اقتصاديات الخيال وادارة الابداع

ندى علي

2017-08-16 05:20

ان الاعمال التجارية مبدعة مثلها مثل اي شيء اخر، فالاعمال تحدث الافكار ومن شيء جاف مثل اجتماع مجلس ادارة قد يحدث تداع الافكار فيؤدي الى احداث المزيد من الافكار ويعمل على تشجيعها، وللاعمال التجارية نفس القدر من الابداع كتأليف الكتب الا انها ليس ذاتية مثلها، وقد تكون الفكرة في الاعمال شخصية، اما تنفيذها فليس كذلك، فعندما يكتب غيلدوف وهو مؤسس لايف ايد ورجل اعمال الانترنت مؤلفاته، يبقى كل من العمل والاداء ملكا له، الا ان افكاره التجارية سرعان ما تفقد لمستها الشخصية، وتنفتح على السوق.

واكثر ما يرضي غيلدوف هو مؤلف ينجح، فهو مستثمر في موهبته، وهو ليس مقاولا بالمعنى البسيط للكلمة، فقد تكون البساطة مصطلحا غير مناسب لاي من الدورين، فهو واضح وضوحا تاما بكل ما للكلمة من معنى.

اقتصاديات الخيال

يعتقد بعض الاشخاص ان الابداع والادارة لاينسجم احدهما مع الاخر، وان الابداع والاقتصاد يدمران بعضهما، ومن المهام التي تقع على عاتق الادارة في حل هذا التوتر، وجعل الناس اكثر ابداعاً وليس اقل ابداعاً.

تبدأ ادارة الابداع بفهم الاقتصاد، فعلى الادارة التعامل مع نظامين متداخلين للقيم، احدهما قائم على المنتجات المادية والاجهزة والمنصات الملموسة والتي تحمل سمات العناصر المادية الاخرى، اما الاخر فهو قائم على الملكية الفكرية غير المادية، والتي تحمل خصائص اقرب الى الغرابة، والاقتصاد العام قادر على تفسير النظام الاول بما انه مشابه الى البضائع وللخدمات التحويلية التقليدية، الا انه يفقد قدرته عند تفسير النظام الثاني، اذ يمكنه على سبيل المثال تفسير تصنيع كتاب مثل البضائع المادية، الا انه اقل جدارة في تفسير الكلمات والصور التي في داخلها، وهو خبير في عملية تصنيع حبة دواء الا انه ليس بهذه المهارة بما يتعلق ببراءة الاختراع التي تعتمد عليها قيمة الحبة.

ويعود ذلك الى الطبيعة غير التنافسية للافكار، اذ يمكن حيازة فكرة من دون ان تتأثر هذه الحيازة بحيازة مليون شخص اخر لها، وعلى النقيض، فعندما نملك او نستأجر مكاناً فليس لأحد ان يستخدمه، اما اذا كانت هذه الطبيعة اللاتنافسية امراً حسناً ام سيئاً، وما اذا كانت تحسن قيمتها الاقتصادية او تدمرها، فهذا يعتمد على الادارة.

الركوب المجاني للافكار

الطبيعة غير التنافسية تشجع على الركوب المجاني بمعنى الاستفادة من افكار الاخرين من دفع شيء بالمقابل، ويستخدم الناس الركوب المجاني لتحسين معارفهم ومهاراتهم، وتنص قوانين براءات الاختراع صراحةً على ضرورة الكشف للتأكد من ان الافكار غير تنافسية ولتشجيع الركوب المجاني، اما من وجهة نظر المزود، فأن حتمية الركوب المجاني تقصر دورة حياة المنتج ودورة حياة التقانية، فالاسبقية في دخول السوق هي ميزة تنافسية كبرى، الا انه ماهو متاح من الوقت امام المبتكر قبل ان يبدأ الاخرون بالمنافسة ليس طويلاً، وتستفيد بعض الشركات من هذه الضرورة فتخفض اسعارها او تتخلى عن منتجاتها بسرعة، وهي على علم بأن المنافسين سيتمكنون من التحرك سريعاً، وكلتا هاتين الخاصيتين تنطبقان على الافكار في جميع الصناعات الا ان اثرهما يتضاعف عندما تصبح الفكرة منتجاً.

ان الاقتصاديين لاينفكون يتجادلون بحدة حول الفائدة الاجتماعية للتبادل، اذ يقول بعضهم ان اي قيد على الافكار يعوق الابداع، وينحدر بالتنمية الاقتصادية ويسيء الى توزيع الموارد، بينما يقول اخرون انه من الضروري وجود نوع من الاحتكار لمكافأة المبتكرين، وهذه الاحتكارات هي وسيلة جيدة لتوزيع الموارد.

ومن الخصائص الاخرى للافكار ان كلفة نسخ فكرة ومضاعفتها غالباً ماتكون مهملة وجميع المعارف والمهارات التنافسية وغيرها من المدخلات الفكرية الضرورية، تلزم في مراحل التفكير والبحث والتطوير، وماهي ما ان تتوفر او تصنع حتى تصبح تكلفة نسخ المنتج غير ذات اهمية.

وتنطوي ادارة الابداع قبل كل شيء على معرفة متى تستغل الطبيعة غير التنافسية للافكار، وثانيأ متى يتم التأكيد على حقوق الملكية الفكرية ومتى يجب جعل الافكار التي على شكل منتجات تنافسية، وتقع نقطتا القرار في صميم عملية الادارة.

وهكذا فأن الفرق بين اقتصاديات الابداع والاقتصاديات التقليدية يكمن في الدور المركزي الذي يلعبه الفرد، فمنذ ايام آدم سميث لم تفتأ الاقتصاديات التقليدية تتمحور حول الشركة في اطار الاعتقاد بأن الشركات اكثر فعالية من الافراد في تحديد الموارد وفي استغلالها، فتقسيم العمل الذي طرحه سميث يصبح اسهل بكثير عندما يكون جميع من يساهمون في العمل من موظفي الشركة، وعندما بين الاقتصادي رونالد كويز في ثلاثينيات القرن العشرين ان للشركات تكاليف اجرائية اقل من الافراد، كان الدور المركزي للشركة لايزال يبدو حاسماً، الا ان المبدعين ومن خلال اعمالهم لخيالهم ليسو معتمدين على المنظمات الى الحد ذاته، فهم لايحتاجون الى موارد كبيرة من رأس المال وتجهيزات، وغالباً ماتكون لديهم تكاليف اجرائية منخفضة.

كما انهم غير عقلانيين. ففي فترة من الزمن، وهو ماكان واضحاً في الفترة الممتدة بين اربعينيات وثمانينيات القرن العشرين، كان منظرو الاقتصاد يفترضون ان الافراد يعملون بطريقة عقلانية لزيادة انتفاعهم ورضاهم الشخصيين، والا لكانوا يعملون ضد مصالحهم الخاصة، كما كانوا يفترضون ان الشركات تعمل على نحو منطقي استجابة لمعلومات السوق بحيث تصل بأرباحهم الى حدها الاقصى، والا لأستاء المساهمون، بل وربما الموظفون ايضاً.

الا ان الفرد المبدع ليس فقط حراً في ان يكون غير عقلاني، بل انه يتحرك بطريقة اكثر مفاجأة ويحدث المزيد من القيمة، المزيد من الجدة وبخطوات اكثر اختراعية بهذه الطريقة، وهكذا فأن ريتشارد ثيلر من جامعة شيكاغو الذي درس علم نفس واقتصاد اتخاذ القرار، والذي اعاد اللاعقلانية الى الاتجاه السائد في الاقتصاد، يقول انه "من العقلاني ان نشمل اللاعقلاني"، ولربما تكون كلمة ذاتي او خيالي انسب من غير عقلاني، اذ يصف قاموس افريمان للاقتصاد الشركة على انها جزيرة من الطاقة الواعية، انها صورة قوية بل انها تنطبق اكثر على الفرد وعلى استخدام الخيال الابداعي.

العوائد المتناقصة

ان قانون العوائد المتناقصة الذي كان ديفيد ريكاردو اول من صاغه في العقد الثاني من القرن التاسع عشر والذي يشكل احد حصون نظرية الاقتصاد الحديثة، اذ ينص هذا القانون على ان كل من عوامل الدخل الاضافية للمنتج، والتي تشتمل عادةً على الموارد المادية والعمل، يزداد صعوبة وتكلفة في التحصيل وانه ولهذا السبب وعند نقطة معينة تتجاوز تكلفة انتاج كل وحدة جديدة من منتج العوائد التي ينتظر الحصول عليها من بيعها، وتسمى النقطة التي تتلاقى عندها التكاليف الهامشية مع العوائد الهامشية بنقطة التوازن، ويكون لذلك معنى في عالم من الموارد المحدودة والمنافسة على السعر، الا انه في اطار اقتصاد دائم على الموارد غير الملموسة، وغير المحدودة على الاغلب، تصبح تكلفة الانتاج اقل اهمية.

اذا جمعنا هذه الخصائص يمكننا رسم الصورة التالية، ان الشركات في الاقتصاد الاعتيادي تعمل بموارد مادية نادرة تضمن حقوق ملكيتها الدائمة لها، ويمثل السعر المحور الرئيس لتنافسها، اما في اقتصاد الابداع، فأن كلاً من الافراد والشركات تستخدم موارد لامنتهية يؤكد حقوقه الفكرية عليها، وعلى مدى قصير ربما، ولايمثل السعر المحور الرئيس لتنافسها، لقد انتقلنا من عالم العوائد المتناقصة القائم على ندرة الاغراض المادية، الى عالم العوائد المتزايدة القائم على لامحدودية الافكار المحتملة وعلى عبقرية الاشخاص في استخاد هذه الافكار لتوليد منتجات واجراءات جديدة.

مبادئ ادارة الابداع

فيما يلي عشرة مبادئ او محركات تلعب دوراً في العملية الابداعية:

* المبدعون

ان المبدع الذي يتولى المسؤولية هو نقطة الانطلاق في ادارة اللابداع وعلى جميع من يردون ان يصبحوا مبدعين سواء اكان يعلمون بمفردهم ام ضمن منظمة كبيرة، ان يتولوا التحكم، فالشخص المبدع يولد ليتولى مسؤولية قدراته الفكرية ليكون رئيس مجلس الادارة عليها.

* عمل المفكر

ان عمل المفكر لا يعني فقط ان يكون المرء مفكراً بمعنى التأمل، وانما يتطلب استخدام وادارة جميع انواع عمليات التفكير، ومن الجدير بالملاحظة ان اسم المهنة هو مفكر وليس التفكير، فجميعنا نفكر من وقت الى اخر، الا ان عمل المفكر هو عمل بوقت كامل، وهو لايقل جدية وتفنياً عن اي عمل اخر والقيام به يعني القبول بالمسؤولية التي ينطوي عليها العمل.

* المستثمر المبدع

يعمل المبدعون (المقاولون مثالاً) بشكل رئيس بمفرهم او بمجموعة صغيرة، وهم بذلك يتمتعون بميزات فريدة تميزهم عن المنظمات الكبيرة، ألتزاماتهم اقل ولديهم من العفوية والحرية مايسمح لهم بالاستجابة الى الافكار الجديدة والى التغيرات التي تطرأ في السوق، اذ يصفهم اتحاد الوسائط الرقمية في لندن بأن لديهم قدرة مرنة على تجميع الموهبة وعلى اتخاذ القرارات بسرعة ضمن شروط داخلية مرنة تسمح لهم بأستخلاص الافكار الابداعية.

* فرص عمل مابعد عصر التوظيف

قد لايرغب الجميع في ان يصبحوا مقاولين الى ان كثيرين يسرون ويستمتعون بمتابعة افكارهم والاستقلال بأنفسهم، ومن العدل القول ان الابداع يزدهر بحرية اكبر عندما يكون ذلك ممكناً، وقد نمت فكرة ان يكون المرء مستقلاً مع تغير طبيعة العملية الاقتصادية، والتي بدأت تدعم انواعاً مختلفة من العمل والادارة.

* التكليف عند الطلب

ان الاعتماد على المعرفة الفردية وعلى الموهبة المبدعة وعلى المتطلبات الدقيقة بفرصة العمل في العديد من الصناعات الابداعية، تؤدي كلها الى طلب كثير على الاشخاص يكونون متوفرين عند الحاجة اليهم، فالعديد من الصناعات القائم على حقوق النشر ماكان لها ان تعمل لولا عدد هائل من الاشخاص الذين يعتبرون وفقاً للنموذج التقليدي عاطلين عن العمل او نفذ عملهم .

*الشركة المؤقتة

ينسجم المقاولون والعاملون عند الطلب بشكل طبيعي في الكيانات المؤقتة واضحة الغرض التي تم انشاؤها لتحقيق هدف واضح سريع، والشركة المؤقتة هي الشركة التصغيرية التي تركز على مكونات الخام للعمل، اي الغرض والاشخاص والعمل بوصفه مهمة يجب انجازها لتستمر دورة حياتها بشكل عام اقل من طبيعية، وهي اكثر مايناسب فرص عمل مابعد العصر الصناعي وعصر التوظيف.

* مكتب الشبكة والعنقود التجاري

يحتاج المبدعون سواءا اكانوا مفكرين او مقاولين او من عاملين مابعد العصر الصناعي او العاملين عند الطلب، الى مكاتب تخدم جميع هذه الاهداف، تماماً كما هي حال غيرهم، اي ان يذهبوا في الصباح وهم يعلمون ان زملائهم سيكونون هناك ايضاً، وان يخزنوا اوراقهم، وان يقوموا بالاعمال المكتبية الا ان الوضع الخاص لعملهم (الابداع) يحتاج تجهيز خاص اي يحتاجون الى مساحات هادئة والى اتصالات شبكية والى اماكن يفكرون فيها واماكن ينتجون فيها.

* العمل ضمن فريق

يزدهر مكتب الشبكة مع نوع خاص من عمل الفريق (عمل القائد والفريق)، ان الاشخاص في مجموعة يفترض بهم ان يعملوا من اجل الاخرين وانه على كل فرد ان يهتم بتقديم الافراد الاخرين، الا انه من الواضح اذا كانت المجموعة تدعم افرادها بقوة فأن العمل فيها سيصبح افضل .

* التمويل

ان الادارة الروتينية للمال في اقتصاد الابداع وفي الاقتصاد التقليدي لا تختلف في جوهرها، ككل تجارة اياً كانت اصولها ومنتجاتها تحتاج الى نظم مالية وميزانيات وحسابات والى فهم حالتها المحاسبية وقواعدها الضريبية.

* الصفقات والاصابات

ان الطبيعة المفردة للافكار، فمعضمها جديد وكثير منها فريد، تؤدي الى عدد كبير من الصفقات والعقود، فالصفقات التي تعقد في اقتصاد الابداع تفوق في عددها تلك التي تعقد في الاقتصاد الاعتيادي.

يكمن هاجس الاقتصاد الاعتيادي في شراء اكبر قدر ممكن من المواد نفسها، ونصب خط انتاج وتوليد اكبر قدر ممكن من المنتجات المتماثلة، ان الاستجابة الفطرية والمنطقية تماماً، هي السعي الحثيث لجعل كل فكرة وكل منتج اصابة، الا ان هذه الاستراتيجية لاتقدم اي مساعدة فيما يتعلق بالقدر الذي يجب بذله مع كل فكرة وجوهر المسألة هنا هو كيفية الموزانة بين محاولات تحقيق النوعية مع الحاجة الى الكمية.

تنطبق هذه المبادئ الادارية العشرة على جميع البلدان حرة السوق تقريباً الا انها اكثر انتشارا في امريكا، اذ يتمتع الامريكيون بحماسة اتجاه الجديد واتجاه تحويل الجدة الى عمل وثروة، ففي امريكا نجد اشخاص يتمتعون بفهم فطري لتحويل الفكرة الى مشروع واحداث شركة، واشخاصاً اكثر يحملون شهادات في مجال الاعمال او الحقوق ويتمتعون بكفاءه في الجمع بين الاثنين وهو مايحتاجه كل تنفيذي في المجال التعاوني، واشخاص اكثر يعرفون كيف يضعون خطة تجارية واشخاص اكثر يعرفون كيف يقدمون فكرة للمستثمرين ويشعرون بأرتياح في صرف المال المجموع وفي العودة لتقاريهم الى المستثمرين.

وتعود مهارات الاشخاص في تنظيم الافكار وتطورها الى عوامل عامة، اقتصادية وسكانية، كحجم السوق مثلاً، وفي الوقت نفسه الى فهم اقتصاد الابداع وهو ماتعبر عنه معرفة كيفية تحويل فكرة الى مشروع، ومتى يجب التأكيد على الملكية الفكرية ومتى يجب الدفع، وماهو السعر الذي يجب ان يطلب، الا ان العامل الرئيس هو كيفية توظيف وتعامل البلد مع الابداع على انه يحمل دائماً عنصراً اقتصادياً.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي