية، وان تبدد مدخراتها قد اجج غضبها ونقمتها على المصارف.
تأثير الرأسمالية والاستقراطية المالية
وايضاً من جهة اخرى ادى التحول الجذري في طبيعة الرأسمالية، الى التوسع العظيم في تراكم الارباح الى تبلور ظاهرة ماكان لها مثيل في التأريخ الرأسمالية حتى ذلك الحين: ان تركز الثروات بأيدي حفنة اغنياء يمتلك الواحد منهم مليارات الدولارات ادى في حقيقة الامر الى نشأة "ارستقراطية مالية"، تتكون من بضع مئات من الافراد والعائلات وباتت بفضل ثرائها الفاحش وثرواتها الاسطورية اعظم قوة دولية من كل الوجوه وذلك لانها ماعادت تهيمن على التجارة والانتاج والاقتصاد المالي فحسب، بل امست ايضاً تسيطر وتترك بصماتها على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية في العالم اجمع وخلافاً لآستقراطية العصور الوسطى، لايتركز سلطان هذه الحفنة، التي يطلق عليها المصرفيون لقب "اغنى اثرياء العالم" على اقليم محدد، بل هو عالمي الابعاد وتشكل " اسواق المال" اهم وسيلة لممارسة سلطانها.
كما تتوافر النخبة المالية على مؤسسات " صناعة الرأي" المكلفة بتطوير استراتيجيات سياسية مفصلة على مقاسها بالضبط، كما تمول النخبة المالية الحملات الانتخابية الخاصة بسياسيين يدافعون عن مصالحها الخاصة، ويتكفلون من خلال تدخلاتهم بأسواق المال، بتنفيذ استراتيجياتها وتوظف كل المناحي الاقتصادية والاجتماعية لما يخدم هدفها الرئيسي: زيادة ثروتها ان النخبة المالية تشكل ماليا اغنى واقتصاديا اقوى جماعة، شهدتها المعمورة حتى الان وغني عن البيان ان صندوق النقد الدولي، احد اهم وسائل قوتها وسلطانها.