ثقافة الإصغاء وآفاق الوعي
محمد علي جواد تقي
2017-01-20 02:40
بسم الله الرحمن الرحيم: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)).
أثار الباحثون في علم النفس، مسألة الإصغاء الى الآخر على أنها سبيل لتسوية المشاكل النفسية التي تعترض الانسان وتعكّر صفو علاقاته الاجتماعية، وتبني له جسور العلاقات الحسنة والبناءة من خلال الحوار ويكون الإصغاء أحد العوامل الحاسمة لنجاحه، وهذا ينصرف في مجمل العلاقات بين الانسان والآخر، الذي يبدأ من الإبن الصغير والزوجة، ومن أفراد العائلة والجوار والاصدقاء، بل وحتى غير الاصدقاء ممن يختلفون في الرأي والعقيدة والسلوك.
واذا كان افراد المجتمع يحتاجون الى الإصغاء لتقويم وتحسين العلاقات البينية، فانهم يحتاجون هذا الإصغاء لما يفيدهم في صناعة الوعي وبلورة الثقافة السليمة لما من شأنه تقويم السلوك والعادات ومن ثم التوصل الى حقائق وتفسيرات لظواهر عدةّ الحياة، وهذا لن يتوفر إلا بالإصغاء الى ما يقدمه الآخر من افكار وملاحظات في مجالات شتّى.
حواجز سميكة أمام الإصغاء
واذا القينا نظرة خاطفة على مكانة الإصغاء في ثقافتنا العامة، نجدها تتعرض في كثير من الاحيان الى التهميش والتجاهل لوجود مشاعر تنتاب البعض بالاكتفاء الذاتي من ناحية الفكر والثقافة والمعرفة، او انه قادر لوحده التوصل الى ما يريد دون الحاجة الى الغير، وربما يستشعر البعض إن جلوسه وإصغائه لمتحدث، في أي مناسبة او مجلس ما، يمثل منقصة لمستوى وعيه وثقافته وحاجته الى التعلّم من الآخرين! فعنده كل شيء مسموع ومكرور ولا جديد في الساحة!.
وهذا لا يعد سبباً منطقياً لغياب صفة الإنصات من ثقافتنا، لان المهتمين بهذه المسألة النفسية يشيرون الى اسباباً أخرى لها مصاديق على ارض الواقع تحتاج معالجة لتجاوز هذه الازمة والخروج من دائرة الذات المعرفية – إن صحّ التعبير- الى الأفق الواسع للمعرفة، ومن هذه الاسباب :
1- عدم التحلّي بالصبر واستعجال الامور تبعاً للحالة السائدة في حياة اليوم، فالإصغاء الذي هو حضور ذهني يتطلب استقرار بدني ونفسي في آن، لذا نلاحظ ظاهرة سرعة التلقّي تلاحقها سرعة الاستنتاج وإصدار الإحكام، مهما كانت حساسية الموضوع او القضية المطروحة على بساط البحث والنقاش.
2- الارهاق البدني الناتج من سلبيات المحيط الاجتماعي والاقتصادي، وهذا ما نلاحظه في عديد بلادنا، ومنها؛ العراق، حيث يخصص الكثير من الناس وقته لتلبية مختلف سبل العيش وهي تتضمن أمور من اختصاص مؤسسات الدولة، مثل الماء الصالح للشرب او الكهرباء او النقل والمواصلات والاتصالات وغيرها، فضلاً عن توفير مستلزمات البيت، وهذا وغيره من شأنه ان يضعف القدرة على الإنصات والقائمة على قابليات نفسية داخلية.
3- الاحكام المسبقة إزاء الشخص المتكلم، على أن الخطاب أو الفكرة غير مجدية او خاطئة او ربما يكون الشخص المتحدث في نظر صاحب الحكم المسبق غير جدير بالاحترام فضلاً عن الإصغاء كونه – في نظره- أحد عوامل التدهور الحاصل في الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية، والنتيجة تكون إطلاق الحظر النهائي والقاطع على جهاز السمع من استقبال أي فكرة او حديث مهما كانت الحاجة اليها.
الإصغاء ضالة الحقيقة
طالما تستوقفنا نصوص دينية من آيات كريمة وروايات عن المعصومين، عليهم السلام، تحثّ على الإصغاء والإنصات والاستماع بغية الوصول الى الحقيقة، بينما نجد الذمّ للهذر من الكلام والعجلة في الاحكام، فكانت التوصيات الأكيدة على الصمت كإعداد نفسي أولي للإصغاء، حتى صار "السكوت من ذهب والكلام من فضة"، وجاء عن أمير المؤمنين، عليه السلام: "الصمت روضة الفكر"، وجاء ايضاً في "غرر الحكم": "الصمت آية النبل و ثمرة العقل".
بمعنى؛ أن القضية تتجاوز الصمت والتأنّي أمام الآخر والاستماع الى وجهة نظره، قبل الإدلاء بوجهة النظر الاخرى، ثم صناعة أجواء حوارية وتبادل وجهات نظر ورؤى بعيداً عن المتبنيات والانتماءات، كما يدعو الى ذلك الكثير من أهل الفكر والثقافة، إنما المهم في حاضر ومستقبل الانسان تفسيره للظواهر واعتماده المعايير لاتخاذ الموقف الذي لا يندم عليه.
إن فتح ابواب الحوار والدعوة الى تبادل الرؤى والافكار في مناسبات ومحافل عدّة، لها من الفوائد؛ من إثراء الافكار وتنضيجها ومناقشتها، لكنها تبتعد باصحابها – احياناً- عن ثمرة هذه الحوارات، وما اذا كانت تبلغ باصحابها شاطئ الحقيقة، او على الاقل الفكرة الموحدة التي تصوغ الخيار المفضل للخروج من الازمات او لصناعة البديل الافضل.
ولعل هذا ما تبينه الآية الكريمة التي زينّا المقال بها، فما نستمع ونصغي اليه ربما يتسم بتعدد الاتجاهات او حتى تعارضها، لذا تشير الآية الى وجود القول الحسن وايضاً الكلام الأحسن، فمن يأخذ بالأحسن تصفه الآية الكريمة بأنه من {أولي الألباب}، وهم ذولي العقول الراجحة الذين ينطلقون من الاصغاء والاستماع، الى رحاب المعرفة والوعي في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.