قراءة أولية في نسبية النصوص والحقيقة والمعرفة
من كتاب: نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2017-01-28 06:33
إن من أهم العوامل التي قد توقع العلماء والمفكرين في أخطاء معرفية كبرى، هو عامل (ضبابية المصطلحات وإبهامها، وعدم فهم دلالاتها، وحدودها، والخلط بين المعاني المتعددة التي يمكن أن تقصد من الكلمة أو المصطلح).
ولعل من أبرز مفردات ذلك هو: ما ذهب إليه جمع من العلمانيين العرب أو المسلمين، تقليداً لأساتذتهم الغربيين، من (النسبية) و(الهِرمينوطيقا) حسب معظم مذاهبها(1)، ثم محاولة تطبيقها على القرآن الكريم.
ومن تلك المذاهب (نسبية النص)، ومن تفسيرات (نسبية النص): أن (النص) لا وجود ثابت له، وأنه لا يمتلك حقيقة موضوعية، بل أن النص هو كائن حي متحرك ويتعدد بتعدد قارئيه وسامعيه، وبالتالي فهو يعبِّر عن (خصوص معرفة نسبية).
وذلك هو ما يشكل التبرير الفلسفي لـ: الدعوة إلى قراءة متجددة، تجدداً أبدياً، ومفتوحة للنص، وبدون وجود ضوابط معيارية عامة.
وقال بعضهم: (النص القرآني) هو أيضاً نص نسبي، مما يعني أنه لا يستبطن حقائق ثابتة، ولا سنناً جازمة، ولا قوانين مطلقة، وأن (النسبية) تؤطّر إخباراته وإنشاءاته معاً، كما تكوّن البنية الأساسية والخلفية المعرفية لمواعظه وإرشاداته وحكمه.
وذلك يعني كون (النص الإلهي) أيضاً محكوماً بإطار تصوُّرٍ زماني ومكاني، يتحكم في المفسر وبحالاته وظروفه وقبلياته، التي تشكّل إتجاه النص وتحدد معناه بل وتكوّن شخصيته(2) ودلالاته.
والناتج من ذلك كله: إلغاء أيّة (مرجعية معرفية معيارية للقرآن الكريم)، بل حتى لكافة النصوص العقلائية والقانونية.
وقال بعضهم: (النص) مهما كان نوعه وأي شخص كان قائله حتى الوحي والقرآن الكريم، فإنه خاضع وتابع للقارئ أو المستمع أو المؤوِّل، وأن (قراءته) للنص وللوقائع الخارجية، بما له من خلفيات فكرية ونفسية وعادات وتقاليد، هي التي تتحكم في فهم النص وهي (الحكم الفصل) وهي ذات الأولوية، كما ذهب بعضهم إلى الإتجاه المعاكس تماماً وقال بأن الأولوية والمحورية المطلقة هي للمؤلف والمتكلم، على العكس من نظرية موت المؤلف.(3)
(الحقيقة) مطلقة والنصوص كذلك
ومن البديهي بطلان هذا الكلام في ذاته، وفي مسببِّاته، وفي نتائجه أيضاً؛ ومنها أن بعضهم حيث توهم أن (المعرفة نسبية) ذهب إلى أن (النصوص) الدالة عليها هي كذلك نسبية.
والحق: أنه لا يصح القول بأن دلالات النصوص على المعاني في ذواتها، نسبية؛ وذلك لأن العلاقة بين النص والمعنى ثابتة ومحددة في عالم الثبوت ونفس الأمر، ولا تغير قبليات المفسر أو المؤلف الفكرية وخلفياته النفسية، كما لا يغير سوءُ الفهم، شيئاً من هذه المعادلة(4)، إضافة إلى أن تغاير الأفهام، لا يعني صحتها جميعاً، بل بعضها مطابق للواقع وبعضها لا؛ وذلك لأن من الواضح أن (الحقيقة) الموجودة في الخارج هي مطلقة وليست نسبية.
والبرهان على ذلك بإيجاز: أن كل شيء هو هو وليس غيره؛ فإن الشيء إما موجود وإما معدوم، وإما متصف بكذا أو لا(5)، فليست (الحقائق) نسبية إذن، و(الألفاظ) قد وضعت بإزائها(6)، فلا نسبية فيها، وتغاير (الأفهام) لا يغير من (الحقيقة) ولا من كون الألفاظ في صقع الواقع دوالاً عليها، شيئاً؛ فإن هذه الثلاثة (الحقائق النفس أمرية، والإدراكات والأفهام، والعبارات والنصوص) من عوالم ثلاثة مختلفة، ولا يغيّر عالم الإثبات من عالم الثبوت شيئاً، وما دامت (الحقيقة الخارجية) أمراً واقعياً مطلقاً، فإن كل فهم مغاير لها فهو خطأ، وكل قراءة غير مطابقة فهي باطل، وكذلك الحال في كل (نص) مطابقٍ أو غير مطابق، فإنه صحيح أو خطا تبعاً لذلك، فلو أن بُعد الشمس عن الأرض في عالم الخارج والحقيقة كان 148 (أو 148 إلى 152 حسب المدار البيضي) مليون كيلو متر، فإن أي توهم آخر وأي نص وإدراك معارض، هو غير صحيح، ولو تذرع المتوهم بألف عنوان كعنوان (النص حي متحرك) و(القراءات مفتوحة).
الحقائق: ثابتة، ومتحركة، ومشككة
ومن الواضح انطباق ذلك على مجاميع الحقائق بأنواعها: (الثابتة) و(المتحركة) و(التشكيكية) والأولى ككل علم كان من قبيل الحساب والهندسة وكبعض مسائل علوم الطبيعة، والثانية والثالثة، ككل علم يرتبط بحقائق ذات حركة وتحول وتغيّر أو ذات مراتب، كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد(7) ونظائرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكبعض مسائل علوم الطبيعة؛ فإن الأمراض الجسمية والنفسية مثلاً قد تكون ناشئة عن عوامل غير ملموسة كالضغوط النفسية ـ وهي ذات درجات ـ وقد تكون ناشئة عن أسباب أخرى كالبكتريا والفايروسات، وهي ذات حركة ـ كما أن المرض بنفسه أيضاً على درجات ومراتب، كما أنه قد يكون ثابتاً وقد يكون متطوراً متحركاً ـ.
ولا شك أن كل ذلك له (حقيقة خارجية)، وأنها بأجمعها حقائق مطلقة في حد ذاتها(8)؛ فإن (الحركة) حقيقة، وهي في حد ذاتها ليست إلا هي، وأن (التشكيكية) و(التدرج) و(الرتبة) حقائق؛ فلو طابق (النص) أو (الفهمُ) (الواقعَ) كان صواباً، وإلا كان خطأ.
معادلة النص والحقيقة
ومن الممكن تلخيص بعض أهم رؤوس نقاط المبحث، في الحقائق التالية:
أ ـ (النص) قد وضع بإزاء (الحقائق) الأعم من الخارجية والنفس الأمرية، والأعم من المتأصلة القائمة بنفسها (كالجواهر) أو القائمة بغيرها (كالأعراض)، والأشمل من الحقائق الانتزاعية، ومن المفاهيم الاعتبارية.
ب ـ وأن الحقائق حقائق، ولا تتعدد أو تتغير بتعدد أو تنوع التصورات عنها، بل سيكون أي تصور أو فهم طابقها، حقيقة، ويكون غيره خطأ، وذلك كمن تصور أن سرعة حركة النور هي مائة ألف ميل بالثانية، أو تصور أن الحقائق التشكيكية النفسية كالحب والبغض، أو الخارجية الحسّية، كالحلاوة والمرارة أو غيرها كالقوة غير المرئية، ليست تشكيكية، فإنه مخطئ وإن أقام ألف دليل فرضاً على أنه (حر) في (قراءته للواقع) وعلى أن (القراءات مفتوحة) ومتعددة، بتعدد الأفهام والظروف والأزمنة والأمكنة!!
ج ـ وأن (الواضع) قد يخطأ في وضع لفظ بإزاء معنى، إذا لم يكن فعله (وهو الوضع) مطابقاً لقصده وعزمه(9) أي إذا لم يكن الموضوع له هو المراد(10)، كما أن (المستعمل) قد يخطأ لو استعمل النص في غير معناه، متوهماً أنه هو.
بل إن الخطأ من حيث هو خطأ، خطأ، وهذه حقيقة مطلقة غير نسبية، وكذا الصواب من حيث هو صواب، صواب.
ولا يتوهم أنه في (الوضع)، فإن الأمر بيد الواضع، فإنه إنشاء، وهو(11) مما يوجده الواضع، فلا يتصور الخطأ؟؛ إذ نقول: حيث إنه يريد وضع لفظٍ لمعنى قد تصوره، فالأصيل هو المعنى، فإن طابقه اللفظ كان وضعه صحيحاً وإلا فقد أخطأ.
معادلة الفهم والحقيقة
أ ـ ولا كليّة لـ:(تغاير الأفهام) فإن أكثر الأفهام ـ وأحياناً كلها ـ قد تتفق على:
1- قاعدة عامة أو قضية كبروية.
2- أو على فهم معنى محدد من (نص) معين.
3- أو قد تتفق على (مرجعية) محددة للفهم، وسبل معيارية له(12)؛ ألا ترى الكل متفقاً على معاني الضرب والتقسيم والزائد والناقص في علم الحساب، وكذا الكسور والجبر والمقابلة، وأن الزاوية القائمة تساوي 90 درجة؟ وكذلك سائر مسائل الحساب والهندسة؟
فمثلاً أن "كانط"(13)، يذعن بأن العلوم الرياضية والطبيعية، مطلقة وليست نسبية، ويخص النسبية بما عداهما، وسنناقشه في ذلك، في الفصول المتأخرة من الكتاب.
ويدل على ذلك: الاتفاق على (الفطريات)، كحسن العدل وقبح الظلم كمفاهيم معيارية وأصول عامة، والاختلاف إنما هو في مصاديق العدل والظلم، اللهم إلا مِن مَن يشهد عامة العقلاء ـ ومنهم الهِرمينوطيقيون ـ بشذوذهم وخطأهم.
كما يشهد لذلك اتفاق عامة الهِرمينوطيقيين الغربيين على حسن الديمقراطية وقبح الاستبداد، ولو كانت القراءات المتعددة كلها مشروعة وصحيحة، وقلنا إن (المعرفة نسبية) وأنه لا يصح لجهة مهما كانت أن تدعي امتلاك ناصية (المعرفة) و(الحقيقة)، لكان عليهم أن يقبلوا (صحة) رأي بعض الشرقيين والغربيين في (حسن) بل وضرورة الظلم والاستبداد والدكتاتورية، وحسن التعذيب وتكميم الأفواه، ومصادرة الأموال، وسحق الحقوق، و(حسن) ظلم الطفل أو المرأة وسحق حقوقهما!(14)
ب ـ وأن (الأفهام المتغايرة) و(النصوص المتقابلة) أحدها صحيح، ومناقضها ومضاداتها خطأ دون ريب؛ إذ قد سبق أن (المطابق للخارج) أو نفس الأمر والواقع، هو الصحيح، وغيره خطأ ولو توهم صاحبه صحته، وهل تغير الأوهامُ، الواقعَ؟
ومما يرشد إلى ذلك: أنه لا يعقل كون كلام هؤلاء الهِرمينوطيقيين صحيحاً وكلام معارضيهم صحيحاً في نفس الوقت؟ وإلا للزم على الهِرمينوطيقي أن يلتزم بصحة (قراءة واحدة فقط) للنصوص (ولندقق في كلمة "فقط"، أي بشرط لا) وعدم صحتها في الوقت نفسه.
ج ـ وأنه لا فرق في ذلك كله(15) بين (المعرفة المباشرة) و(المعرفة غير المباشرة).
و(الأولى) هي (موادّ العلوم) أو المسائل المفتاحية، وهي (البديهيات) بأقسامها الستة من (أوليات) و(فطريات) و(متواترات) و(مشاهدات) و(مجربات) و(حدسيات).
و(البديهيات): هي تلك التي توجد أو تكسب من غير نظر واستدلال عقلي وبرهنة، أي عبر (الاحساس المباشر) بالحقيقة، أو (الحدس المباشر) بها، أو الالتفات لها كذلك(16) أي الاستكشاف المباشر وبلا واسطة، أي (المعرفة المباشرة(17) العقلية) والتي اعترف بها حتى الفلاسفة الغربييون(18) وتعني مقدرة العقل على (أن يرى) الحقائق بـ(عيون عقلية) بطريقة مباشرة، ومن دون استدلال وبرهان.
و(الثانية) هي (النظريات) أي المعرفة عن طريق البرهان والاستدلال، وترتيب مقدمات معينة للوصول إلى نتائج محددة.
النسبية والنصوص السماوية
ولو فرضنا صحة كلام الهِرمينوطيقيين في الجملة ـ أي في بعض النصوص ـ فإنه لا يصح (عقلاً) في كلام الله تعالى وكلام رسله وأوصيائهم؛ فإن من يعترف بوجود الإله، ويذعن بكونه عالماً بكل الحقائق، وحكيماً قادراً على كل شيء، كيف يعقل أن ينسب (العجز) إلى الله تعالى في خلق ـ أو وضع ـ (ألفاظ) تطابق (الحقائق) مائة في المائة؟ ثم استعمالها فيها، سواء كان قرآناً أم حديثاً قدسياً فمَن (فهم) ذلك فهو المصيب، وغيره هو المخطئ.
ثم كيف يعقل أن ينسب (العجز) إلى الله تعالى في وضع (ضوابط معيارية) لفهم كلامه، ثم في تأسيس وخلق، (مرجعية مطلقة) في عالم التشريع، وعالم المعرفة، وفي العوالم الأربعة كلها (عوالم الوجود العيني والذهني واللفظي والكتبي)؟
و(المرجعية) في الثلاثة الأخيرة، هي لتمييز الحق من الباطل والصحيح من الخاطئ، وأما (المرجعية) في عالم الوجود العيني، فالمراد بها (مقياس) النقص والكمال، والصحة والاعتلال، والحسن والقبح، لا الصواب والخطأ؛ إذ لا مجال لهما في الوجود العيني.
وقد تدارسنا محور (المرجعية) هذا، في موضع آخر من الكتاب، فليلاحظ.
والغريب أن يعترف الهِرمينوطيقي بأن صانع (الكمبيوتر) أو أي جهاز آخر يمكنه أن يصنع (مفاتيح معيارية) للتعامل مع كافة الأجهزة، في كل الأزمنة، من قبل كافة الأشخاص ممن يحملون خلفيات فكرية مختلفة وقناعات وقبليات قد تكون متناقضة، ومع ذلك فإن (المفتاح) الثابت والموحد والمعياري هو دائماً وأبداً هو رقم (1) وصفر مثلاً، في علم الحاسوب، أو أي مفتاح وطريق موحد آخر، وكذلك الحال في الأجهزة الكهربائية، والميكانيكية وغيرها. وكذلك الحال في (شفرة مورس)، أو غيرها.
ونقول: كيف يعترف عالم الألسنيات بأن بمقدور الإنسان العادي ذلك، ولا يكون بمقدور خالق هذا الإنسان، ذلك؟
بل نقول: إن عدم إنشائه وجعله جل وعلا لـ(النصوص مطلقة) ومحكمة، ودقيقة، لا يأتيها الباطل أو الأوهام، من بين يديها أو من خلفها، وكذلك عدم إيجاده تعالى لضوابط معيارية لفهم كلامه المنزل للبشر، وعدم خلقه لمرجعية مطلقة، لدى الاختلاف، يناقض (حكمته) تعالى و(عدله) و(لطفه) و(كرمه) و(رحمته)؛ ذلك أن كلامه تعالى أنزل للبشر (هدى) وإرشاداً للناس في مجاهيل الحياة، وهل يعقل من الحكيم الرحيم أن (يضع) (خريطة) تزيد الطين بلة، وتزيد الضائعين في صحاري الحياة ومستنقعات الدنيا، حيرةً؟! إن ما لا نقبله لإنسان سوي عادي، (وهو أن يرسم خريطة جغرافية مشوشة أو مشوهة أو مهملة أو ضبابية أو نسبية وموهِمة، رغم محدودية أعداد من ينتفع بها من الناس)، كيف نقبل صدوره من إله حكيم يضع منهجاً (مقروءاً) و(مكتوباً) للبشرية كلها على امتداد الأزمان؟
نعم، المنكر لوجود الإله أو علمه أو حكمته أو قدرته أو عدله، يجب أن يحاور ويناقش في (علم الكلام) والعقائد، حول ذلك كله، وليس في علم الألسنيات!