النقد وسعة الصدر
عبد الرزاق عبد الحسين
2019-03-03 05:22
لمفردة النقد معان مختلفة، منها المادي حين نعني بها النقود (الأموال) ومنها الفكري الأدبي حين نعني بها بحث النصوص المكتوبة عبر معايير نقدية تخضع لنظريات نقدية أدبية وفنية مختلفة، ويُعرَّف النَقْد لغةً، بأنه تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها، ويأتي بمعنى فَحص الشيء وكشف عيوبه، أما في الاصطلاح، فالنَقد هو تمحيص العمل الأدبي بشكل متكامل حال الانتهاء من كتابته؛ إذ يتم تقدير النص الأدبي تقديراً صحيحاً يكشف مواطن الجودة والرداءة فيه، ويبيّن درجته وقيمته، ومن ثم الحكم عليه بمعايير معينة، وتصنيفه مع من يشابهه منزلة.
وقد يأتي النقد في أشكال وتعبيرات مختلفة، فالنقد هو تعبير مكتوب أو منطوق من متخصّص يسمى ناقدًا، عن الجَيِّد والرديء في أفعال أو إبداعات أو قرارات يتخذها الإنسان أو مجموعة من البشر في مختلِف المجالات من وجهة نظر الناقد، كما يذكر مكامن القوة ومكامن الضعف فيها، وقد يقترح أحيانا الحلول، وقد يكون النقد في مجال الأدب، والاجتماع، والسياسة، والسينما، والمسرح وفي مختلف المجالات الأخرى.
وحول الصيغ التي يتجسد في النقد، فقد يكون مكتوبا في وثائق داخلية أو منشورا في الصحف أو ضمن خطب سياسية أو لقاءات تلفزيونية وإذاعية، وربما في ندوات ومؤتمرات نقدية متخصصة، وهو يعني النظر في قيمة الشيء وتقييمه، فالنقد المعرفي مثلا هو النظر في إمكانية وشروط المعرفة وحدودها، وهو عموما عدم قبول القول أو الرأي قبل التمحيص، وينقسم إلى نوعين عامين:
- نقد خارجي: وهو النظر في أصل الرأي.
- نقد داخلي: وهو النظر في الرأي ذاته من حيث التركيب والمحتوى.
وكي لا يتم الخلط بين أنواع النقد، فهنالك النقد في الأدب، إذ قال جورجي زيدان عن النقد في مجلة الهلال؛ إن الانتقاد يعني إبراز جوانب الاستحسان والنقص على السواء وأن كلمة (انتقاد) ليست تعني إحصاء العيوب وحدها ونريد من باب (الانتقاد والتقريظ) كلا الجانبين، فحين يبدي الآخرون رأيهم فيما يسمعونه إن كان حسنا أو قبيحا فدعوناه لذلك (باب التقريظ)، والانتقاد تقريبا من معنى المراد، وما فتحناه إلا لعلمنا بما يترتب عليه من الفائدة الحاصلة من تناول الآراء وأن العاقل من أعتقد الضعف في نفسه وعلم أن انتقاد ما يكتبه أو يقوله، لا يحط من قدره، إذ أننا لا ننتقد إلا ما نراه جديرا بالمطالعة ومستحقا للانتقاد.
هذا يعني أن الشيء أو الظاهرة أو النص الذي يتعرض للنقد، هذا لا يحطّ من قيمته، بل على العكس سوف يزيدها ثراءً وأهمية، أما الرديء أو غير المهم فلا يستحق الاهتمام والتصويب أو النقد، وفي مجال نقد في الفن مثلا تعددت التيارات النقدية في الفن عامة والفنون التشكيلية خاصة خلال القرن العشرين بالعالم العربي فشمل النقد الفني توجهات جمعت بين الفلسفة والتنظير والتأريخ، وبحثت في شؤون تفصيلية لها علائق عميقة بالفن لذاته.
وما تهتم به هذه المقالة على نحوٍ مخصوص هو النقد الاجتماعي الذي يحلل التركيبات الاجتماعية والتي يُنظر إليها على أنها معيبة، ويهدف إلى إيجاد حلول عملية لتدابير محددة، وإصلاح جذري أو حتى تغيير ثوري، ويمكن لنقطة انطلاق النقد الاجتماعي أن تكون مختلفة جدا ونظريات سياسية معينة لم يكن لديها احتكار على ذلك، يمكن أن تكون نقطة الانطلاق من تجربة أقلية داخل المجتمع عموما، أو حتى من تجربة مجموعة من الناس داخل الحركة الاجتماعية التقدمية التي لا ترقى إلى جدول أعمالها تدريجيا في كل الاحترام.
وحين نلج ميدان النقد السياسي، فنجد أن خبراء السياسة والمحللين السياسيين ينقدون القرار السياسي الصادر عن الحكومات، من باب التقويم والتنبيه على الأخطاء التي قد تتراكم كنتيجة عن القرارات السياسية، في النظام الفردي لا يوجد سماح لمثل هذا النقد ويكون مطلقي مثل هذه الآراء الناقدة للحاكم طعاما للسجون والزنازين وحبال المشانق، بسبب ضيق أفق الدكتاتور وخشيته على سلطته من تهديد المشاركة العامة في الحكم، في حين أن من أهم ما على الحاكم الالتزام به وقبوله والتعامل معه على أنه عامل تقويم وليس معاداة له هو تقبّل النقد بسعة صدر كبيرة تستوعب كل من ينتقد الحاكم وحكومته على القرارات الخاطئة.
ينطلق الإمام علي عليه السلام من هذا فيقول: (آلة السياسة سعة الصدر).
سؤال يحضر بقوة، كيف بُنِيَتْ الأمم، كيف تطورت، حتى تلك التي غاصت في قرون الظلام إبان محاكم التفتيش والفترة الكنسية، إنهُ النقد الذي يوصف بإكسير التطور، فكل الأمم التي استعادت بريقها وارتقت سلالم المجد مجددا، مشتْ في طريق النقد ونشرته كثقافة شاملة تلفّع بها المجتمع صغاراً وكباراً، حتى صار أسلوب حياة جعل من الحوار هو السبيل الأعظم لاستخلاص نتائج في صالح الجميع.
انطلاقا من بواكير الولادة، من الأصحّ أن تبدأ عملية نشر النقد كثقافة بين أفراد المجتمع كله، فهناك خلايا أو مؤسسات اجتماعية عليها أن تتصدى لزرع بذور تقبّل النقد في العقول والقلوب والأعراف والثقافات ومنظومات السلوك، بهذه الطريقة سيكون النقد والنقد المقابل أحد أهم الدعامات التي يستند إليها البناء الجمعي، كما أن صناعة الفرد المنتقِد والقابل للنقد ستزدهر في ظل ازدهار ثقافة الحوار المبثوثة من الأسرة صعودا إلى المراحل الدراسية القابلة.
كما أنّ صناعة فرد مجبول على منادمة النقد، سيكون أمراً ميسوراً، ومن حاصل جمع الأفراد الناقدين والمنتقَدين، ومن المساعي المبذولة بانتظام في توسيع رقعة النقد الاجتماعي وفسح المجال أكثر فأكثر للحوار على حساب التذمر والتطرف والإلغاء، سيكون لدينا مع تدرج الزمن خزين ثقافي هائل، يتّخذ من النقد خريطة عمل لتقويم الأفراد، بنوايا نقية من الاستهداف المسبق، بهذه الثقافة النقدية تُصنع شخصية رزينة واثقة تستقبل تذكيرها بأخطائها كأنها نوع من الهدايا الثمينة، وتبقى تردد بامتنان وتقدير: رحم الله امرئ أهدى إلي عيوبي