الشر السائل والقبول بالعيش مع اللابديل

شبكة النبأ

2025-09-24 07:29

يشكل مفهوم "الشر السائل" محوراً أساسياً في فكر العالم الاجتماعي البولندي زيجمونت باومان، خاصة في حواراته مع الفيلسوف الليتواني ليونيداس دونسكيس. يصوغ باومان هذا المفهوم لوصف تحوّل الشر من كيانات صلبة قابلة للتحديد – كالأنظمة الشمولية والأيديولوجيات المتطرفة – إلى قوة سائلة منتشرة، متخفية، وغير قابلة للاحتواء. في كتابهما المشترك "الشر السائل: العيش مع اللابديل"، يناقش باومان ودونسكيس كيف أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية في عصر الحداثة السائلة أدت إلى تفكك البنى التقليدية للخير والشر، مما جعل الشر يتسلل إلى الحياة اليومية بشكل طبيعي وغير ملحوظ. يهدف هذه القراءة إلى تحليل أبعاد هذا التحول، واستكشاف آليات عمل الشر السائل في المجتمعات المعاصرة، وتسليط الضوء على الدور الذي تلعبه الرأسمالية المتوحشة والتقنيات الحديثة في تعزيز هذه الظاهرة. كما تتناول المقالة إمكانية مواجهة هذا الشر من خلال إحياء الأخلاق والتضامن الإنساني.

يُعَدّ زيغمونت باومان (1925-2017) من أبرز علماء الاجتماع الذين تركوا بصمة قوية على الفكر المعاصر. وقد اشتهر بمفاهيمه المرتبطة بالحداثة السائلة، حيث صاغ نظرية توضّح أنّ عالم اليوم لم يعد ثابتًا وصلبًا كما كان في القرون السابقة، بل أصبح يتسم بالمرونة المفرطة، والهشاشة، والتحوّل المستمر. فالوظائف لم تعد مضمونة، والعلاقات الاجتماعية لم تعد مستقرة، والهوية نفسها أصبحت عرضة للتغيّر المستمر.

في كتابه «الشرّ السائل: العيش مع اللابديل»، يذهب باومان إلى منطقة أكثر قتامة، فيبحث عن ملامح الشرّ في عصر السيولة. لم يعد الشرّ في نظره يرتبط بأنظمة استبدادية واضحة، كما كان الحال مع الفاشية أو الشيوعية الشمولية، بل صار أكثر غموضًا وتغلغلًا في تفاصيل الحياة اليومية. وهنا يقدّم مفهومه المركزي: «الشرّ السائل»، أي الشرّ الذي لا يتخذ شكلاً ثابتًا أو مؤسسيًا صلبًا، بل يتوزّع ويتسرب في كل مكان، بحيث يغدو جزءًا من البيئة الاجتماعية والسياسية التي يعيش فيها الإنسان.

يربط باومان هذا الشرّ بمفهوم آخر لا يقل أهمية: «اللابديل»، أي انغلاق الأفق أمام الناس بحيث يُقال لهم إن النظام القائم (النيوليبرالي، العولمي، الرأسمالي المتأخر) هو النظام الوحيد الممكن، ولا يوجد بديل عنه. هذا الشعور بانعدام البدائل يجعل الشرّ أكثر خطورة، لأنه يفقد الناس القدرة على مقاومته أو حتى تخيّل عالم مختلف عنه.

بهذا، يقدّم الكتاب قراءة نقدية معمقة لعصرنا الراهن، حيث تتشابك السياسة، والاقتصاد، والأخلاق، والإعلام، والخوف، لتصنع عالمًا يعيش فيه الإنسان تحت وطأة الشرّ السائل واللابديل.

مفهوم الشرّ السائل

يبدأ باومان بمقارنة بين نوعين من الشرّ:

الشرّ الصلب: ارتبط بالماضي القريب، خاصة في القرن العشرين، حين كانت الأنظمة الشمولية تمارس العنف بشكل مباشر ومرئي. الشرّ هنا كان يأخذ شكل جيوش، معسكرات اعتقال، إبادة جماعية، حروب شاملة. كان من الممكن تحديد المسؤول عنه بدقة: دولة، زعيم، حزب.

في العصور السابقة، كان الشر يُصوَّر كقوة صلبة ومركزة، يمكن تحديد مصادره والتعامل معها. كان يتجسد في أنظمة شمولية، أو قوى استعمارية، أو أيديولوجيات متطرفة تمارس القمع بشكل مباشر. هذا الشر "الصلب" كان مرئياً، مُعلناً عن نفسه، وقابلاً للمواجهة. لكن باومان يشير إلى أن التحول إلى الحداثة السائلة – أي المرحلة التي حلّت فيها المرونة والتدفق محل الصلابة والاستقرار – أدى إلى تحوّل جذري في طبيعة الشر. فبدلاً من أن يكون كتلة متماسكة، أصبح الشر "سائلاً" يتسرب إلى المساحات اليومية، ويتكيف مع الظروف، ويتخفى behind أقنعة البراءة أو التقدم.

الشرّ السائل: في عالم اليوم، لم يعد الشرّ محصورًا في مؤسسات سلطوية صلبة، بل أصبح مبعثرًا وهلاميًا. يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية: البطالة، التهميش الاجتماعي، العنصرية، غياب التضامن، الخوف المستمر. الشرّ هنا لا يملك وجهًا واحدًا ولا مركزًا محددًا، بل يتوزّع على مؤسسات وخطابات وآليات متعددة.

يتميز الشر السائل بعدم قدرته على الاحتفاظ بشكل ثابت، مما يجعله صعب التحديد والمقاومة. فهو لا يظهر كعدو واضح، بل كجزء من النظام الاجتماعي نفسه. على سبيل المثال، لم يعد العنف مقتصراً على الحروب التقليدية، بل أصبح متجلياً في أشكال جديدة مثل الإرهاب العشوائي، والعنف الرمزي عبر وسائل الإعلام، والاستغلال الاقتصادي المنظم. كما أن العولمة والتقنيات الرقمية ساهمت في تسريع انتشار الشر السائل، حيث حوّلته من ظاهرة محلية إلى قوة عابرة للحدود، تنتقل بسلاسة عبر الشبكات العالمية.

الحداثة السائلة، كما يصفها باومان، هي مرحلة تلي الحداثة الصلبة، وتتميز بانهيار المؤسسات التقليدية مثل الأسرة والدولة والديانة، واستبدالها بقيم فردية واستهلاكية. في هذا السياق، يصبح الشر جزءاً من النسيج اليومي للحياة، حيث يذوب الفارق بين الخير والشر في بحر من النسبية واللااكتمال. فالفرد في المجتمع السائل لا يواجه شراً واضحاً، بل يواجه شكلاً متخفياً من العنف الرمزي، مثل الضغط المستمر لتحقيق النجاح المادي، أو الخضوع لآليات المراقبة الناعمة عبر الإنترنت.

تلعب الرأسمالية المتأخرة دوراً محورياً في تعزيز هذا الشر السائل. فمن خلال تحويل كل شيء إلى سلعة قابلة للاستهلاك، بما في ذلك العلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية، تُفرغ الرأسمالية الحياة من معانيها وتجعل الشر يبدو كأمر طبيعي. كما أن الدولة، التي كانت في السابق حامية للمواطن، تخلت عن كثير من مسؤولياتها لصالح السوق، مما أدى إلى تفكك التضامن الاجتماعي وانتشار الشعور بالعزلة والقلق. هذه العزلة تجعل الأفراد أكثر عرضة لتأثيرات الشر السائل، حيث يفقدون القدرة على التمييز بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي.

ملامح الشرّ السائل

الشرّ السائل ليس عنفًا دمويًا مباشرًا في الغالب، بل هو عنف غير مرئي.

يظهر في شكل سياسات اقتصادية تحرم ملايين الناس من العمل، أو في بيروقراطيات تعرقل حياة المواطنين، أو في خطاب إعلامي يغرس الكراهية والخوف من الآخر.

خطورته تكمن في أنه يصعب رصده ومواجهته، لأنه لا يرتبط بمجرم واضح أو سلطة واحدة يمكن محاسبتها.

يرى باومان أن الشرّ لم يعد استثناءً أو حادثًا عابرًا، بل أصبح جزءًا من الحياة اليومية. فحين يشعر الفرد بأن مستقبله هش، وأنه معرض في أي لحظة لفقدان عمله أو مكانته، أو حين يُقصى الآخرون من حقوقهم بوسائل "قانونية"، فإن ذلك يمثل تجليات الشرّ السائل.

في القرن العشرين، كانت أفعال الشرّ تُصوَّر كجرائم كبرى أو مآسٍ استثنائية. أما اليوم، فالشرّ يُمارس بشكل "عادي"، متكرر، حتى يكاد يمرّ دون ملاحظة. هنا يستعير باومان – بشكل غير مباشر – أطروحة حنّة أرندت عن "تفاهة الشر"، لكن مع تطويرها لتناسب عصر السيولة: الشرّ ليس فقط تافهًا، بل سائلًا، أي منتشرًا في كل مكان.

العيش مع اللابديل

يعتمد الشر السائل على آليات غير مباشرة لتحقيق هيمنته، أبرزها الإغراء بدلاً من الإكراه. ففي الماضي، كانت الأنظمة الشمولية تستخدم القوة المباشرة لإخضاع الأفراد، أما اليوم فإن الآليات أصبحت أكثر دهاءً. على سبيل المثال، تستخدم وسائل الإعلام والتقنيات الرقمية لتوجيه الرأي العام وخلق احتياجات وهمية. كما أن ثقافة الاستهلاك تُغري الأفراد بالحصول على السعادة عبر الشراء، مما يحوّلهم إلى كائنات سلبية وغير ناقدة.

أداة أخرى مهمة هي صناعة الخوف. فبواسطة إثارة الذعر من المخاطر الغامضة – كالإرهاب أو الأوبئة أو الانهيار الاقتصادي – تُجبر الحكومات والمؤسسات الأفراد على التخلي عن حرياتهم مقابل الوهم بالأمان. هذا الخوف يُضعف القدرة على المقاومة ويجعل الناس يقبلون بأشكال جديدة من السيطرة، مثل المراقبة الجماعية أو القيود على الحريات الشخصية.

كما يشير باومان إلى مفهوم "اللاابديل" TINA (There Is No Alternative) الذي روّجت له رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر. هذا المفهوم يُستخدم لإقناع الناس بأن النظام القائم – الرأسمالية الليبرالية – هو الخيار الوحيد الممكن، مما يقتل أي أمل في التغيير ويجعل الشر السائل يبدو كقدر محتوم. في هذا السياق، يصبح من الصعب تخيل بدائل سياسية أو اقتصادية، ويتم خصخصة الأمل نفسه، حيث يتحول إلى مجرد حلم فردي بالنجاح المادي.

مفهوم "اللابديل"

يتوقف باومان عند عبارة أصبحت شعارًا للنيوليبرالية: «لا بديل» (There is no alternative)، التي اشتهرت على لسان مارغريت تاتشر في ثمانينيات القرن العشرين. المقصود بهذه العبارة أن النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم على اقتصاد السوق الحر والعولمة والخصخصة ليس له منافس، ولا يمكن استبداله بنظام آخر.

هذا التصور لم يعد مجرد شعار سياسي، بل تحول إلى عقيدة اجتماعية تتغلغل في وعي الناس. فكل محاولة لتخيّل عالم مختلف، قائم على العدالة الاجتماعية أو التضامن أو إعادة توزيع الثروة، تُقابَل بالرفض باعتبارها "غير واقعية" أو "مستحيلة".

أثر اللابديل على الوعي الجمعي

يرى باومان أن العيش في عالم بلا بدائل يولّد لدى الأفراد إحساسًا بالعجز واللاجدوى.

يشعر المواطن أن لا جدوى من النضال أو الاحتجاج، لأن النظام الاقتصادي والسياسي أقوى من أي محاولة للتغيير.

يتحول الناس إلى مستهلكين مطيعين بدلًا من أن يكونوا فاعلين سياسيين.

يترسخ لديهم شعور بأن الفقر، والتفاوت الاجتماعي، والبطالة، والتهديدات البيئية، كلها قَدَر لا مفر منه.

بهذا، يصبح الشرّ السائل أكثر خطورة: فهو لا يُمارَس بالقوة المباشرة فحسب، بل بخلق حالة نفسية عامة من الاستسلام واليأس.

السياسة في زمن اللابديل

يحلّل باومان أثر "اللابديل" على السياسة المعاصرة، فيرى أنّها تحوّلت إلى إدارة تقنية للأزمات، لا مشروعًا للتغيير أو التحرّر.

تختفي الأحزاب ذات المشاريع الكبرى، ويحل محلها ساسة يقدّمون أنفسهم كـ "مديرين محترفين".

الهدف ليس بناء مجتمع جديد، بل المحافظة على الوضع القائم.

يُختزل دور الدولة في تسيير الاقتصاد وتوفير الأمن، لا في إعادة توزيع الثروة أو تعزيز العدالة.

في عالم "اللابديل"، يبدو المستقبل مغلقًا أمام الخيال. لم يعد الناس قادرين على رسم utopia (مدينة فاضلة) أو حتى التفكير في بدائل واقعية. يقول باومان: "إن أخطر ما في اللابديل أنه يقتل الخيال قبل أن يقتل القدرة على الفعل".

تجليات الشر السائل في الواقع المعاصر

يتجلى الشر السائل في العديد من الظواهر المعاصرة، منها تحويل الحرب إلى سلام والسلام إلى حرب، كما تنبأ جورج أورويل في روايته "1984". فالحروب اليوم لا تُعلن بشكل رسمي، بل تُمارس عبر عمليات عسكرية غير تقليدية، مثل الضربات الجوية بالطائرات بدون طيار، أو الحروب الإلكترونية. هذه الحروب لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تسبب دماراً هائلاً وتُبقي الشعوب في حالة خوف دائم.

وحتى في مواجهة قضايا مثل تغير المناخ أو الهجرة، يتكرر نفس المنطق: "لا يوجد بديل"، مما يعمّق الإحساس بالحصار.

كذلك، يُستخدم العنف باسم التقدم أو الأمن. فتحت شعار مكافحة الإرهاب، تُنتهك حقوق الإنسان، وتُقام أنظمة مراقبة شاملة، وتُبرر التعذيب والاعتقال التعسفي. حتى الكوارث الإنسانية، مثل اللجوء والفقر، يتم تقديمها كأحداث عابرة أو كنتاج حتمي لظروف عالمية، مما يُفقدها بُعدها الأخلاقي ويجعل الاستجابة لها سطحية وغير فعالة.

وأي محاولة لإصلاح جذري للرعاية الاجتماعية أو النظام الصحي يُنظر إليها على أنها غير عملية أو خطيرة.

وفي المجال الاقتصادي، يظهر الشر السائل عبر خصخصة الخدمات العامة، وتقليص دور الدولة في الرعاية الاجتماعية، وترك الأفراد يواجهون مصيرهم بمفردهم. هذا النمط من الاقتصاد يزيد من الفقر واللامساواة، لكنه يُصوَّر كضرورة حتمية لتحقيق النمو. النتيجة هي مجتمعات مفتتة، يفقد فيها الأفراد الثقة بالمؤسسات وببعضهم البعض.

وحين تضرب الأزمات المالية، يُقال للناس إن إنقاذ البنوك الكبرى ضروري لأنه "لا يوجد بديل"، بينما يُترَكون هم لمصيرهم.

يخلص باومان إلى أن "اللابديل" هو التربة الخصبة التي ينمو فيها الشر السائل.

لأنه يحرم الناس من القدرة على تخيّل مقاومة حقيقية.

ولأنه يشرعن الظلم باعتباره حتميًا.

ولأنه يحوّل السياسة إلى إدارة شكلية، بدل أن تكون ساحة لتحرير الإنسان.

الفرد والمجتمع في زمن السيولة

يرى باومان أن من أبرز سمات العصر السائل ما يُسمّيه بـ الفردنة (Individualization). ففي السابق، كان الفرد جزءًا من شبكة متماسكة من الجماعات: العائلة الممتدة، القرية، النقابة، الحزب، الجماعة الدينية. هذه الروابط وفّرت له إحساسًا بالانتماء، وأمّنت له الحماية في مواجهة المخاطر.

أما اليوم، فقد تآكلت تلك الشبكات، وصار الفرد يُعامَل كأنه مسؤول وحده عن مصيره. إذا فشل في دراسته، أو خسر عمله، أو وقع في الفقر، فإن اللوم يقع عليه شخصيًا، لا على البنية الاجتماعية أو النظام الاقتصادي.

هذه الفردنة تجعل الأفراد أكثر هشاشة:

العامل يشعر أنه مهدَّد بالطرد في أي لحظة.

الشاب يشعر أن تكوين أسرة أو الحصول على مسكن أصبح عبئًا فرديًا ضخمًا.

الإنسان العادي يخاف أن يُترك وحيدًا في مواجهة المرض أو الشيخوخة أو البطالة.

إنها هشاشة بنيوية تولّد شعورًا دائمًا بالقلق، ما يشكل أحد مظاهر الشر السائل.

مع الفردنة، تضعف الروابط الاجتماعية التقليدية:

العائلة الممتدة لم تعد قادرة على احتضان أفرادها كما في الماضي.

النقابات فقدت قوتها بعد خصخصة العمل وتفكيك المصانع.

الأحزاب تحولت إلى كيانات تقنية بلا أيديولوجيا كبرى.

بهذا يفقد الفرد الإحساس بوجود شبكات دعم حقيقية، ويغدو معزولًا أمام التحديات.

الخوف كحالة دائمة

الخوف هو الوجه الآخر للفردنة. فالإنسان الذي يُترك وحده في مواجهة مصيره يعيش في قلق دائم:

الخوف الاقتصادي: من البطالة، من فقدان الدخل، من الديون.

الخوف الاجتماعي: من التهميش، من فقدان المكانة، من العزلة.

الخوف الثقافي: من المهاجرين، من المختلفين، من التغيّر السريع في أنماط الحياة.

يرى باومان أن هذه المخاوف لا تنفصل عن بعضها، بل تتراكم لتخلق مناخًا عامًا من القلق الوجودي، وهو البيئة المثالية التي يزدهر فيها الشرّ السائل.

من التضامن إلى التنافس

أحد مظاهر هذا التحوّل هو الانتقال من التضامن الجماعي إلى التنافس الفردي. في الماضي، كان العمال يتكاتفون للمطالبة بحقوقهم، أما اليوم فكل فرد يُطلَب منه أن "يسوّق نفسه" في سوق العمل. هكذا يتحوّل البشر إلى متنافسين لا متضامنين، مما يعمّق عزلتهم ويجعلهم أقل قدرة على مواجهة الشرّ.

يلخّص باومان الأمر بالقول: "كما أن السوائل لا تحافظ على شكلها إلا بقدر ما يُفرَض عليها من الخارج، فإن المجتمع السائل يفقد أشكاله المتماسكة باستمرار، تاركًا الأفراد في حالة سيولة دائمة".

العنف والشر في عالم ما بعد الحداثة

يفرّق باومان بين طبيعة العنف في القرن العشرين وبين ما آل إليه في عصر السيولة:

في الماضي: كان العنف متمركزًا وواضحًا، تمارسه دول قومية أو أنظمة شمولية عبر الجيوش، الشرطة، السجون، معسكرات الاعتقال. كان من الممكن تحديد الجهة المسؤولة، وكان العنف يُمارَس بشكل مباشر ودموي.

اليوم: العنف أصبح مبعثرًا ولا مركزيًا. لم يعد يُمارَس فقط عبر الرصاص أو السجون، بل عبر آليات السوق، البيروقراطيات، السياسات الاقتصادية، والخطابات الإعلامية.

أشكال العنف الجديدة

عنف السوق: ملايين البشر يُستبعَدون من سوق العمل بسبب سياسات الخصخصة والأتمتة، فيجدون أنفسهم بلا دخل أو استقرار.

عنف البيروقراطيات: القوانين المعقدة والإجراءات الإدارية تحرم الناس من حقوقهم، وتجعل حياتهم سلسلة من العوائق.

عنف الإعلام: إذ يزرع الخوف من "الآخرين" – المهاجرين، الغرباء، المختلفين – مما يخلق مجتمعات منقسمة ومتوترة.

الاستبعاد والإقصاء

يشدد باومان على أن الشرّ السائل لا يظهر فقط في القتل أو القمع، بل في الإقصاء الصامت:

ملايين البشر يعيشون خارج دائرة المشاركة، مثل اللاجئين وسكان المخيمات والمحرومين من الحقوق.

هؤلاء الأشخاص يُترَكون على هامش المجتمع، لا كأعداء مباشرين، بل كـ"زائدين عن الحاجة".

إنه نوع من العنف غير المباشر، لكنه أشد قسوة لأنه يحرم الناس من الاعتراف بإنسانيتهم.

العنف الرمزي

إلى جانب العنف المادي، هناك العنف الرمزي:

الصور النمطية التي تُلصَق بالأقليات.

الخطابات الإعلامية التي تصف المهاجرين بالتهديد أو الجريمة.

سياسات الهوية التي تزرع الانقسام بين الناس.

العنف الرمزي لا يسفك الدماء، لكنه يُضعف الروابط الاجتماعية ويمنع التضامن، مما يرسّخ الشر السائل.

من سمات العنف في العصر السائل أنه يولّد حالة مستمرة من اللايقين.

المواطن العادي لا يعرف من أين يأتي التهديد: من الإرهاب؟ من اللاجئين؟ من البطالة؟

هذه الضبابية تزرع الذعر، وتجعل الناس يقبلون بأي سياسات أمنية أو اقتصادية تُفرض عليهم، بحجة الحماية.

من السلطة الصلبة إلى السيطرة السائلة

يرى باومان أن الفرق الجوهري هو أن السلطة في الماضي اعتمدت على العنف الصلب (القمع المباشر)، أما اليوم فهي تمارس سيطرة سائلة:

لا تُحاصرك بجدار، بل تتركك حبيس القلق والخوف.

لا تُجبرك على الطاعة، بل تجعلك تتصرف كما لو أن لا خيار لديك.

هذا التحول يجعل الشر السائل أكثر فاعلية، لأنه يتغلغل في النفوس بدل أن يُفرض من الخارج فقط.

الأخلاق في مواجهة الشرّ السائل

يرى باومان أن أحد أخطر آثار الشرّ السائل يتمثل في تآكل المرجعيات الأخلاقية.

في الماضي، كان هناك إجماع نسبي على قيم محددة: التضامن، العدالة، المسؤولية المشتركة.

أما في العصر السائل، فالقيم أصبحت نسبية وهشّة، تخضع لمنطق السوق والإعلام.

الأخلاق لم تعد قاعدة عامة، بل مجرد اختيارات فردية مرتبطة بالمنفعة والمصلحة.

ينتج عن هذا التراجع حالة من اللايقين الأخلاقي:

لم يعد الإنسان يعرف على أي قيم يستند في أفعاله.

أحيانًا يبرَّر العنف باسم "الأمن"، أو يُشرعن الظلم باسم "القانون"، أو يُختزل الخير في الاستهلاك والمتعة الفردية.

هذا الغموض يفتح المجال أمام الشرّ، لأنه يجد بيئة غير محصّنة بالقيم الثابتة.

الأخلاق في عصر الاستهلاك

في ظل هيمنة ثقافة الاستهلاك، يُعاد تعريف الأخلاق بما يتناسب مع السوق:

النجاح الأخلاقي يُقاس بالقدرة على المنافسة والشراء.

الإخفاق الأخلاقي يُفسَّر كفشل شخصي في إدارة الذات.

الإنسان يُختزَل إلى "مستهلك ناجح أو فاشل"، بدل أن يكون كائنًا أخلاقيًا مسؤولًا عن الآخرين.

يشدد باومان على أن الأخلاق الحقيقية تنبع من العلاقة بالآخر، من إدراك أن للإنسان مسؤولية تجاه غيره. لكن في المجتمع السائل:

تتفكك الروابط التضامنية.

تُحمَّل المسؤولية على الأفراد وحدهم.

يختفي الإحساس بالمسؤولية المشتركة، وهو ما يسهّل استمرار الشرّ.

هل هناك مخرج؟ إمكانيات المواجهة والأمل

رغم قتامة الصورة التي يرسمها باومان، إلا أنه لا يعتبر الشر السائل قدراً محتوماً. فالحلول قد تأتي من إعادة بناء التضامن الإنساني وإحياء الدور النقدي للأخلاق. يشدد باومان على أهمية مقاومة ثقافة اللاابديل، ودعوة الناس إلى التفكير في بدائل حقيقية للنظام القائم. هذا يتطلب إحياء المجال العام كمكان للنقاش والحوار، وتعزيز القيم المشتركة التي تتجاوز الفردانية والاستهلاك.

كما يرى باومان أن الفن والأدب والفلسفة يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في كشف آليات الشر السائل وإثارة الأسئلة المزعجة. فمن خلال الأعمال الإبداعية، يمكن إعادة تخيل العالم بطريقة مختلفة، وتذكير الناس بإنسانيتهم المشتركة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للحركات الاجتماعية الجديدة أن تشكل قوة مضادة للشر السائل، من خلال الدفاع عن العدالة والكرامة الإنسانية.

وذلك عبر:

حتى في عالم اللابديل، يمكن للأفراد والجماعات أن يحيوا قيم التضامن.

المقاومة تبدأ من الوعي النقدي: أي إدراك أن الواقع ليس قدرًا، بل نتيجة لخيارات بشرية قابلة للتغيير.

الأخلاق، برأي باومان، ليست تعليمات جامدة، بل استجابة إنسانية للآخر، وهذه الاستجابة يمكن إحياؤها مهما كان الواقع قاتمًا.

أن مواجهة الشرّ السائل ليست ممكنة عبر القوانين أو السياسات وحدها، بل تحتاج إلى إحياء الأخلاق الإنسانية:

أن يرى الإنسان في الآخر إنسانًا، لا منافسًا أو تهديدًا.

أن يتجاوز الفردنة ويستعيد روح التضامن.

أن يتحمّل المجتمع مسؤولية مشتركة في مواجهة الظلم، بدل ترك الأفراد وحدهم في الميدان.

الخاتمة

يقدّم زيغمونت باومان في كتابه «الشرّ السائل: العيش مع اللابديل» تشخيصًا عميقًا للعصر الذي نعيشه. فالعالم المعاصر، برأيه، لم يعد يواجه الشرّ في صورته الصلبة كما كان في الماضي، بل في صورة أكثر غموضًا وانتشارًا: الشرّ السائل. هذا الشرّ لا يتمركز في نظام ديكتاتوري أو في حرب كبرى فقط، بل يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية عبر سياسات اقتصادية قاسية، آليات بيروقراطية معقدة، إعلام مهووس بالخوف، وثقافة استهلاكية تفرغ الإنسان من معناه.

يُضاف إلى ذلك منطق «اللابديل» الذي يخنق الخيال الإنساني، فيُقنع الناس بأن النظام القائم هو الخيار الوحيد الممكن، وأن أي بديل آخر غير واقعي أو خطير. بهذا يُشرعن الظلم باعتباره قدرًا لا مفر منه، ويستسلم الأفراد للعجز واللاجدوى.

يُظهر باومان كيف أنّ الفرد في هذا العالم السائل أصبح هشًا ومعزولًا: تُحمَّل عليه المسؤولية كاملة عن مصيره، بينما تتفكك شبكات التضامن التي كانت تمنحه الأمان. الخوف يصبح الحالة الدائمة التي يعيشها الإنسان، والخيار السياسي ينحصر في القبول بالوضع القائم. أما الإعلام وثقافة الاستهلاك فيزيدان من ترسيخ هذا الواقع، عبر نشر التفاهة، وتكريس الهوية الاستهلاكية، وإلهاء الناس عن التفكير النقدي.

مع ذلك، لا ينتهي الكتاب بتشاؤم مطلق. فباومان، على الرغم من نبرته القاتمة، يترك مجالًا للأمل. إذ يرى أن المقاومة ممكنة، إذا ما وعى الناس أن الواقع ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة لاختيارات بشرية قابلة للتغيير. الأخلاق، التي تنبع من العلاقة بالآخر والشعور بالمسؤولية تجاهه، يمكن أن تكون نقطة البداية. التضامن، والوعي النقدي، والشجاعة في مواجهة الخطابات السائدة، كلها عناصر تفتح نوافذ أمل في عالم اللابديل.

إنّ قوة الكتاب تكمن في أنه لا يكتفي بتوصيف الأوضاع، بل يكشف آليات اشتغال الشرّ في زمن السيولة، ويوضح كيف يتجلى في الخوف، والإقصاء، واللامسؤولية المؤسسية، وتآكل الأخلاق. وهو بهذا يقدّم دعوة ملحّة للتفكير في كيفية إعادة بناء الأفق الأخلاقي والسياسي، وإحياء بدائل حقيقية في مواجهة عالم يريد إقناعنا أن البدائل قد انعدمت.

باختصار، يمكن القول إن كتاب «الشرّ السائل» هو مرآة قاتمة لزمننا، لكنه أيضًا جرس إنذار: إذا لم نواجه الشرّ السائل بالوعي والتضامن، فسوف يزداد تغلغلاً في حياتنا، حتى يغدو أمرًا طبيعيًا لا يُرى. أما إذا استعدنا الخيال الأخلاقي والسياسي، فقد نتمكن من كسر وهم "اللابديل" وفتح الطريق نحو مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية.

الكتاب: الشرّ السائل.. العيش مع اللابديل
الكاتب: زيجمونت باومان و ليونيداس دونسكيس
ترجمة: حجاج أبو جبر-تقديم: هبة رؤوف عزت. 
اصدار: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
عدد الصفحات: 207 صفحة.

ذات صلة

معالم الهداية في زمن التيهثقافة التواصل بين نزعة الجدال وفن الاستماعمبادرة المطوّر العقاري: رسالة انتخابية لا تُصاحبها ضمانات تنفيذية‏هل ننتظر القائد المنقذ أم نبني الدولة بأيدينا؟اثبات الوصية التمليكية بين قانون الاثبات والمدونة الشرعية