سبب خلق المخلوقات واختلافهم
السيد جعفر الشيرازي
2024-09-28 04:41
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ}(1).
إن اللّه سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، وهنا عدة أسئلة تدور في أذهان كثير من الناس، وهي: لماذا خلقنا؟ وما هو الغرض والمصلحة في ذلك؟ ولماذا خلق سائر الموجودات؟
إن اللّه سبحانه وتعالى غير محتاج ولا يعبث؛ لأن العبث إنّما يحصل بسبب الجهل أو الضجر أو الفراغ، واللّه سبحانه وتعالى منزّه عن كل نقص، قال تعالى: {أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ}(2).
إن الجواب عن هذه الأسئلة بيّنه اللّه سبحانه وتعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم، فاللّه سبحانه وتعالى هو القادر، ولا ينقصه شيء، وإذا خلق خلقاً فـ {إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(3)، واللّه سبحانه وتعالى رحيم بَرّ ودود، فمقتضى اللطف الإلهي هو أن يخلق المخلوقات ليرحمها، فلو لم يكن يخلق الخلق فربما كان يثار هذا السؤال: إذا كان اللّه قادراً ولا يكلفه خلق الخلق شيئاً ولا ينقصه فلماذا لم يخلق الخلق؟
فاللّه سبحانه وتعالى خلقنا لا لحاجته إلينا، وإنّما لحاجتنا إليه، فهو الحكيم العالم القادر؛ لذا خلق الموجودات، والغرض من ذلك هو الرحمة، كما قال تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ}.
العبادة طريق إلى الرحمة الخاصة
إن اللّه سبحانه وتعالى رحيم، لكن الرحمة الخاصة تحتاج إلى محل قابل، فلو وضع هذه الرحمة في محل غير قابل لكان هذا خلاف الحكمة، فكيف يصبح الإنسان محلاً قابلاً لهذه الرحمة؟
والجواب: بالعبادة، فإذا عَبَدَ الإنسان ربه فسوف يصبح محلاً قابلاً للرحمة، وهذا ما ورد في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(4)، فإذا ضممنا هذه الآية إلى قوله تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ} نعرف أن الهدف للخلقة هو العبادة، والغرض من تلك العبادة أن يكون الإنسان موضعاً لرحمة اللّه سبحانه وتعالى الخاصة.
إذن، فالعبادة طريق إلى الرحمة، والرحمة هي الغرض والهدف من وراء خلق اللّه سبحانه وتعالى للبشر، فيلزم على الإنسان أن يجعل نفسه محلاً قابلاً لهذه الرحمة، وذلك عن طريق الالتزام بما أمره اللّه سبحانه وتعالى، وترك ما نهاه عنه، وهذه الأوامر والنواهي إنّما جعلها اللّه سبحانه وتعالى لا لحاجة منه إليها، وإنّما لحاجة الناس لذلك، فلو عصى جميع الناس فلا يحدث خلل في ملك اللّه سبحانه وتعالى وقدرته وعلمه، فهو قادر على أن يهلك كل الناس ويأتي بغيرهم، قال تعالى: {إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأۡتِ بَِٔاخَرِينَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرٗا}(5).
كان أحد الخطباء يذكر مثالاً لطيفاً فيقول: إذا بلغنا أنه يوجد في إحدى غابات أقاصي الأرض مليون نملة أطلقت شعارات ضدنا فهل يؤثر هذا فينا؟ كلا، وهكذا إذا كفر كل الناس فلا يضرّ اللّه تعالى شيئاً، فهم لا يخرجون من سلطان اللّه وتدبيره، ولا يتمكنون من الفرار من حكومته.
إذن، فاللّه سبحانه وتعالى خلقنا لحاجتنا إلى الرحمة، ولذا يلزم علينا أن نكون محلاً قابلاً لهذه الرحمة، وينبغي أن نوفّر الأسباب لذلك.
الاختلاف في الخلق من سنن اللّه
عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ وجلّ لما أخرج ذرية آدم (عليه السلام) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له، وبالنبوة لكل نبي، فكان أوّل من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمّد بن عبد اللّه (صلى الله عليه وآله) ، ثم قال اللّه عزّ وجلّ لآدم: انظر ماذا ترى، قال: فنظر آدم (عليه السلام) إلى ذريته وهم ذر قد ملأوا السماء، قال آدم (عليه السلام): يا رب، ما أكثر ذريتي ولأمر ما خلقتهم؟ فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ويؤمنون برسلي ويتبعونهم، قال آدم (عليه السلام): يا رب، فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير، وبعضهم له نور قليل، وبعضهم ليس له نور؟ فقال اللّه عزّ وجلّ: كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم، قال آدم (عليه السلام): يا رب، فتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: تكلم، فإن روحك من روحي وطبيعتك من خلاف كينونتي، قال آدم: يا رب، فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلة واحدة، وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء لم يبغِ بعضهم على بعض، ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض، ولا اختلاف في شيء من الأشياء، قال اللّه عزّ وجلّ: يا آدم، بروحي نطقت وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به، وأنا الخالق العالم، بعلمي خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري صائرون، لا تبديل لخلقي، إنّما خلقت الجن والإنس ليعبدون، وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وإنّما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملاً في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم، فلذلك خلقت الدنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري، وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى، والقصير والطويل والجميل والدميم، والعالم والجاهل والغني والفقير والمطيع والعاصي، والصحيح والسقيم ومن به الزمانة ومن لا عاهة به، فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه، ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي، وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء، وفي ما أعافيهم وفي ما أبتليهم، وفي ما أعطيهم وفي ما أمنعهم، وأنا اللّه الملك القادر، ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، وأقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر من ذلك ما قدمت، وأنا اللّه الفعال لما أريد لا اسأل عما أفعل، وأنا أسأل خلقي عما هم فاعلون»(6).
أي إن آدم (عليه السلام) سأل اللّه سبحانه وتعالى عن سبب خلق الناس مختلفين، وأجابه اللّه سبحانه وتعالى: بأن الاختلاف من سننه كما قال تعالى: {وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ}(7)، والألسن والألوان مثال ظاهر، فعندما نرى شخصاً نستطيع أن نميزه من خلال لونه أو كلامه، فحينما رأى آدم (عليه السلام) ذريته بهذه الحالة سأل اللّه سبحانه وتعالى أنه لو خلقتهم بكيفية واحدة وبطبيعة واحدة ولون واحد لكي لا يوجد بينهم تباغض وتحاسد.
وهنا مطلبان:
المطلب الأوّل: حول سؤال آدم (عليه السلام)
فنقول: هذا السؤال لا ينافي عصمة الأنبياء (عليهم السلام)؛ لأن السؤال مطلوب ومرغوب فيه، وهو مفتاح العلم.
إن السؤال تارة يكون استفهاماً، وتارة يكون طلباً ودعاءً.
والطلب والدعاء تارة يكون خلاف سنة اللّه في الكون، وهذا ناشئ عن عدم العلم، فلو فرض أن شخصاً دعا اللّه تعالى أن يرفع عنه الموت دائماً! فهذا الطلب غير صحيح، ويكشف عن عدم العلم؛ لأن سنّة اللّه سبحانه وتعالى أن يموت كل إنسان: {كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ}(8).
وتارة يكون الطلب ضمن سنة اللّه سبحانه وتعالى، كما لو كان هناك شخص فقير فيطلب من اللّه الرزق، ثم يذهب للعمل، فهذا الدعاء مطلوب، وهكذا لو كان مريضاً، فيذهب للطبيب ويدعو اللّه سبحانه وتعالى بالشفاء.
بعبارة أخرى: تارة يطلب الإنسان من اللّه تغيير سنّة من السنن الكونية، مع أن اللّه سبحانه وتعالى قال: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا}(9)، وهذا يكشف عن عدم العلم، ومرّة يطلب من اللّه سبحانه وتعالى حاجة في ضمن سنن اللّه سبحانه وتعالى، كزيادة عمر، أو شفاء مريض، أو إزالة حاكم ظالم وغير ذلك، فهذا مطلوب ومرغوب فيه بشرط العمل.
فسؤال آدم (عليه السلام) كان طلب تغيير سنّة من سنن اللّه؛ لأن من سنة اللّه سبحانه وتعالى اختلاف الخلق، وهذا يكشف عن عدم العلم، إلّا أنه ليست معصية ولا مكروه ولا ترك أولى؛ لأن الأنبياء (عليهم السلام) لا يجب أن يعلموا كل شيء، وإنّما يفيض اللّه سبحانه وتعالى عليهم العلم بالمقدار الذي يشاء ويكون اختلاف درجاتهم (عليهم السلام) في بعض الأحيان بسبب اختلاف درجات علمهم، فالرسول محمّد (صلى الله عليه وآله) هو أعلم الأنبياء؛ لأن اللّه علّمه ما كان وما يكون وما هو كائن(10)، لكن علم الأنبياء الآخرين متفاوت، ودرجاتهم حسب ما علّمهم اللّه سبحانه وتعالى.
ونظير ذلك ما ورد في قصة نوح (عليه السلام)، حيث قال تعالى: {وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ * قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسَۡٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ}(11)، لأن إحدى زوجتي نوح كانت كافرة(12): {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ}(13)، وكان لها ولد ـ وهو كنعان ـ تأثر بأمّه، فكان كافراً، واللّه سبحانه وتعالى وعد نوح بأن ينقذ أهله، فلما غرق ابنه سأل ربه سؤالاً أدّى لأن يخاطبه اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ}، أي: أنا أعلّمك حتى لا تكون جاهلاً؛ لأن نوحاً (عليه السلام) ما كان يعلم بهذه المسألة. فنوح (عليه السلام) طلب من اللّه أن يغير سنّة إلهيّة، وتلك السنة:
1- إمّا عموم العذاب، فإنه إذا نزل العذاب فيشمل كل الكافرين، إلّا أنه (عليه السلام) سأل اللّه سبحانه وتعالى أن لا يشمل هذا العذاب ابنه وإن كان كافراً، وهذا خلاف السنّة؛ لذا قال اللّه سبحانه وتعالى: {فَلَا تَسَۡٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ}. فلا يوجد استثناء في سنن اللّه سبحانه وتعالى.
2- وإمّا كان طلب نوح (عليه السلام) من اللّه سبحانه وتعالى أن يهدي ابنه كنعان بالإكراه؛ لأن اللّه يتمكن أن يغير القلوب: {وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ}(14). فاللّه سبحانه وتعالى إذا أراد أن يصبح كل الكفار مؤمنين فهو يتمكن من ذلك، لكن هذا يكون إكراهاً وتقديراً لتغيير تكويني في تركيبة خلقهم، فلعلّ سؤال نوح (عليه السلام) كان تغيير كفر ابنه إلى إيمان بالإكراه، وهذا خلاف سنّة اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقدر أن يكره الناس على الإيمان بتغيير قلوبهم، لكن هذا خلاف سنّة الاختيار.
إذن، فسؤال آدم (عليه السلام) كان لتغيير التقدير، لذا قال اللّه سبحانه وتعالى: «وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به».
وإلّا فالدعاء في الأمور التي هي في ضمن سنن اللّه سبحانه وتعالى مطلوب وجيد، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ}(15)، فلو أراد الإنسان أن يدعو فلا بدّ أن يرى ماذا يريد، فإذا كان خارج سنن اللّه سبحانه وتعالى فهذا يكشف عن عدم علم.
المطلب الثاني: حول جواب اللّه تعالى
عندما سأل آدم (عليه السلام) أجابه اللّه عن سبب الاختلاف بين الناس ثم بينه في آية موجزة في القرآن الكريم فقال: {وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ}(16)، و(سُخرياً) مأخوذ من التسخير، فالاختلاف بين الناس لمصلحتهم، فلو لم يكن هناك اختلاف فسوف تتوقف الحياة، لذا اقتضت المصلحة اختلاف أذهانهم وقدراتهم البدنية ورزقهم وفي كل شيء.
إن البعض يظن أن الزرق يحصل بالشطارة، إلّا أنه ليس كذلك، فإن اللّه سبحانه وتعالى قد يرزق البُله والحمقى أكثر من غيرهم، فقد ورد في الحديث الشريف أنه: «إن اللّه تعالى وسع في أرزاق الحمقاء ليعتبر العقلاء ويعلموا أن الدنيا ليس ينال ما فيها بعمل ولا حيلة»(17).
إن الاختلاف سبب للرحمة، فالغني يرى الفقير فيساعده فيزداد ثواباً، ويكون لائقاً للرحمة؛ لأن الرحمة درجات، فرحمة اللّه سبحانه وتعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) أكثر من رحمته للناس: {وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا}(18)، والفقير يرى الغني فيسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يرزقه كما رزق الغني؛ لأن الغبطة جيدة(19).
فالفقير بهذا الدعاء يحصل على المزيد في الدرجات أو يصبر؛ لأن الصبر يزيد درجات الإنسان، وكذلك يرى شخص شخصاً آخر أفضل منه فيسعى لكي يصل إلى تلك الدرجة، بل يكون أفضل منه كما قال تعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ}(20)، فإذا كان جميع الناس بدرجة واحدة فلا معنى للتنافس، ولا معنى لـ : {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ}(21)، ولذا فهذا الاختلاف رحمة للإنسان.
روي أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «اختلاف أمتّي رحمة»(22)، ولكن لا يراد من الاختلاف التنازع والتناحر؛ فإن ذلك مذموم لقوله تعالى: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ}(23)، وإنّما أحد معانيه هو: الذهاب والإياب، قال تعالى: {وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ}(24)، أي: إذا ذهب الليل جاء النهار وبالعكس، ومن معانيه: إن الناس يتنافسون لأن التنافس فرع الاختلاف، فإذا رأى شخص أن آخر قام بعمل صالح فيكون هذا مدعاة للتنافس، فيقول: لماذا لا أعمل مثله؟ ولذا فـ(اختلاف أمتي رحمة) بهذا المعنى صحيح، بل هو ضمن سنّة اللّه سبحانه وتعالى في هذا الكون {وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ}(25).
إذن، فالجميع يتمكنون أن يجعلوا أنفسهم محلاً قابلاً للرحمة الخاصة، وفي الوقت نفسه يمكنهم أن يسلبوا تلك الرحمة عن أنفسهم.
ورد في الحديث عن عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «إني أخالط الناس، فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم، فيقولون: فلان وفلان لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء ولا الصدق، قال: فاستوى أبو عبد اللّه جالساً، وأقبل عليَّ كالغضبان، ثم قال: لا دين لمن دان بولاية إمام جائر ليس من اللّه، ولا عتب على من دان بولاية إمام عدل من اللّه، قال: قلت: لا دين لأولئك، ولا عتب على هؤلاء! فقال: نعم، لا دين لأولئك، ولا عتب على هؤلاء، ثم قال: أما تسمع لقول اللّه: {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ} يخرجهم من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة، لولايتهم كل إمام عادل من اللّه، قال اللّه: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ} قال: قلت: أليس اللّه عنى بها الكفار؟ حين قال: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ} قال: فقال: وأي نور للكافر وهو كافر فاخرج منه إلى الظلمات؟! إنّما عنى اللّه بهذا أنهم كانوا على نور الإسلام، فلما أن تولوا كل إمام جائر ليس من اللّه خرجوا بولايتهم إياهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب لهم النار مع الكفار، فقال: {أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(26)»(27).
إذن، فالإنسان يتمكن أن يجعل نفسه قابلاً للرحمة، ويتمكن أن يسلب من نفسه هذه الرحمة، فلو استثنينا الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الذين اصطفاهم اللّه وجعلهم من طينة أعلى: {ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلٗا وَمِنَ ٱلنَّاسِۚ}(28)، لو استثنينا هؤلاء فسائر الناس تكون درجاتهم حسب أعمالهم وعقائدهم، فإذا كانت عقيدة الإنسان سليمة وعمله صحيحاً كانت درجته أكبر.
إن اللّه سبحانه وتعالى جعل في كل إنسان القدرة على الخير والشر حتى يتمّ الامتحان، {وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا * قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(29)، فكل إنسان لديه استعداد أن يكون هو الأفضل.
والإنسان يتحسر يوم القيامة ـ حتى المؤمنين الصالحين ـ حيث كان بإمكانه أن يكون أفضل مما هو عليه، وكان بإمكانه أن يحصل على المقامات العالية.
وهناك فرص كثيرة تذهب على الإنسان، وخاصة بالتسويف، إن الإنسان يسوّف ويؤخر عمله، إلى أن ينتهي عمره فجأة وبدون إنذار مسبق.
ومن لطف اللّه سبحانه وتعالى علينا أنه هيّأ كل الظروف لنا، ولذا فلا توجد حجة يوم القيامة لأيّ فرد، وقد أكمل اللّه نِعمه علينا في بلد الإسلام، فنحن ولدنا من أبوين مسلمين، وفي مجتمع إسلامي، وكذلك أنعم علينا بأزمنة وأمكنة مباركة.
فالزمان مناسب والمكان مناسب، والظروف مناسبة، وقد هيّأ اللّه كل هذه الأمور لنا. لذا ينبغي لنا أن نستفيد من ألطافه لننال رحماته الخاصة.