وحدنا معا.. كيف جعلتنا التكنولوجيا أكثر عزلة؟
شبكة النبأ
2025-12-09 04:41
في كتاب "Alone Together" (وحدنا معاً)، كيف سحرتنا التكنولوجيا وماذا قدمنا لبعضنا تجادل المؤلفة شيري توركل (Sherry Turkle) بأننا نعيش مفارقة العصر الرقمي؛ حيث أصبحنا "نتوقع أكثر من التكنولوجيا وأقل من بعضنا البعض".
تستعرض الكاتبة كيف نلجأ إلى الروبوتات الاجتماعية والذكاء الاصطناعي بحثاً عن وهم الرفقة دون مطالب الصداقة الحقيقية، وكيف نستخدم الشبكات الاجتماعية والرسائل النصية لنبقى على اتصال دائم مع الآخرين، ولكن من مسافة آمنة تتيح لنا الاختباء والتحكم في مشاعرنا. النتيجة هي حالة جديدة من العزلة، نكون فيها "وحدنا" حتى ونحن "معاً" عبر الشاشات، مفتقدين للحميمية الحقيقية والعزلة المثمرة
تتناول هذه المقتطفات من الكتاب التحول العميق في العلاقات الإنسانية الناتج عن التكنولوجيا الحديثة. تعرض توركل أبحاثاً مكثفة حول الروبوتات الاجتماعية، مشيرة إلى أن المستخدمين، من الأطفال إلى كبار السن، يتجهون بشكل متزايد للبحث عن الرفقة والعزاء العاطفي في آلات مثل "بارو" و"فيربي" لأنها لا تخيّب آمالهم. في الوقت نفسه، يستكشف الكتاب الحياة الشبكية، موضحاً كيف تشجع الأجهزة الرقمية (مثل الهواتف الذكية ووسائل التواصل) ثقافة الاتصال المستمر، وغالباً ما يكون ذلك على حساب التفاعل الحقيقي المباشر. يؤدي هذا الاعتماد على الوساطة التكنولوجية، سواء من خلال الرسائل النصية أو الشبكات الافتراضية، إلى ظهور مفهوم "الذات المقيدة" التي تكون متصلة باستمرار ولكنها منعزلة بشكل متناقض. كما تشير توركل إلى أن إنشاء هوية على الإنترنت، سواء كصورة شخصية (avatar) أو ملف تعريفي (profile)، يصبح عملاً شاقاً لـ"أداء الذات" بدلاً من التعبير عنها بصدق. في الختام، تجادل توركل بأن المجتمع يجب أن يجري حوارات ضرورية حول كيفية دفع التكنولوجيا للناس لكي يتوقعوا المزيد من الأشياء وأقل من بعضهم البعض، مما يهدد بتدهور الألفة والتعاطف البشري.
المقدمة: مفارقة العصر الرقمي
تطرح شيري توركل في مقدمة كتابها فكرة أن التكنولوجيا باتت تفرض نفسها كمهندس لعلاقاتنا الحميمة، مقدمة بدائل تغنينا عن الواقع المعقد. تشير الكاتبة إلى أننا في هذا العصر نعاني من الوحدة، لكننا في الوقت ذاته نخشى الحميمية الحقيقية؛ لذا تقدم لنا الاتصالات الرقمية والروبوتات الاجتماعية وهماً بالرفقة دون مطالب الصداقة الحقيقية. نحن نختبئ من بعضنا البعض حتى ونحن متصلون ببعضنا، مفضلين الرسائل النصية على المحادثات المباشرة لأنها تتيح لنا التحكم في الوقت والمسافة.
تستعرض توركل كيف تطورت علاقتنا بالتكنولوجيا من استخدام أجهزة الكمبيوتر كأدوات للتفكير (كما في كتابها "الذات الثانية") إلى استكشاف الهوية عبر الإنترنت (في "الحياة على الشاشة")، وصولاً إلى المرحلة الحالية حيث نعيد تشكيل أنفسنا وعلاقاتنا من خلال ألفة جديدة مع الآلات. وتلخص هذه الحالة بجملة محورية: "نحن نتوقع أكثر من التكنولوجيا وأقل من بعضنا البعض".
تتحدث الكاتبة عن "اللحظة الروبوتية"، وهي لا تعني فقط وجود الروبوتات بيننا، بل تشير إلى استعدادنا العاطفي والفلسفي لتقبلها كرفقاء محتملين. تروي قصصاً عن أشخاص مستعدين لاستبدال العلاقات البشرية المعقدة والمخيبة للآمال بعلاقات مع روبوتات توفر محاكاة للحب والاهتمام دون خذلان. وتلاحظ أننا أصبحنا نتقبل فكرة أن المحاكاة ليست مجرد "أفضل من لا شيء"، بل قد تكون "أفضل من أي شيء" آخر، لأنها توفر لنا السيطرة وتجنبنا التعقيدات.
في الجانب الآخر، تتناول توركل الحياة المتصلة شبكياً (Networked Life)، حيث نعيش حالة من "الوحدة معاً" (Alone Together). نحن متصلون باستمرار عبر الأجهزة المحمولة، لكننا قد نكون غائبين ذهنياً عن الأشخاص الذين يشاركوننا المكان الفعلي. تآكلت الحدود بين العمل والترفيه، وبين الحميمية والعزلة. وتلفت إلى أن هذا الاتصال الدائم يحرمنا من فوائد العزلة الحقيقية، التي هي ضرورية للتفكير وتطوير الذات. أصبحنا نلجأ إلى الشاشات لتجنب لحظات الوحدة، مما يجعلنا غير قادرين على تحملها، وبالتالي نصبح معتمدين كلياً على الآخرين لتأكيد وجودنا، ولكن بطريقة سطحية.
توضح توركل أن الكتاب يسرد قصتين: قصة الروبوتات الاجتماعية التي تعد بعلاقات نتحكم فيها، وقصة الحياة الشبكية التي تتيح لنا الاختباء وراء الشاشات. في الجزء الأول، تستكشف كيف انتقلنا من الفضول حول ذكاء الآلات إلى الرغبة في رعايتها والتواصل معها عاطفياً. وفي الجزء الثاني، تناقش كيف تعيد الحياة "أونلاين" تشكيل ذواتنا، وكيف أننا، رغم تزايد اتصالاتنا، نشعر بغربة ووحدة متزايدة.
تختتم المقدمة بدعوة للتفكير في القيم الإنسانية التي قد نفقدها في خضم هذا الاندفاع التكنولوجي، مؤكدة أن الوقت قد حان لإجراء محادثات ضرورية حول كيفية تشكيل التكنولوجيا لمستقبلنا وعلاقاتنا، بدلاً من ترك المستقبل للمستقبليين فقط.
الجزء الأول: اللحظة الروبوتية في العزلة حميميات جديدة
يبدأ الجزء الأول من كتاب شيري توركل باستكشاف تحول عميق في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، وهو ما تطلق عليه "اللحظة الروبوتية" (The Robotic Moment) هذه اللحظة لا تتعلق بقدرات الروبوتات التقنية بقدر ما تتعلق باستعدادنا النفسي والعاطفي لتقبلها كرفقاء. تجادل توركل بأننا، في ظل شعورنا المتزايد بالوحدة والخوف من تعقيدات العلاقات البشرية، أصبحنا مستعدين للالتفات إلى الآلات التي تقدم وهم الرفقة دون مطالب الصداقة.
تطور الألعاب: من الذكاء إلى العاطفة
تتتبع توركل تاريخ تفاعل الأطفال مع الألعاب الإلكترونية لتوضيح كيف وصلنا إلى هنا. في السبعينيات والثمانينيات، مع ألعاب مثل "سيمون" و"سبيك أند سبيل"، كان الأطفال يتجادلون حول ما إذا كانت هذه الآلات "حية" بناءً على قدرتها على التفكير أو الغش في اللعبة. كان معيار الحياة هو "الإدراك" أو "الحركة الذاتية". ولكن في التسعينيات، مع ظهور "تاماغوتشي" (Tamagotchi) و"فيربي" (Furby)، تغيرت المعادلة. هذه الألعاب لم تكن تعرض الذكاء بقدر ما كانت تطلب "الرعاية".
أصبح الأطفال يرون هذه الأشياء على أنها "حية بما يكفي" (Alive Enough) لتكون رفقاء، لأنها كانت تحتاج إليهم، التاماغوتشي، على سبيل المثال، كان يموت إذا أُهمل، مما خلق شعوراً بالمسؤولية لدى الأطفال ودفعهم للارتباط العاطفي به. تشير توركل إلى أن "الرعاية" (Nurturance) هي التطبيق القاتل (Killer App) في عالم الروبوتات؛ فنحن نحب ما نعتني به. الأطفال لم يعودوا يهتمون بالبيولوجيا كمعيار للحياة، بل أصبحوا براغماتيين: إذا كان الشيء يتصرف وكأنه يحبني ويحتاجني، فهو "حي بما يكفي" لنشوء علاقة.
روبوتات في غرف اللعب: فيربي وAIBO
تستعرض توركل تجارب الأطفال مع "فيربي"، اللعبة التي تتحدث وتطلب الاهتمام. لاحظت أن الأطفال يتعاملون مع فيربي ككائن هجين: آلة ومخلوق في آن واحد. يدركون أنه يحتوي على بطاريات، لكنهم يشعرون بالذنب إذا أهملوه أو حملوه مقلوباً. هذا التناقض يظهر بوضوح في "اختبار المقلوب" (Upside-down test)، حيث يشعر الناس بالذنب عند حمل فيربي مقلوباً لفترة طويلة لأنه يشتكي ويبدو خائفاً، مما يثير استجابة أخلاقية تجاه كائن غير حي.
ثم تنتقل الكاتبة إلى "AIBO"، الكلب الروبوت من سوني. يرى الأطفال والبالغون في AIBO حيواناً أليفاً مثالياً: فهو لا يمرض، لا يموت، ولا يوسخ المكان. هنا تبرز فكرة خطيرة: التحول من اعتبار الروبوت "أفضل من لا شيء" (بديل عند عدم توفر حيوان حقيقي) إلى اعتباره "أفضل من أي شيء" (مفضل على الحيوان الحقيقي لأنه آمن ومسيطر عليه). يفضل بعض الأطفال AIBO لأنه يمكنهم "إيقافه" عندما يملون، مما يعلمهم نوعاً من الارتباط الخالي من المسؤولية.
تواطؤات: سد الفجوات
في الفصول التالية، تأخذنا توركل إلى مختبرات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) حيث يلتقي الأطفال بروبوتات أكثر تطوراً مثل "Cog" وKismet" " هذه الروبوتات مصممة للتواصل البصري وإظهار تعبيرات الوجه التي تحاكي العواطف البشرية.
تلاحظ توركل ظاهرة "التواطؤ" (Complicity)، حيث يقوم البشر بسد الثغرات في أداء الروبوت للحفاظ على وهم العلاقة. عندما يفشل الروبوت في الاستجابة، يبرر الأطفال ذلك بأنه "مريض" أو "خجول" أو "لا يسمع جيداً"، بدلاً من الاعتراف بأنه مجرد آلة معطلة. هذا الاستعداد لتفسير الأعطال التقنية على أنها حالات نفسية يعكس رغبتنا العميقة في التواصل. حتى عندما يتم "كشف السحر" وشرح آلية عمل الروبوت للأطفال، فإنهم يصرون على أن الروبوت "يحبهم" أو "يفضلهم"، مما يظهر قوة الرغبة في أن نكون محبوبين حتى من قبل الآلات.
روبوتات الرعاية: لكبار السن والأطفال
تنتقل توركل لمناقشة استخدام الروبوتات في رعاية كبار السن، مثل الروبوت "Paro" الذي يشبه صغير الفقمة. في دور المسنين، يظهر المسنون، مثل "ميريام"، وهم يفرغون عواطفهم للروبوت، معتقدين أنه يفهمهم. ترى توركل في هذا مشهداً مؤثراً ولكنه مقلق؛ فبينما تشعر ميريام بالراحة، إلا أن الروبوت لا يفهم شيئاً في الواقع. نحن نكتفي بـ "أداء" التعاطف (Performance of empathy) بدلاً من التعاطف الحقيقي.
تطرح الكاتبة تساؤلات أخلاقية عميقة حول فكرة "روبوتات الرعاية". عندما يتخيل الأطفال الروبوتات كجالسات أطفال أو رعاة لأجدادهم، فإنهم يطرحون سؤالاً جوهرياً: "أليس لدينا بشر لهذه الوظائف؟" ومع ذلك، يتقبل الكثيرون فكرة أن الروبوت قد يكون أكثر صبراً وموثوقية من البشر الذين غالباً ما يخذلونهم. يرى البعض أن الروبوتات توفر حلاً لمشاكل الوحدة ونقص الموظفين، لكن توركل تحذر من أننا بذلك نتنازل عن "جهد الحب" (Love's Labor) ونستبدل الرعاية البشرية المعقدة ببدائل ميكانيكية آمنة ولكنها خاوية.
التواصل الروحي والوجدان
في الفصل الأخير من الجزء الأول، تناقش توركل الرغبة في "التواصل الروحي" (Communion) مع الآلات. تروي قصة "ريتش"، الذي يغازل الروبوت "Kismet" ويشعر بوجود "شيء ما" بينهما، رغم علمه بأنه يتحدث مع آلة. وتستعرض تجارب فنانين وعلماء يحاولون الاندماج مع الروبوتات، ليس فقط كأدوات، بل ككيانات يشعرون تجاهها بالمودة والرغبة.
تخلص توركل في هذا الجزء إلى أننا نعيش في زمن "الروبوتات الاجتماعية" التي تعدنا بعلاقات خالية من المخاطر. نحن ننجذب إليها لأنها توفر لنا شعوراً بالسيطرة؛ فنحن من يحدد متى نتفاعل ومتى ننسحب. ولكن الثمن هو قبولنا بـ "وهم الرفقة" (Illusion of companionship) دون مطالب الصداقة الحقيقية. تحذر توركل من أننا عندما نعتاد على "العواطف المصطنعة" ونقبل "الأداء" كبديل عن "الواقع"، فإننا نخاطر بتقليل سقف توقعاتنا من العلاقات البشرية، ونبدأ في معاملة بعضنا البعض كأشياء، بينما نعامل الأشياء كبشر.
باختصار، الجزء الأول من الكتاب هو رحلة تستكشف كيف أننا، في سعينا للهروب من وحدة الحياة الحديثة وتعقيداتها، نقوم بصناعة رفقاء اصطناعيين. هؤلاء الرفقاء، بدءاً من الألعاب البسيطة وصولاً إلى الروبوتات المتطورة، لا يقدمون لنا حلاً حقيقياً للوحدة، بل يقدمون لنا نوعاً جديداً من العزلة، حيث نكون "وحدنا" حتى ونحن بصحبة هذه الآلات التي صممناها لتوهمنا بأننا "معاً".
الجزء الثاني: متصلون شبكياً في الحميمية، عزلات جديدة
في الجزء الثاني من الكتاب، تنتقل شيري توركل من الحديث عن علاقتنا بالروبوتات إلى علاقتنا بالشبكة العنكبوتية وأجهزة الاتصال المحمولة. تجادل توركل بأننا، في ظل سعينا الدائم للاتصال، خلقنا نوعاً جديداً من العزلة. نحن "متصلون دائماً" (Always On)، ولكننا غالباً ما نكون وحيدين نفسياً، حيث نستبدل المحادثات الحقيقية العميقة برسائل نصية قصيرة وتحديثات الحالة، ونفضل التحكم الذي تمنحه الشاشات على عفوية وتعقيد التواصل وجهاً لوجه.
الذات المقيدة والمتصلة دائماً (The Tethered Self)
تستهل توركل هذا الجزء بوصف الحالة الجديدة للذات، التي أصبحت "سايبورغ" (Cyborg) بحكم الواقع. نحن مقيدون بأجهزتنا المحمولة التي تحولت إلى امتداد لأجسادنا وعقولنا. هذا الاتصال الدائم يخلق حالة من "الحضور والغياب" المتزامنين؛ فنحن موجودون جسدياً في مكان ما، لكن عقولنا تتجول في أماكن أخرى عبر الشاشات. تشير توركل إلى أننا انتقلنا من "تعدد المهام" (Multitasking) إلى "تعدد الحيوات" (Multi-lifing)، حيث نمزج حياتنا الواقعية بحياتنا الافتراضية في "خليط حياة" (Life mix) واحد. هذا النمط الجديد يمنحنا شعوراً بالقوة والقدرة على التواجد في كل مكان، لكنه في المقابل يسلبنا القدرة على التركيز ويحرمنا من لحظات الهدوء والعزلة الضرورية للتفكير العميق.
النشأة مقيدين: المراهقة في العصر الرقمي
تركز توركل بشكل كبير على تأثير هذا الاتصال الدائم على المراهقين. تقليدياً، كانت المراهقة مرحلة للانفصال عن الأهل وتطوير هوية مستقلة. لكن اليوم، ينشأ المراهقون وهم "مقيدون" بآبائهم عبر الهواتف المحمولة. لم يعد هناك "وقت مستقطع" أو مساحة خالية من الرقابة الأبوية؛ فالمراهق لا يواجه العالم بمفرده، بل يواجه العالم وجهازه في يده، والوالد على بعد رسالة نصية.
تصف توركل ظهور ما تسميه "الذات التعاونية" (The Collaborative Self) لدى المراهقين. في السابق، كان الشخص يشعر بمشاعر معينة ثم يقرر مشاركتها. أما الآن، فإن المراهقين يحتاجون إلى مشاركة المشاعر *ليتمكنوا من الشعور بها*. تقول إحدى المراهقات: "أشعر بالمشاعر أثناء كتابة الرسالة النصية". هذا الاعتماد المفرط على التحقق الخارجي الفوري يعيق تطور القدرة على التنظيم الذاتي للمشاعر والتعامل مع الوحدة.
الهروب من الصوت: لا داعي للاتصال
تلاحظ توركل ظاهرة واسعة الانتشار بين المراهقين والبالغين على حد سواء: "الهروب من الصوت" أو تجنب المكالمات الهاتفية. أصبح يُنظر إلى المكالمة الهاتفية على أنها تطفل، وتتطلب وقتاً وجهداً عاطفياً لا يرغب الكثيرون في بذله. في المقابل، توفر الرسائل النصية والبريد الإلكتروني "التحكم"؛ يمكننا تحرير الرسالة، وتحديد وقت الرد، وإخفاء مشاعرنا الحقيقية.
نحن نفضل "رشفات" من التواصل عبر الرسائل بدلاً من "جرعة" كاملة من المحادثة الحقيقية. هذا التفضيل للتحكم والسرعة يأتي على حساب الفهم العميق والتعاطف الذي يوفره الصوت ولغة الجسد. تروي توركل قصصاً عن أشخاص ينهون علاقاتهم العاطفية أو يعتذرون عن أخطاء جسيمة عبر الرسائل النصية لأن ذلك "أسهل" وأقل إحراجاً، مما يؤدي إلى تآكل المهارات الاجتماعية والقدرة على مواجهة المواقف الصعبة.
الاختزال والخيانة في الهوية الرقمية
تناقش الكاتبة كيف تتيح لنا العوالم الافتراضية (مثل Second Life) ومواقع التواصل الاجتماعي (مثل Facebook) خلق هويات محسنة ومثالية. نحن نبني "أفاتار" (Avatar) أو ملفاً شخصياً يعكس من نريد أن نكون، لا من نحن حقاً. هذه الهويات المصقولة والمحررة بعناية تخلق ضغطاً هائلاً للأداء المستمر؛ فنحن مضطرون للحفاظ على صورة معينة وتسويق أنفسنا كسلعة.
تشير توركل إلى أن هذا يؤدي إلى "اختزال" (Reduction) الآخرين والذات. نحن نحول الأصدقاء إلى "معجبين" أو قائمة جهات اتصال، ونقيم علاقاتنا بناءً على عدد التعليقات والإعجابات. هذا الاختزال يخلق شعوراً بالخيانة عندما يفشل الواقع أو الأشخاص الحقيقيون في مطابقة المعايير المثالية التي اعتدنا عليها في العالم الافتراضي. في الألعاب والعوالم الافتراضية، يمكننا أن نكون أبطالاً أو عشاقاً مثاليين، مما يجعل الحياة الواقعية تبدو باهتة ومخيبة للآمال بالمقارنة.
اعترافات حقيقية: وهم المجتمع
تتطرق توركل إلى مواقع "الاعترافات" الإلكترونية (مثل PostSecret)، حيث يبوح الناس بأسرارهم لمجموعات من الغرباء. ورغم أن هذا قد يوفر شعوراً مؤقتاً بالراحة (التنفيس)، إلا أنه يفتقر إلى عناصر المجتمع الحقيقي: المسؤولية، والذاكرة المشتركة، والقدرة على تقديم الدعم الفعلي. نحن نعترف للشاشات بدلاً من الاعتذار للأشخاص الذين آذيناهم، ونبحث عن تعاطف مجهول بدلاً من بناء علاقات حميمة تتحمل أعباءنا. تحذر توركل من أننا قد نخلط بين "التنفيس" وبين "المعالجة" الحقيقية للمشاكل.
القلق والخصوصية
تعالج توركل موضوع القلق المتزايد المرتبط بالحياة الرقمية. هناك قلق "فوات الشيء" (FOMO)، وقلق عدم تلقي رد فوري، وقلق المراقبة المستمرة. يدرك الشباب أن حياتهم موثقة رقمياً وأن أخطاءهم لا تُمحى (الإنترنت لا ينسى)، مما يخلق حالة من الرقابة الذاتية الدائمة والخوف من الحكم. ومع ذلك، فإنهم يشعرون بالعجز عن الانسحاب، لأن الحياة الاجتماعية والمهنية باتت تعتمد كلياً على التواجد الشبكي. تشير توركل إلى أن الخصوصية ليست مجرد حق قانوني، بل هي ضرورة نفسية لتطوير الذات، وأن فقدانها يهدد قدرتنا على النمو والتجريب بعيداً عن أعين المتطفلين.
حنين الشباب
في الفصل الأخير من هذا الجزء، تفجر توركل مفاجأة: الشباب الذين نشأوا في قلب الثورة الرقمية يشعرون بالحنين إلى زمن لم يعيشوه. إنهم يتوقون إلى الاهتمام الكامل غير المشتت، وإلى الرسائل المكتوبة بخط اليد، وإلى اللحظات التي لا يتم فيها توثيق كل شيء بالكاميرا. يشتكي المراهقون من أن آباءهم منشغلون عنهم بهواتفهم، ويعبرون عن رغبتهم في "إيقاف التشغيل" والهروب من ضغط التواصل المستمر. هذا "الحنين" يظهر أن الحاجة الإنسانية للتواصل الحقيقي، واللمسة البشرية، والاهتمام الصادق لا تزال قوية، وأن التكنولوجيا، مهما تطورت، لا يمكنها أن تكون بديلاً كاملاً عن الحضور البشري.
يختتم الجزء الثاني بتأكيد توركل على أننا في "خضم عاصفة مثالية". نحن غارقون في الاتصالات ولكننا نفتقر إلى التواصل. لقد سمحنا للتكنولوجيا بأن تعيد تشكيل مفاهيمنا عن الحميمية والخصوصية والذات، وقبلنا بفتات التواصل كبديل عن الوجبة الكاملة. ومع ذلك، ترى توركل بصيص أمل في ردود فعل الشباب الذين بدأوا يدركون تكلفة هذه الحياة المقيدة، ويدعون إلى نوع جديد من التوازن يعيد الاعتبار للتواصل الإنساني المباشر ولحقنا في العزلة المفيدة.
الخاتمة: محادثات ضرورية
في خاتمة كتابها، تعود شيري توركل لتأمل التحول الجذري في علاقتنا بالتكنولوجيا. تستهل حديثها بذكر اجتماع عقد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) عام 1978، حيث كان التحدي حينها هو "كيف نبقي التكنولوجيا مشغولة؟" وكيف نجد استخدامات للحواسيب الشخصية الناشئة. لكن اليوم، انقلبت الآية تماماً؛ فبدلاً من أن نبحث عن مهام للحواسيب، أصبحت هي التي "تبقينا مشغولين". لقد أصبحنا نحن "التطبيق القاتل" (Killer App) للتكنولوجيا؛ فنحن لا نستخدم البريد الإلكتروني بقدر ما "يستخدمنا" هو.
مفارقات الحياة الرقمية
تستعرض توركل المفارقات التي نعيشها في ظل الحياة المتصلة. على الإنترنت، نجد "الرفقة" بسهولة ولكننا نُستنزف بضغوط "الأداء" المستمر. نحن نستمتع بالاتصال المستمر، لكننا نادراً ما نحظى بالانتباه الكامل من بعضنا البعض. لدينا جمهور فوري، لكننا نسطح ما نقوله لبعضنا البعض في أنواع جديدة ومختزلة من الاختصارات. نحب أن الشبكة "تعرفنا"، لكن هذا ممكن فقط لأننا نتنازل عن خصوصيتنا، تاركين "فتات خبز إلكتروني" يمكن استغلاله.
تشير الكاتبة إلى أننا نفتخر بعدد الأصدقاء على فيسبوك، لكن الدراسات تشير إلى أن عدد الأصدقاء الحقيقيين الذين يمكننا الاعتماد عليهم قد انخفض. الروابط التي نشكلها عبر الإنترنت ليست بالضرورة "الروابط التي توثق" (Ties that bind)، بل هي "الروابط التي تشغلنا" (Ties that preoccupy). نحن نرسل الرسائل النصية أثناء العشاء العائلي، وأثناء القيادة، وحتى أثناء دفع أطفالنا على الأرجوحة، متجنبين التطفل المباشر ولكننا نتطفل باستمرار بغير "الوقت الحقيقي". وعندما نجمع هذه السلوكيات، نصل إلى ما يسمى "الأسر ما بعد العائلية" (Postfamilial families)، حيث يكون الأعضاء "وحيدين معاً" (Alone Together)، كلٌ في غرفته وعلى جهازه.
اللحظة الروبوتية والهروب من البشر
تنتقل توركل لمناقشة "اللحظة الروبوتية"، حيث ننجذب للروبوتات الاجتماعية ليس لأنها ذكية حقاً، بل لأنها تخاطب نقاط ضعفنا العاطفية. يصر علماء الروبوتات على أننا سنحتاج إلى الروبوتات لرعاية كبار السن بسبب نقص مقدمي الرعاية من البشر، طارحين الخيار كمعضلة: "هل تفضل الروبوت أم لا شيء؟". ترفض توركل هذا التأطير، داعية إلى كسر هذا المنطق الثنائي والتفكير في خيارات اجتماعية وسياسية أخرى، مثل تحسين ظروف مقدمي الرعاية البشر أو استخدام التكنولوجيا كأدوات مساعدة (Prosthesis) لتعزيز قدرة البشر على الرعاية بدلاً من استبدالهم.
تروي توركل قصة زميل سابق لها، "ريتشارد"، الذي أصبح مقعداً ويحتاج لرعاية دائمة. يفضل ريتشارد التعامل مع ممرض بشري، حتى لو كان قاسياً، على التعامل مع روبوت، لأن التعامل مع البشر يحفظ له كرامته ويشعره بأنه جزء من القصة الإنسانية. هذا المنظور يذكرنا بأننا عندما نتحدث عن الروبوتات "التي تهتم"، فإننا نتحدث عن "أداء" الاهتمام وليس الشعور الحقيقي به. الروبوت لا يشعر بشيء، والسؤال هو: هل نهتم بذلك؟ أم أن أداء المشاعر أصبح يكفينا؟.
تعيد توركل النظر في "تأثير إليزا" (ELIZA effect)، مشيرة إلى أن ثقتنا في الآلات لا تنبع من ذكائها، بل من خيبة أملنا في البشر. عندما نلجأ للروبوتات أو المعالجين النفسيين الآليين، فإننا نفعل ذلك هرباً من تعقيدات العلاقات البشرية وخوفاً من الأحكام أو الخذلان. التكنولوجيا هنا تعمل كـ "عَرَض" (Symptom) و"حلم" (Dream)؛ عَرَض لأنها تحجب المشكلة الحقيقية (خوفنا من الحميمية)، وحلم لأنها تعبر عن رغبتنا في علاقات يمكننا السيطرة عليها.
تجارب محرمة وتراجع التعاطف
تثير توركل قلقاً عميقاً بشأن ما تسميه "التجارب المحرمة" (Forbidden Experiments)، مثل السماح للروبوتات برعاية الأطفال أو كبار السن. تتساءل: لماذا نحن متحمسون جداً لفكرة "الآلات التي تهتم"؟. تشير إلى أن تفويض مهام الرعاية، أو ما تسميه "جهد الحب" (Love's Labor)، يغيرنا نحن كمفوضين. عندما نتخلى عن عبء الرعاية، فإننا نتخلى عن جزء من إنسانيتنا وعن الميثاق الذي يربط البشر ببعضهم.
تحذر الكاتبة من المخاطر التنموية لترك الأطفال بصحبة "روبوتات مربية". البشر يتعلمون التعاطف والتواصل من خلال التفاعل مع وجوه وأصوات ولمسات بشرية تتسم بالسيولة والتغير، وهو ما تفتقده الروبوتات. وتستشهد بدراسة تشير إلى انخفاض ملحوظ في مستويات التعاطف لدى طلاب الجامعات منذ عام 2000، وتربط ذلك بانتشار الألعاب عبر الإنترنت والشبكات الاجتماعية، حيث يتعامل الشباب مع أجزاء من الأشخاص بدلاً من الشخصيات الكاملة، مما يؤدي إلى فقدان الاهتمام بالصداقة العميقة.
ما وراء الإدمان: نحو "تكنيك واقعي"
تنتقد توركل استخدام استعارة "الإدمان" لوصف علاقتنا بالتكنولوجيا، لأنها توحي بأن الحل الوحيد هو التخلي التام عن "المادة المسببة للإدمان"، وهو أمر غير واقعي مع الإنترنت. بدلاً من ذلك، تقترح نهجاً تسميه "التكنيك الواقعي" (Realtechnik)، الذي يدعو للتشكيك في السرديات التي تمجد التكنولوجيا بلا حدود أو تلك التي تشيطنها تماماً. يدعونا هذا النهج لتقييم التكنولوجيا بناءً على ما تخدمه من أهدافنا الإنسانية، والاعتراف بتكاليفها، واتخاذ قرارات واعية بشأن كيفية العيش معها.
تؤكد توركل أننا لا نزال في "الأيام الأولى" (Early Days) للعصر الرقمي، وأن هناك وقتاً لإجراء التصحيحات. وترى بوادر أمل في الشباب الذين بدأوا يتوقون للخصوصية والاهتمام الكامل والمحادثات الحقيقية وجهاً لوجه. هؤلاء الشباب، الذين نشأوا وهم يتنافسون مع هواتف آبائهم على الانتباه، يدركون قيمة التواصل غير المشتت.
دعوة للمحادثات الضرورية
في النهاية، تدعو توركل إلى بدء "محادثات ضرورية" حول ما يهمنا حقاً. تروي قصة حضورها لجنازة حيث كان الناس يرسلون الرسائل النصية خلسة، مشيرة إلى أننا فقدنا القدرة على التوقف والجلوس في سكون حتى في أكثر اللحظات قدسية. لكنها ترفض الاستسلام لليأس، معتبرة أننا وصلنا إلى نقطة تحول حيث يمكننا رؤية التكاليف والبدء في اتخاذ إجراءات.
تقترح خطوات بسيطة ومعقدة: استعادة أدب المحادثة، وضع الهواتف جانباً أثناء العشاء، المطالبة بالخصوصية، وإعادة اكتشاف فضائل العزلة (Solitude) التي تختلف عن الوحدة، والتي هي ضرورية لنمو الذات. تختتم الكتاب برسالة قوية: نحن نستحق أفضل مما تقدمه لنا التكنولوجيا الحالية من اختزال للعلاقات. عندما نتذكر أننا نحن من يقرر كيف نبقي التكنولوجيا مشغولة (وليس العكس)، فإننا سنحصل على حياة أفضل. نحن لسنا عالقين، ولدينا دائماً الخيار لنكون أقل ضعفاً وأكثر إنسانية
ملخص لأهم الأفكار التي طرحها الكتاب
* مفارقة العصر الرقمي: نعيش في عصر التناقض حيث تتيح لنا التكنولوجيا أن نكون "متصلين" أكثر من أي وقت مضى، لكننا في الوقت ذاته نشعر بعزلة ووحدة متزايدة. نحن "وحدنا معاً"؛ نجلس في نفس الغرفة ولكن كل منا غارق في عالمه الافتراضي الخاص.
* تغير التوقعات: المعادلة الأساسية التي تحكم علاقتنا الحالية بالتكنولوجيا هي أننا أصبحنا "نتوقع أكثر من التكنولوجيا وأقل من بعضنا البعض". نحن نبحث في الآلات عن الرفقة التي نخشى طلبها من البشر.
* وهم الرفقة والتحكم: سواء من خلال الروبوتات الاجتماعية أو التواصل عبر الشاشات، نحن ننجذب إلى "وهم الرفقة" دون مطالب الصداقة الحقيقية. توفر لنا التكنولوجيا علاقات يمكننا التحكم فيها، وتحريرها، وإيقافها متى شئنا، مما يجنبنا فوضى وتعقيدات العلاقات الإنسانية المباشرة.
* الهروب من الحميمية: نلجأ إلى التكنولوجيا (الرسائل النصية، البريد الإلكتروني) لنختبئ من بعضنا البعض. نحن نفضل التواصل المتقطع والمسيطر عليه "عن بعد" بدلاً من المواجهة المباشرة التي تتطلب تعاطفاً وحضوراً كاملاً ومجازفة عاطفية.
* تآكل العزلة (Solitude): لقد فقدنا القدرة على أن نكون وحيدين. العزلة الإيجابية ضرورية لبناء الذات والتفكير العميق، لكننا نستبدلها بالاتصال الدائم. هذا العجز عن الانفراد بالذات يجعلنا نعتمد على الآخرين (عبر الشبكة) فقط لنشعر بوجودنا، مما يحولهم إلى أدوات لتدعيم ذواتنا الهشة.
* الأداء بدلاً من الواقع: سواء كنا نبني "أفاتار" في لعبة أو نكتب ملفاً شخصياً على فيسبوك، نحن منشغلون بـ "أداء" ذواتنا وتقديم نسخ محسنة عنها، مما يخلق فجوة بين هويتنا الحقيقية وصورتنا الرقمية، ويولد قلقاً دائماً حول كيفية رؤية الآخرين لنا.
* اختزال الإنسانية: في سعينا للراحة، نقبل بـ "اختزال" التجربة الإنسانية. نرضى بـ "أداء" المشاعر من الروبوتات بدلاً من المشاعر الحقيقية، ونكتفي بالرموز التعبيرية بدلاً من نبرة الصوت، ونقبل بالتواصل السطحي كبديل عن الفهم العميق.
* الخصوصية والذاكرة: لقد خلقنا عالماً "لا ينسى"، حيث يتم توثيق كل خطوة ورسالة، مما يهدد حقنا في الخصوصية ويجعلنا نعيش تحت رقابة ذاتية دائمة، خوفاً من أحكام المستقبل على ماضينا الرقمي.
* الحاجة إلى "محادثات ضرورية": الحل ليس في التخلي عن التكنولوجيا، بل في إعادة وضعها في مكانها الصحيح. نحن بحاجة إلى بدء محادثات جادة حول القيم التي نريد الحفاظ عليها، واستعادة تقديرنا للتواصل المباشر، والانتباه الكامل، والخصوصية، وحقنا في العزلة.