الامام محمد الباقر (ع) ومسائل التوحيد
الشيخ باقر شريف القرشي
2024-06-13 03:42
وبحث الامام أبو جعفر في كثير من محاضراته المسائل الكلامية، وسئل عن أعقد المسائل وادقها في بحوث هذا العلم فأجاب عنها، ومن الجدير بالذكر أن عصر الامام كان من اشد العصور الاسلامية حساسية فقد امتد فيه الفتح الاسلامي الى اغلب مناطق العالم وشعوب الارض فأثار ذلك موجة من الحقد في نفوس المعادين للإسلام من الشعوب المغلوبة على امرها، ومن غيرها، فقاموا بحملة دعائية ضد العقيدة الاسلامية فاذاعوا الشكوك والاوهام بين ابناء المسلمين، وقد شجعت الحكومات الأموية الافكار المعادية للإسلام، فلم يؤثر عن أي أحد من ملوك بين أمية انه قاومها او تصدى لإيقافها وعدم نشرها بين المسلمين ولم يكن هناك أحد قد انبرى الى انقاذ المسلمين في ذلك العصر سوى الامام أبي جعفر (ع) فقد تصدى الى تزييفها والرد عليها ببالغ الحجة والبرهان، وسنعرض الى تفصيل ذلك عند البحث عن عصر الامام.
وعلى أي حال فهذه بعض البحوث الكلامية التي خاضها الامام وهي:
التوحيد:
وتناول الامام ابو جعفر (ع) أهم مسائل التوحيد، فكشف الغطاء عنها وفند ما أثير حولها من أوهام وشكوك، وكان من بين ما عرض له.
1 ـ عجز العقول عن ادراك حقيقة الله:
والشيء الذي لا جدال فيه ان الانسان بجميع ما يملك من طاقات فكرية فانه عاجز عن معرفة حقيقة الله، لأن العقول في جميع تصوراتها محدودة يقول الشافعي: «ان للعقل حدا ينتهي إليه كما ان للبصر حدا ينتهي إليه».
ان جميع الاشياء التي يتوصل إليها حس الانسان لا بد ان توجد في مكان ويجري عليها الزمان، ولا يستطيع العقل ان يتخيل موجودات لا مكان لها أو اشياء لا يجري عليها الزمان، وذات الله تعالى يعجز العقل أن يدرك واقعها لأنه لا يجري عليها الزمان ولا المكان فانه تعالى هو الذي خلقهما، وبالاضافة الى ذلك فان في السكون أمورا كثيرة قد عجز العقل عن الاحاطة بكنهها، والتي منها الحقيقة الغيبية فان العقل لم يهتد الى معرفتها.
ان ذات الله تعالى لا تدركها أوهام القلوب على مدى ما تحمل من سعة الخيال فضلا عن ادراكها بالعين الباصرة فان كلا منهما محدود بحسب الزمان والمكان، وقد أدلى بذلك الامام أبو جعفر (ع) حيث سئل عن قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (1) فقال (ع): « أوهام القلوب ادق من ابصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف ابصار العيون؟.. » (2)
ان البصر ينقلب خاسئا وهو حسير في تصوره لذات الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة، يقول ابن أبي الحديد:
فيك يا اعجوبة الكون---غدا الفكر عليلا
كلما أقدم فكري---فيك شبرا فرّ ميلا
أنت حيرت ذوي---اللب وبلبلت العقولا (3)
إنه ليس هناك شيء ابعد من ادراك ذات الله تعالى فإنها تمتنع على العقول وتعجز من ان تلم بأي جانب من جوانبها، وقد سأل عبد الرحمن ابن أبي النجران الامام أبا جعفر عن الله تعالى فقال: إني اتوهم شيئا، فقال (ع) له:
«نعم غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه، ولا يشبهه شيء، ولا تدركه الأوهام، وهو خلاف ما يعقل، وخلاف ما يتصور، إنما يتوهم شيء، غير معقول ولا محدود.. » (4)
2 ـ ازلية واجب الوجود:
أما ازلية واجب الوجود فهي من ادق البحوث الكلامية، والفلسفية، وقد عرضت على أبي جعفر (ع) فقد سأله رجل فقال له: اخبرني عن ربك متى كان؟ فأجابه الامام:
«ويلك إنما يقال لشيء لم يكن، متى كان؟!! إن ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حيا بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كون كيف، ولا كان له اين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع لمكانه مكانا، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء، ولا كان ضعيفا قبل أن يكون شيئا، ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدع شيئا، ولا يشبه شيئا مذكورا، ولا كان خلوا من الملك قبل انشائه، ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه، لم يزل حيا بلا حياة، وملكا قادرا قبل أن ينشيء شيئا، وملكا جبارا بعد انشائه للكون، فليس لكونه كيف ولا له اين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق (5) لشيء، بل لخوفه تصعق الأشياء كلها، كان حيا بلا حياة حادثة، ولا كون موصوف ولا كيف محدود، ولا اين موقوف عليه، ولا مكان، جاور شيئا، بل حي يعرف، وملك لم يزل له القدرة والملك، إنشاء ما شاء حين شاء بمشيئته، لا يحد ولا يبعض، ولا يفنى، كان أولا بلا كيف، ويكون آخرا بلا اين، وكل شيء هالك إلا وجهه، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
ويلك أيها السائل!! ان ربي لا تغشاه الأوهام، ولا تنزل به الشبهات، ولا يحار، ولا يجاوزه شيء، ولا تنزل به الاحداث، ولا يسأل عن شيء، ولا يندم على شيء، ولا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الارض وما بينهما، وما تحت الثرى.. » (6)
وألمت هذه القطعة الذهبية من كلام الامام العظيم بأزلية واجب الوجود وتوحيده، وتنزيهه عن المشابهة لمخلوقاته التي يحدها الجنس والفصل والتي تخضع في وجودها وعدمها الى العلة، وتفتقر إلى الزمان والمكان وتعالى الله عن جميع ذلك فانه الاول والآخر، والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم... وقد سئل بعض المحققين عن الله ما هو؟ فقال: الأوحد، فقيل له: كيف هو؟ فقال: ملك قادر، فقيل له: اين هو؟ فقال: بالمرصاد، فقال السائل: ليس عن هذا أسألك، فقال: ما اجبتك به هو صفة الحق فأما غيره فصفة الخلق.
لقد أرادوا أن يتعرفوا على ذات الله تعالى حتى كأنه شيء من الاشياء التي تخضع للحواس وسائر المدركات العقلية، ولم يعلموا أن الله تعالى فوق ما يدركه العقل، وفوق ما تتصوره الأوهام، لا إله إلا هو الحي القيوم.
وعلى أي حال فان كلام الامام (ع) قد عرض لأدق المسائل الكلامية التي لم يطرقها أحد من متكلمي المسلمين وفلاسفتهم سوى جده الامام أمير المؤمنين (ع) اما الاحاطة بكلام الامام (ع) وإيضاحه فانه يحتاج الى دراسة مفصلة، وقد عنى فلاسفة الاسلام بالاستدلال على النقاط التي وردت في حديث الامام.
3 ـ النهي عن الكلام في ذات الله:
ونهى الامام أبو جعفر (ع) عن الحديث والخوض في ذات الله تعالى لأن ذلك مبني على فلسفة عميقة لا تتحملها عقول البسطاء الذين لا يملكون رصيدا من العلم، فانهم يقعون في حبائل الشيطان، ويخرجون من حضيرة الايمان الى حضيض الشرك، يقول (ع):
« تكلموا في كل شيء، ولا تتكلموا في ذات الله.. » (7)
وقال (ع): « تكلموا في خلق الله، ولا تتكلموا في الله فانه لا يزداد صاحبه إلا تحيرا.. » (8)
إن الحديث عن ذات الله تعالى لا يزيد الانسان إلا تحيرا والقاء في المهالك والشبهات، اما التفكر في مخلوقات الله، والتأمل في دقائق هذا الكون فانه يدعو الى حتمية الايمان بالله، فان كل مخلوق بحسب صنعته وتركيبه يدلل على الخالق العظيم، يقول دارون: « اني أرى فيما يظهر لي ان الاحياء التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة ازلية نفخ الخالق فيها نسمة الحياة » (9) وان من الخرافة القول بأن هذه العوالم وجدت من باب الصدفة، فان من غير الممكن ان توجد الصدفة نظاما دقيقا قائما على العلم، فلماذا لم تخلق الصدفة الطائرة أو الآلات الحديثة التي أوجدها الفكر والعلم؟
4 ـ علم الله:
ان الله تعالى احاط بكل شيء علما، وان علمه بالاشياء قبل تكوينها
وبعد تكوينها على حد سواء لأنه الخالق والمكون لها كما أنه العالم بما تنطوي عليه النفوس، وتضمره القلوب، وقد روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) أنه قال: « كان الله عز وجل ولا شيء غيره، ولم يزل عالما بما يكون، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه » (10).
5 ـ واقع التوحيد:
وطلب جابر بن يزيد الجعفي من الامام أبي جعفر (ع) أن يعلمه شيئا من التوحيد فقال (ع):
« ان الله تباركت اسماؤه التي يدعا بها، وتعالى في علو كنهه.. واحد توحد بالتوحيد في توحده، ثم أجراه على خلقه، فهو واحد صمد، قدوس يعبده كل شيء ويصمد إليه كل شيء، ووسع كل شيء علما... » (11)
6 ـ صفات الله:
ان صفات الخالق الحكيم هي عين ذاته، وليس بينهما تعدد حسب ما دلل عليه في علم الكلام، وقد ظل قوم من أهل العراق عن طريق الحق فأشاعوا أنه تعالى يسمع بغير ما يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع شأنه في ذلك شأن مخلوقاته وقد عرض ذلك محمد بن مسلم على الامام أبي جعفر فقال (ع):
« كذبوا والحدوا، وشبهوا، تعالى الله عن ذلك إنه سميع بصير، يسمع بما يبصر، ويبصر بما يسمع.. »
فقال محمد بن مسلم: يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه، فرد (ع) مزاعمهم وقال:
«تعالى الله، إنما يعقل ما كان بصفة المخلوق، وليس الله كذلك» (12)
7 ـ الشك والجحود:
ان الشك في وجود الله تعالى فاطر السموات والأرض، وجحوده له مضاعفاته السيئة، والتي منها أنه لا يقبل من الشاك والجاحد أي عمل خير، ولا ينفعه يوم حشره ونشره، يقول (ع):
« لا ينفع مع الشك والجحود عمل.. » (13)
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن كلمات الامام أبي جعفر (ع) في التوحيد.