الموت جوعاً
علي حسين عبيد
2017-09-20 05:30
لم تمنعه سنواته الستون، ولا حرارة الشمس الملتهبة من مواصلة عمله الشاق الذي لا يتناسب مع جسده النحيف المتعَب، رأيته تحت لهيب الشمس أكثر من مرة، وكنت أتوقف قريبا منه وألقي عليه التحية، وأدقق النظر في وجهه بعمق، فأرى تلك التجاعيد التي ترسم تضاريس عجيبة غريبة في مطلعه، فأستغرب بيني وبين نفسي، لماذا يعمل هذا الرجل بمفرده في الجو المحرق، فيما يختفي الشباب تحت ظلال المقاهي أو الغرف المكيفة أو يأخذهم النوم في رحلة طويلة.
أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهني، لم أكن قادرا على توجيه السؤال بصورة مباشرة للرجل العامل كبير السن، كنت أشعر أنني بتوجيه أي سؤال له سوف أسبب له حرجاً أو ألماً ما، لذلك كنت أكتفي بالنظر الى وجهه والتدقيق بالعرق المتفصد على جبينه والمار عبر الأخاديد النازلة على خديه بصورة متعرجة نحو رقبته وصدره، فكان ماء جسمه واضحا وهو يتكدس على بدلته الزرقاء المبللة بعرق جسمه.
الى جانبي في صدر السيارة كان يجلس ولدي الشاب، وكان يشعر بألمي وأنا أتطلع الى هذا الشيخ الكبير وهو يكد ويتعب ويعمل بلا كلل أو ملل، في اليوم الثاني تكرر المشهد نفسه، وهذه المرة أطلت في سلامي على الرجل وسألته إن كان بحاجة الى ماء أو أي شيء آخر، لكنه كان يواصل عمله بجمع النفايات بصمت غريب، ثم عرفت منه أن أحد رجال الحي وعده بالتعيين والحصول على راتب شهري، وعندما تابعت قضية التعيين عرفت أنها خدعة، لأن التعيينات في دوائر البلدية متوقفة تماما بسبب حالة التقشف التي تطبقها الدولة تحت ضغط أسعار النفط وهبوط الميزانية وسوى ذلك من حجج وأعذار.
واصل الرجل كبير السن عمله الذي يبدأ من الساعة السابعة صباحا، وينتهي في الثالثة بعد الظهر حيث تبلغ حرارة الشمس ذروتها، وعندما تحريت عن الأمر، عرفت أن هذا الرجل صاحب عائلة من ثلاثة أفراد، هو وزوجته وهي بمثل عمره تقريباـ امرأة عجوز فاقدة للبصر، أما الثالث فهو ابنهم المصاب بكساح الطفولة، فهو غير قادر على المشي مطلقا بسبب إلتواء عظام ساقيه، مما عطل جسده عن الحركة، فسكن في فراش متهرئ قديم وأمه العجوز تناوله لقيمات من الخبز المنقوع بالماء، وأحيانا تناوله (استكان شاي) لو توفر لهم السكر، وفوق هذا وذاك، ليس لديهم بطاقة تموينية بسب فقدانهم لهويات الأحوال المدنية (الجنسية) وعدم قدرتهم على استخراج بدائل لأسباب إدارية، هكذا تجتمع كل الأسباب ضد هذه العائلة، صحيح أن هناك من ساعدهم في بناء غرفة بأحد الأحياء العشوائية، وأن هناك من يمدهم ببعض الخبز والرز وما زاد من موائد هي فقيرة أصلا، فماذا تتوقع من موائد الناس الذين يعيشون في أحياء عشوائية؟.
في إحدى الليالي لم ينم الشيخ المسن، سمع شخير ابنه فعرف أنه سكن الى النوم لأنه عادة ما يصاحب تنفسه الشخير عندما يغفو، وعرف أن زوجته العجوز قد سكنت بجسدها الضعيف الى جانب ابنها لأنها عندما تكون صاحية لا تكف عن الكلام والهذيان في أي موضوع حتى أنها في كثير من الأحيان عندما ينام زوجها تبقى تحدّث نفسها الى أن تغفو من التعب.
هو وحده بقي متطلعا في صفحة السماء، حيث النجوم تتلألأ بصورة جميلة أمام عينيه، حلم يقظة يجتاح رأس الشيخ الكبير، إنه سوف يعمل، سوف يجد له وظيفة كما وعده أحد الرجال في الحي، وعندما يباشر بوظيفته سوف يحصل على راتب مجزٍ، ويمكنه أن يشتري طعاما جيدا، وملابس نظيفة، ويذهب بولده الى أفضل الأطباء، سوف يعيد إليه ساقيه، وسوف يقوم ابنه الشاب من نومته على الفراش وسوف يساعده في نهايات عمره، سوف يعمل ابنهما ويريحهما في أواخر العمر.
غفا الشيخ الكبير وهو ينظر الى نجوم السماء، في غفوته بدأ يحلم أيضا، وجد نفسه أصغر بكبير من عمره الحالي، بدا شابا قويا معافى، يعمل ويكد بقوة في بساتين القرية، يجني الأعناب والكروم ويعود الى البيت محملا بألذ الفواكه وبجيب مليء بالدنانير، جسد معافى وطعام لذيذ وجيوب تغص بالنقود، ماذا يريد أكثر من هذا، حتى أنه قرر الزواج من فتاة القرية الجميلة، وكان له ما يريد، وعاش حياة هانئة، ثم صحا من حلمه على صوت ابنه العليل وهو يطلب الماء، وكانت الشمس قد شقّت بضيائها صفحة السماء.
ارتدى الشيخ المسنّ بدلته الزرقاء وخرج الى العمل، لم يترك ورقة صغير او كبيرة ولا قنينة فارغة ولا أطعمة ملقاة على قارعة الطريق إلا وجمعها وألقى بها في الحاوية الكبيرة، هكذا يواصل العمل من بداية النهار حتى بعد الظهيرة، كانت شوارع الحي تبدو مرتبة نظيفة وقلما ترى أي كمية من القمامة ملقاة هنا أو هناك، وهذا دليل على أن الرجل كبير السن كان يؤدي عمله بأمانة تامة، أفضل من مئة شاب لا يحمل جدية وإخلاص هذا الرجل المسن، فكانت أبواب البيوت نظيفة وعتبات الأبواب بلا مخلفات أو أي نوع من الفضلات.
هذا اليوم قررت أن أفعل شيئا للرجل، فقد حصلت على وعد من أحد معارفي على تعيينه بأجر يومي، أو على الأقل تسجيله في دار الرعاية، ويمكن أن نشترك في جمع أموال بسيطة لهذه العائلة، والحقيقة هناك مئات العائلات من هذا النوع، لكن ما يقع أمام أعيننا مصادفة نتنبّه، أما أن نبحث عن المعوزين فهذا ما لا نقوم به، لأننا نحاول أن نقنع أنفسنا بأن الدولة والحكومة هي وحدها المسؤولة عن مثل هذه الحالات، لكن الأمر ليس هكذا، فالكل مسؤول عن إعالة حالات من هذا النوع، والأثرياء جميعا مسؤولون أمام الله عن حالات كهذه، حتى لو كان الثري لا يعرف بها، عليه أن يبحث عنها، ولكن نحن للأسف حتى حالات العوز التي نرها بأم أعيننا نتغاضى عنها ونهملها ونجد ألف عذر وعذر لأنفسنا، وأول هذه الأعذار، الحكومة هي المسؤولة.
أخيرا لم أجد الشيخ المسن، لا اليوم ولا غد ولا بعد غد، غاب الرجل الكبير عن الحي، لم يعد يعمل به، وبعد بحث وسؤال واستقصاء وأسئلة، عرفت أن السيخ الكبير العامل تحت لهيب الشمس سلّم أمانته الى الله، مات وغادر الى السماء التي كان ينظر إليها في الليل ويحلم بالحصول على عمل ونقود وطعام ودواء، لكنه لم يحصل على ذلك، إنه الآن بين يدي الرفيق الأعلى، يشكو من أهمله في الأرض واحداً واحدا.