المجال العام
حيدر الجراح
2015-02-21 03:10
يتكوّن المجال العام من (أمكنة تصوّريّة إلى حدّ ما - مقهى، الصحافة، محكمة، الراديو، أماكن الاجتماعات - حيث يجتمع المواطنون لمناقشة مواضيع تتعلّق بالمجتمع. إذ يثير الأفراد في هذه الأماكن نقاشات أو يقومون ببعض الأعمال - إضرابات، عرائض، تظاهرات - تتعلّق بالصالح العام ويمكن لها أن تؤثّر في القرارات السياسيّة). فهو إذن يمثّل حيّزا من الحياة الاجتماعيّة ينشأ عبر تفاعل الأفراد وحواراتهم الحرّة والعقلانيّة مع بعضهم البعض في مسائل تخصّ الصالح العام، بقطع النظر عن انتماءاتهم والفروق التي قد تكون موجودة بينهم، ويمكن من خلاله أن يتمّ تشكيل ما يقترب من الرأي العام.
تطور مفهوم المجال العام من خلال الفيلسوف الاجتماعي الالماني يورغن هابرماس عبر بحثه في التاريخ الحديث لإنكلترا والمانيا وفرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان العمل منذ بدايته عملا ينتمي الى علم الاجتماع المقارن التاريخي الذي حاول ان يفهم جوهر الدور الذي يلعبه المجال العام في المجتمعات الحديثة، على الرغم من الخلافات بين هذه الدول الاوربية.
هذا الجهد قدمه هابرماس في سياق نظريّة واضحة المعالم من خلال كتابه الصادر سنة 1961 تحت عنوان: (التحوّل البنيوي للمجال العام) وإن اعترف هابرماس نفسه أنّ جذور هذا المفهوم ضاربة في القدم انطلاقا من المدينة الإغريقيّة التي كان فيها الفصل بين مجال الدولة أو الحكومة ومجال جمهور الشعب أو العامة قائما متجسّدا خاصة في ساحة السوق وربّما في أماكن أخرى أيضا، إضافة إلى جملة من المؤسسات الاجتماعيّة التي برزت في القرن الثامن عشر في أوروبا مثل المجلات والصحف والمقاهي بإنجلترا والصالونات الباريسيّة بفرنسا ونوادي القراءة بألمانيا.. وكانت جميعها فضاء لمناقشة القضايا أو المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة مناقشة نقديّة دفعت بالمجال العام ليشكّل سلطة في مواجهة الدولة كان من نتائجها الديمقراطيّة النيابيّة. هذا فضلا عن وجود إشارات تثبت أنّ ابتكار هذا المفهوم يعود إلى الفيلسوف الألماني كانط. ويبقى إنجاز هابرماس في كونه اشتغل على هذا المفهوم بعمق أكبر وقدّمه في شكل نظريّة واضحة.
يعكس مفهوم المجال العام فكرة وجود مستوى من الفعل الاجتماعي ومن الاتصال بين الدولة والمجتمع المدني، يشكل فضاءا اجتماعيا يتفاعل فيه الافراد العاديون ويتعاونون. ووفقا لما ذهب اليه هابرماس فان الفاعلين في المجال العام الحديث ينتمون اساسا الى الطبقات الوسطى المتعلمة والى البرجوازية.
ان المجال العام يعبر عن المصالح والمشاعر المتجذرة في المجال الخاص وفي المجتمع المدني عبر منتديات جماعية: حلقات نقاش في المقاهي، والصالونات الادبية، والنوادي، والروابط التي قد تصل بنا الى تشكيلات حزبية جنينية. اما دور المجال العام فهو اضفاء قدر من الاتساق على المشاعر المتفرقة، واضفاء قوة جمعية على الادعاءات المتناثرة. وهو يرسل رسالة الى الحكام تتعلق بالارادة الجمعية للفاعلين الاجتماعيين المستقلين، ومن ثم فقد اعتبر المجال لعام مدرسة للديمقراطية: خاصة في مراحل التشكل التي تسبق تكوين مؤسسات ديمقراطية كاملة، ويمكن للحكومة التي تستمد شرعيتها من اساس غير ديمقراطي ان تكبح تطور المجال العام، ولكنها لاتستطيع ان تفعل ذلك الا في حدود معينة: ووفقا لكلمات هابرماس (فان قوة المجال العام هي التي تسود في النهاية، حتى بعد ان تفشل الثورات الديمقراطية الليبرالية).
كان السؤال السياسي الأساسي الذي يطرحه المجال العام هو، بالنسبة لهابرماس، كيف يمكن تعزيز مشاركة واسعة النطاق ومتكافئة إلى هذا الحدّ أو ذاك في الخطاب العقلاني– النقدي حول غايات المجتمع الحقيقية.
وهو يرى أنّ المجال العام قد خُلِقَ إلى حدٍّ بعيد لأغراض تتعلق بتناول مسألة الدولة وتلك الضروب من القضايا العامة التي يمكن أن تتوجه إليها أو تتعلق بها سياسة الدولة. فالمجال العام يقوم على:
(1) تصوّر للخير العام بوصفه مميّزاً عن المصلحة الخاصة.
(2) مؤسسات اجتماعية، مثل الملكية الخاصة، تمكّن الأفراد من المشاركة في المجال العام مشاركة مستقلة.
(3) أشكال من الحياة الخاصة، خاصةً العائلة، تُعِدُّ الأفراد لأن يتصرّفوا كذوات عقلانية– نقدية مستقلة في المجال العام.
لقد نظّر هابرماس الى المجال العام الحديث على انه يشكل قطيعة مع التراث، بما في ذلك صور التراث الدينية، ومن ثم فهو فضاء علماني، ولكن البحوث الحديثة قد اوضحت اسهام حركات الاصلاح الديني في بزوغ المجال العام في اوربا، واكثر من هذا فان بزوغ المجال العام الحديث قد ساهم هو نفسه في الاصلاح الديني، فقد كان مفهوم المجال العام مفهوما مثمرا في تقديم فهم للتحديات والوعود المتعلقة بالحكم الديمقراطي بطرق عديدة. ومن المنظور المعياري فان فكرة المجال العام تحمل في جوهرها الوعد بإمكانية التحرر من خلال الاتصال والتدبر العقلي والتفاوضي، فثمة توقع بوجود قدر من العقلانية والانفتاح على الصالح العام يثري البحث في نظرية هابرماس حول المجال العام. فالفكرة الرئيسية هنا تنحصر في القول باننا اذا اردنا ان نصنع شرعية لعملية اتخاذ القرار فان كل اولئك الذين يتأثرون بهذا القرار يحتاجون الى ان يكونوا قادرين على المشاركة في العملية عبر مناقشة هذه القرارات علانية. فعبر التدبر العقلي العام يمكن تحديد صور المعاناة الاجتماعية كما يمكن خلق فرص سياسية للفعل الجمعي، وتطوير اطر جمعية رمزية ونظامية لبلورة المطالب. ومن هنا يقال ان المجال العام يقدم الالية المركزية للتنظيم الذاتي الديمقراطي للمجتمع، ومن هذه الالية تتولد الشرعية، ويحتفظ اولو القوة بأماكنهم.
وُعَدُّت حنّة أرندت من المنظّرين المحدثين النافذين الذين تناولوا المجال العام، حيث ركّزت أرندت على قدرة الفعل في المجال العام بغية خلق العالم الذي يتقاسمه المواطنون (الشرط الإنساني). ولقد اعتمدت آرندت على كلٍّ من المصادر اليونانية القديمة والأميركية في حقبة الثورة لكي تطور رؤية للحياة العامة بوصفها أساسية ومركزية بالنسبة للجماعة الأخلاقية التي تعيش في جمهورية. وقد كان لأفكارٍ مماثلة عن المجال العام الجمهوري المعافى نفوذ كبير في الدراسات التاريخية الأميركية، خاصةّ في أعمال ج. غ. أ. بوكوك، وبرنارد بايلين، وغوردون وود. ومثل أرندت، فإنّ هؤلاء الباحثين “الجمهوريين” يلحّون على الطبيعة سريعة الزوال التي تتمتع بها النزعة الجمهورية وما شهده القرن التاسع عشر من ظهور سريع لنموذج المجال العام الليبرالي، والقومي، والتمثيلي المتنوّع (بدلاً من النموذج القائم على المشاركة). وهم بهذا ينضمّون إلى تيار فكري واسع من اليسار واليمين على حدٍّ سواء يأسف للتدهور الذي أحاق بالمجال العام في الفترة الحديثة، وهي ظاهرة عادةً ما تُقْرَن بنشوء مصالح خاصة على حساب الاهتمام بالخير العام، وكذلك بتقهقر الخطاب العام العقلاني بشأن الشؤون العامة. غير أنّ هنالك بعض الأبحاث الجديدة التي قطعت شوطاً في تحدّي هذه المعالجة للحقبة الجمهورية كما لو كانت عصراً ذهبياً.
ويتناول البحث المعاصر المتركّز على المجال العام عدداً من القضايا المهمة: إتساع المشاركة السياسية، وجود مجالات عامة متعددة أو متداخلة، تأثر وسائل الاتصال الحديثة، ونوعية الخطاب النقدي–العقلاني وعلاقته بالنشاطات المشكّلة للثقافة وهذه القضايا هي أيضاً موضع بحث في النقاشات التي تتناول المجال العام الدولي، وتلحّ على موضوعات مثل حقوق الإنسان، والتحول الديمقراطي، وتدفّق رؤوس الأموال والاستثمارات.