التخطيط التنموي في الدول النامية.. مظاهر الفشل
حاتم حميد محسن
2020-03-09 05:48
اهتم اقتصاديو التنمية الأوائل كثيرا بموضوع التخطيط التنموي، والعديد منهم مارس عملية التخطيط خلال الحرب العالمية الثانية في بريطانيا بالاشتراك مع وزراء التخطيط آنذاك. كان I.M.D.Little(1) اول من درس تاريخ التخطيط والتصنيع في الدول النامية وأشار الى عدد من الاقتصاديين في المملكة المتحدة خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، والذين اشتركوا لاحقا في النقاشات المتعلقة بالتخطيط في تلك الدول. وهؤلاء الاقتصاديين هم (Arndt) و(Rosenstein Rodan) و(Mndelbaum).
والتخطيط عموما يُعتبر ناجحا خلال فترة الحروب البريطانية وفي الفترات التي أعقبت مباشرة تلك الحروب. لقد فشل التخطيط في الاستمرار خلال الستينات ثم اُلغي في معظم الدول المتطورة. اما في الدول النامية فقد ظل التخطيط قائما. وعلى الرغم من التأكيد المتزايد على أهمية السوق في الدول النامية الاّ ان عدد قليل من الحكومات كانت راغبة في التخلي عن دور التخطيط. سنحاول الآن معرفة اسباب ذلك.
كانت الهند هي الدولة الرائدة في مجال التخطيط التنموي. وقد بدأت لجنة التخطيط الهندية عملها في العام 1950 بينما أصبح التخطيط المركزي في الستينات هو عصب السياسة الاقتصادية. ان الطموحات نحو التخطيط لم تأت من نمو الاقتصاديات الغربية وانما جاءت من الاتحاد السوفيتي. فالنموذج السوفيتي اكّد على التصنيع وعلى الاعتماد الذاتي وخاصة في مجال السلع الرأسمالية. والتخطيط المركزي في الاتحاد السوفيتي اُعتبر ناجحا وأصبح ذو تأثير كبير في جنوب آسيا. وفي الاتحاد السوفيتي ادّى التخطيط الى النمو السريع في الصناعات الثقيلة والى صمود البلاد في وجه المانيا النازية.
ان إعجاب الدول النامية بنموذج التخطيط السوفيتي في الخمسينات والستينات يعود الى الاهداف السياسية في الاستقلال والاعتماد الذاتي والى الرغبة في النمو الاقتصادي السريع، بالاضافة الى الانسجام مع الرؤية السائدة آنذاك حول ضرورة ان تكون الحكومة هي الأساس في التنمية.
ان التقنيات الجديدة في النظرية الاقتصادية والاحصاء والرياضيات لعبت ايضا دورا في تشجيع اساليب التخطيط التنموي. ان كبار مخططي التنمية في الستينات (آرثر لويس، جات تنبرجن، آلبرت وترستون) دعوا الى اتّباع اتجاه قصير الأجل (من سنة الى سنتين) في خطط للاقتصاد تُراجع سنويا لكي تدمج ضمنها المعلومات الجديدة. وكل تلك العمليات تتم تحت اشراف وكالة التخطيط الحكومية. ان الحاجة التقنية الى اتجاه متكامل وشامل في تخطيط التنمية حصلت على الاسناد والدعم من العلاقات الهيكلية الكنزية في الاقتصاد الكلي، ومن البرمجة الخطية وتحليلات المدخلات-المخرجات.
كان الاقتصاديون قادرين على توفير الخبرة التقنية التي يتطلبها التخطيط الشامل ووضعها في خدمة المخططين (تأثروا بقوة بالنموذج السوفيتي).
لم تتبع كل الدول النامية الاتجاه الشمولي. فأمريكا اللاتينية مثلا كانت الأكثر بطئا في انتهاج صيغة التخطيط الشامل. وعلى الرغم من دعوات اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة لدول امريكا اللاتينية باتّباع التخطيط الاّ ان نصائحها لم تلق الاستجابة، مكسيكو مثلا التي كانت الأسرع نموا في امريكا اللاتينية في الخمسينات والستينات لم تقم بأي خطط تنموية على الاطلاق. وفي معظم دول امريكا اللاتينية كان معظم التركيز ينصب على التخطيط على مستوى المشروع project level بدلا من إعتماد التخطيط المركزي. وفي افريقيا السوداء وجزر الكاريبي لم يكن هناك دعما سياسيا واضحا للتخطيط. كانت الخطط القومية تُرسم ولكن الفعالية الاقتصادية لم تتأثر بأي توجيه من الحكومة. فالإنفاق الحكومي ربما يُوجّه الى مناطق محددة سلفا لكن المهمة الرئيسية للمخططين كانت محاولة التنسيق بين الأعداد الهائلة لقرارات الاستثمار الخاصة وقرارات الانتاج.
وعندما لم تعد هناك رغبة قوية للتخطيط في الدول النامية تم تشخيص عدد من نقاط الضعف التالية:
1- التخطيط مال الى إدخال حالة من التمايز والتشوهات في الاقتصاد. القطاع العام أصبح متضخما جدا يحتوي على عدد هائل من المشاريع المكلفة والتي تنال إعجاب وكالات التخطيط.
2- في العديد من الحالات لم تكن هناك بيانات كافية للتخطيط. ضعف الخدمات المدنية والنقص في عدد الموظفين المُدربين ادّى الى خلق البيروقراطية وحالات من الفشل الاداري.
3- لم تكن التنمية الهدف الوحيد للحكومات. وهي لم تعمل لأجل المصلحة العامة، بل كان عليها ان تسوّي الخلافات بين جماعات الضغط. الوزراء اتّبعوا المصالح الفردية والقطاعية كجزء من التخطيط التنموي.
وبالرغم من مظاهر الفشل المتعددة للتخطيط التنموي، الاّ انه عموما لايزال مقبولا لدى الدول النامية. حيث بلغ عدد الدول التي وضعت خططا للتنمية في الثمانينات حوالي 40 دولة ويمكن تشخيص عدد من المواصفات لخطط التنمية الاخيرة وهي ثلاث خصائص رئيسية ميّزتها عن تلك الخطط السابقة: وهي التأكيد الكبير على الزراعة، تشجيع محفزات التصدير، ثم محاولة التسوية بين خطط التنمية والأهمية المتزايدة لدور السوق.
ان معظم خطط التنمية القومية الحالية تعتمد بشكل رئيسي على المساعدات الاجنبية والدعم المالي والفني من الوكالات الدولية مثل الامم المتحدة وبنوك التنمية العالمية. وبما ان هذه الخطط تعتمد على موافقة الاجانب فهي تبقى ذات تطلّع الى الخارج وتتجه الى السوق أكثر مقارنة بخطط الخمسينات والستينات.
وبقدر ما تسعى الخطط الى تعبئة المساعدات فإنها ستنجح في هذا الهدف حتى لو كانت أغراضها غير واقعية بالكامل.
واذا كانت ايديولوجية الاقتصاد السياسي في الدول النامية تتأثر بقوة بثقافة وروح التخطيط فان ذلك دفع الاقتصاديين الى اقتراح اتجاهات جديدة للتخطيط التنموي لكي يصبح التخطيط اكثر فعالية وواقعية. وطبقا لوجهة نظر البنك الدولي، فقد اقترح (Agarwala)(2) بان على المخططين ان يبحثوا عن اتجاه استشاري وليس تكنوقراطي.
فالنماذج التوجيهية الشديدة التعقيد يجب الغاؤها وإعتماد النماذج القائمة على المعلومات والتي تسعى الى خلق إجماع بين المنتجين والمستهلكين والمخططين كاتجاه ملائم في سياسة التنمية. ان خبراء البنك الدولي وآخرين فضلوا ايضا اعتماد الاتجاه الاختياري selective approach بدلا من النموذج الشامل acomprehensive model. ويرى (Sagasti)(3) ضرورة التخلي عن التخطيط القصير والمتوسط والطويل الأجل واعتماد اتجاه يركز على سلسلة من القضايا والمشاكل يجري ربطها الى فعاليات المنظمات غير الحكومية.
تعتمد الفكرة على استبدال الاسلوب الشامل والقديم للتنمية باسلوب مختلف كليا يرتكز على هيكل ذي تنظيم مرن يسمح للمخططين في الاستجابة بسرعة وفي جميع المستويات للبيئة المتغيرة. لابد من تشجيع المشاركة واعتماد سلوكيات ومواقف ومهارات جديدة تعطي الاولوية للمرونة بدلا من الحلول التقنية.