وصلنا ولم نصل
د. جليل وادي
2025-07-27 04:26
في أريافنا وقبل بضعة عقود يوصف الشخص المتعلم (بالواصل)، وان وصل أحدهم الى مستوى معلم او مهندس او استاذ جامعة على قلة ذلك وندرته، فذلك يعطي للواصل مركزا اجتماعيا مرموقا، وبه يتقدم الصفوف، ويمشي الى جانب شيخ العشيرة، وفي وسط الوجهاء، يغدو كالقلب من الجسد، ولا يُتخذ قرار دون مشورته، فماذا تعني كلمة (الواصل) لدى المجتمع الريفي، وهل يُقصد بها الحصول على الشهادة العلمية؟
أبدا لا يعني (الوصول) الحصول على الشهادة بالمعنى الريفي، بل يرمز الى الحصيلة العلمية والثقافية التي بلغها المرء، بمعنى انه أصبح على قدر كبير من المعرفة والفهم قياسا بالآخرين، وعندما يدور نقاش بين من لا حصيلة له وآخر من الواصلين، يعترف الأول للثاني بالقول: (بأنك أعرف مني)، بمعنى ان الناس تعرف أقدارها العلمية والثقافية ومنزلتها الاجتماعية، ولا تنال من الواصلين او تقلل من شأنهم او تسخّف شهاداتهم، وهذا يحدث عندما كان الوصول يعني الوصول حقا.
ومع ان الواصلين قلائل حينذاك، ذلك ان الوصول لم يكن متاحا للجميع لأسباب شتى كالفقر وقلة المدارس وبعدها عن محال السكن، والضغوط المعيشية الصعبة التي تجبر الآباء على تفضيل مساعدة الأبناء في أعمالهم الزراعية والرعي على الذهاب الى المدرسة، اما الفتيات فمن المستبعد مواصلة الدراسة للأسباب نفسها، وسيادة بعض القيم البالية، والتحسب من مخاطر يُحتمل أن يتعرضن لها.
تبعد المدرسة المتوسطة عن قريتنا بحدود سبعة كيلومترات، والطريق اليها ترابي وسط المزارع، وليس فيها سوى ثلاث سيارات، يسترزق أصحابها من العمل بالمدينة، وليس أمامنا الا استعمال الدراجات الهوائية، لكن ذلك يتعذر في الأيام الممطرة، فلا يمكن قيادتها مع الأطيان، او عندما تتلبد السماء بالغيوم ويحتمل أن تمطر، او عندما تهب ريح قوية وعندها تكون قيادتها أمرا متعبا، وفي مثل هذه الأيام نمتطي أقدامنا لمسافة (14) كيلو مترا ذهابا وايابا، والذي يتغيب عليه انتظار عقابه الشديد من الادارة، ولم يخطر في بال مديريات التربية تعطيل الدوام في المدارس الريفية أيام المطر، ومع كل هذه المصاعب وما يرافقها من مساعدة الأهل في الزراعة والرعي وصل عدد من الطلبة حتى مرتبة وكيل وزارة ومدراء دوائر ومدرسين ومعلمين وأساتذة جامعة، والآخرين تعثروا في منتصف الطريق.
ومع قلة الواصلين في بلادنا حينذاك، لكن وصولهم انعكس ايجابا على المجتمع، فصار متحضرا ومنضبطا، واتسعت مساحة التنوير فيه حتى غدا يتطلع الى مواكبة العالم المتقدم علما وقيما وتحضرا.
اما الآن فنسبة الواصلين كبيرة جدا قياسا بما مضى على مستوى الحصول على الشهادات الجامعية من البكالوريوس الى الدكتوراه، ولا سيما في السنوات الأخيرة، لكن معنى (الوصول) اختلف تماما عن معناه في الماضي، اذ صار الحصول على الشهادة هو الهدف وان كان صاحبها لا يحمل من العلم والثقافة شيئا، حتى لم تعد الدولة بقادرة على استيعاب هذه الأعداد المهولة في قطاعها العام، وبذلك أهدرت المليارات في تعليم مجاني لم يجن منه المجتمع سوى شهادات فارغة المحتوى الا بحدود ضيقة، كما لم تتأمل بعناية في التداعيات المحتملة لأكداس من الشهادات التي يعاني أصحابها البطالة، ودون أن يخطر على بالها مخاطر من يسمون أنفسهم بالكفاءات على النظام السياسي نفسه، وعلى مستقبل الدولة.
وصلنا ولم نصل، هذا ما يمكنني وصف الحال به، فلم نتلمس انعكاسا للواصلين اليوم على المجتمع، فالمجتمع متخلف، يعيش وسط الأوهام والخرافات، مع تدهور كبير في منظومته القيمية، وتراجع مريع في ذوقه العام، واتساع في روحه العدوانية، وشيوع للنزعة الاستهلاكية، وانتشار للسلوك المظهري، وانخفاض للشعور بالانتماء الوطني وغيرها. هذا ما نلمسه واقعا وأمام الأنظار، فما قيمة الشهادات التي باتت توزع في أشكال توحي بالعلمية؟