اقتصاد عالمي متأزم: من التفاوت الاجتماعي الى بنوك فوق القانون

ندى علي

2017-10-23 05:00

بات العالم منذ العام 2011 على ادنى تقدير يسترد قوته ويتماثل للشفاء اقتصادياً ومالياً، من الانهيار الذي عصف به في العام 2007، نضيف الى هذا ان صحفيين من كل ارجاء المعمورة لايدخرون جهداً في التأكيد على انهم يكتشفون بلا انقطاع مؤشرات جديدة تشير الى وجود بوادر تطور ملموس، عارضين هذه المؤشرات على الرأي العام كدليل على وجود تعاف "مستدام"، ويوجد في الوقت ذاته سيل جارف من انباء تشير الى ان النظام المالي الدولي بات قاب قوسين من الانهيار وانه آيل الى السقوط في الهاوية خلال بضعة ايام او اسابيع قادمة، على صعيد اخر انتشرت في سوق الكتب، اطراف تصنع "الانهيار" بكل معنى الكلمة اطراف تجعل من "الانهيار" صناعة يسيطر عليها كتباً، لاشغل لهم غير التبؤ بموعد السقوط في الهاوية ولاهم لهم غير اشباعهم ملايين القراء للتبؤات المشيرة الى نهاية العالم.

وما من شك، في ان تعايش كلا الاتجاهيين جنباً الى جنب يعود الى ان الوضع الراهن يتسم بخاصية فريدة حقاً وحقيقة، خاصية هي في الواقع حصيلة نتجت عن تطور لم ير العالم مثيلاً له حتى الان ولايمكن تفسيره بيسر، وعلى الرغم من هذا فأن من الخطأ الاعتقاد ان الاقتصاد العالمي في طريقه للتعافي ان العكس هو الصحيح: فكل الاجراءات التي جرى تنفيذها منذ اندلاع الامة المالية في العام 2007، بهدف بث الاستقرار في النظام اسهمت بلا استثناء في اضعاف هذا النظام بنحو مستديم وفي جعله اكثر تعرضاً للاختلالات واشد استسلاماً للاضطرابات.

ان المديونية العالمية التي كانت في العام 2007 لاتزيد على 70 بليون دولار امريكي، ارتفعت حتى منتصف العام 2013 الى 100 بليون دولار.

تزايد وتيرة المخاطر الاقتصادية

فحيثما اصطدمت المصارف بقيود قانونية، فأنها دأبت على نقل نشاطاتها في الحال الى تنظيم غامض لايلتزم باي شفافية، نعني هنا انها دأبت في مثل هذه الاحوال على نقل نشاطاتها الى مصارف الظل، فوفق التقديرات الحذرة، يخفي هذا النظام الغامض في اوربا فقط 21 بليون يورو، وعلاوة على المضاربة الهوجاء، ادى الفزع من التضخم ايضاً الى اندلاع طلب كبير على القيم العينية، وبالتالي الى خلق ضغوط شديدة في اسواق العقارات الدولية ونشأت فقاعات كبيرة في الاسواق المختلفة وكما تبين لاحقاً انطوى التوسع الكبير في منح القروض الى الدول الصاعدة على تطور غاية في الخطورة وعلى الرغم من كل التجارب المستقاة من ازمة امريكا اللاتينية وازمة اسيا في القرن المنصرم فأن القروض التي منحتها المصارف الدولية العملاقة الى هذه البلدان، ارتفعت قيمتها الضعف، بين العاميين 2008 و2013 وفي مطلع العام 2104، بلغت مديونية الدول الصاعدة مستوى مثيراً للفزع: لقد وصلت الى 9,1 بليون دولار امريكي.

ان هذه الارقام لاتترك مجالاً للشك: المخاطر الحافة بالاقتصاد المالي العالمي لم تخف شدتها ابداً، بل ازدادت شدة واتساعاً بنحو كبير، كما انها تبين اي الارقام المشار اليها انفاً ان الصناعة المالية تصبح اكثر حذراً او اكثر حيطة على خلفية الازمة المالية، ان العكس هو الصحيح: فالمؤسسات المالية الكبيرة ماعادت منذ العام 2007 تتفادى المخاطر، بل امست تدخل بصفقات ليست خطرة فحسب بل شديدة المخاطر ايضاً مقارنة بالسنوات السابقة للعام المذكور، فأسباغ صفة "مهم بالنسبة الى النظام" منح المصارف الدولية العملاقة وضعاً خاصاً لا مثيل له في التأريخ الاقتصادي، حقاً جرى في سابق الزمن انقاذ مشروع مامن التعرض الى انهيار كلي، غير ان اعتبار فرع مامن الفروع الاقتصادية جزءاً لايمكن للاقتصاد العالمي الاستغناء عنه بأي حال من الاحوال، والنظر اليه بالتالي على انه دائماً وابداً- ان هذا كان ولايزال حتى اليوم الحاضر امراً فريداً حقاً وحقيقة.

مصارف فوق القانون

وحتى بالنسبة الى اكثر مصارف الاستثمار ازدادت اقبالاً على المخاطر، فالملاحظ هو ان الحقبة السابقة للعام 2007 كان يوجد فيها خط احمر يحدد لهذه المصارف مستوى المخاطر المسموح بها- الخوف من الافلاس وغني عن البيان ان هذا الخط الاحمر لاوجود له بالنسبة الى المصارف التي صارت من الاهمية بمكان، بحيث ماعاد يجوز تركها تعلن الافلاس، ان هذه المصارف تستطيع الاقدام على اي خطر يحلو لها، بلا خوف من ان تخسر وجودها بهذه المجازفة او تلك بيد ان هذا هو ليس كل ما في الامر: ان هذه المصارف مسموح لها بأن تضع نفسها فوق القانون، كما تشهد على ذلك السنوات المنصرمة، وان تتصرف كما ولو كانت فوق القانون من غير ان يتعرض المسؤولين فيها للمحاسبة.

ان هذه المصارف تمارس اعمالاً جنائية بكل تأكيد، فهي تقوم في وقت واحد بتصريف البضائع المالية التي تقوم هي نفسها بالمراهنة عليها، وتضارب بنحو مخالف للقوانين على العملات الاجنبية وتتورط في فضيحة الليبور الذائعة الصيت (اي معدل الفائدة السائد بين المصارف في السوق النقدي في لندن)، وتتعرض مكاتب قياداتها الى الكثير من الحملات البوليسية التفتيشية ويلاحق القضاء في فرانكفوت ولندن وزيورخ ونيويورك كبار موظفيها، ويعلق تقديمهم للقضاء لقاء فرضه عقوبات نقدية عليهم، وان هذه الاعمال الجنائية في قمة جبل جليد عائم لقد اسبغت السياسة على هذه الجامعة من البشر امتيازاً صار بموجبه مسموحاً لهم بأن يمارسوا عملياً كل مايحلو لهم من سلوكيات ناشزة وبلا ضمير يؤنبهم.

تطورات مريبة

وكانت النتيجة التي تمخضت عن هذا كله هي ان اهم التطورات الثلاثة التي جرى رصدها في السنوات الماضية لم تواصل تقدمها بلا حاجز يفق في طرقها فحسب، بل اخذت تتسارع ايضاً بوتائر متصاعدة: تركز القوة الاقتصادية والمالية بأيدي مشاريع يتناقص عددها من يوم لآخر، وتركزت الثروات المتزايدة بنحو دؤوب بأيدي ثلة صغيرة مكونة من اغنى الاغنياء، وتراجع الاكثرية لمصلحة تزايد امتيازات اقلية صغيرة بكل معنى الكلمة.

فوفق دراسة نشرتها الجامعة التكنولوجية في زيورخ امسى 80% من حجم المبيعات العالمية بأيدي 1,7% من المشاريع العابرة للجنسيات، وان 147 شركة عملاقة تسيطر بمفردها على 40% كم هذه المبيعات ولايختلف الامر كثيراً بالنسبة الى الثروة الخاصة: فنحو 5الى10% من الاغنياء يستحوذون على 80% من ثروة العالم.

غير ان هذه الارقام ليست الامر الوحيد الذي يثير الرهبة، لان تزايد سرعة هذا التركي في السنوات الاخيرة هو في المقام الاول الامر الاكثر اثارة للقلق، فعلى المستوى العالمي، ارتفع عدد المليارديرات خلال الفترة الواقعة بين العامين 2006 و2013 من 793 الى 2170 وخلال الفترة الواقعة بين العامين 2009 و2013 انضم الى هذه المجموعة 880 مليارديرا، ومن المتوقع ان يتزايد عدد هذه المجموعة بنحو 250 مليارديراً في كل عام، والملاحظ هو ان ثروة اغنى الاغنياء ارتفعت الى اكثر من الضعف.

الهوة المجتمعية

وكانت حصيلة هذا التطور المتسارع هو ارتفاع الهوة بين اكثر المعايير اهمية في المجتمعات البشرية_ ارتفاع التفاوت الاجتماعي الى مستوى لامثيل له في التاريخ، فلم يحدث في التاريخ ابداً ان يصل مستوى التفاوت الاجتماعي الى ماوصل اليه في اليوم الحاضر، ان هذا الوضع المفزع ليس النتيجة المنطقية لطريقة عمل النظام السائد فقط، هذا النظام الذي يجعل من كسب الربح اسمى اهدافه، بل هو ايضاً مؤشر واضح على المستقبل الذي ينتظر العالم في السنوات المقبلة.

ان السياسة الليبرالية الحديثة المتبناة من قبل صندوق النقد الدولي هي التي حتمت علينا في عقود الزمن الماضية ان نعيش في عالم برز فيه مستوى اللامبالاة كل المستويات التي سادت في العوالم التي عرفناها حتى الان، بيد ان هذا ليس كل ما في الامر فعلاوة على ماقلناه، فان الملاحظ ايضاً هو ان التوترات الاجتماعية تتزايد بسرعة لاقرينة لها في التاريخ وان الاجراءات التي نفذت في السنوات المفرطة بغية التغلب على الازمة، لم يسفر اجراء واحد منها عن تحسن بالوضع، ويمكن تلخيص نتائج هذه التطورات على النحو التالي: ان الجماهير العمالية تسيطر عليها لولبية تتجه بها الى المنحدر بصورة حتمية وبلا حاجز يقف في وجهها او يستطيع قلبها رأساً على عقب، نعم هذه الجماهير تسيطر عليها حركة لولبية تخفض مستواها المعيشي دوماً، وتحتم ان يكون كل اجراء مستقبلي اكثر وبالاً عليها من الاجراء السابق عليه، بيد ان هذا كله لن يكون بلا نتائج فالتاريخ يبين بجلاء ان المعايشات الاجتماعية المهلكة للاعصاب تتمخض عادة عن غضب عارم له ديناميته الخاصة وله طاقة كامنة فيه حقاً تنشأ هذه الدينامية خلال حقب زمنية طويلة وانها قد تطفو على السطح من حين الى اخر، وتخف من ثم فتبدو كأنها على وشك الاختفاء نهائياً، بيد انها تظل في الواقع مهيأة للانفجار في اي لحظة والتحول بالتالي الى ثورة عارمة لاتبقي ولاتذر.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي