الدليل الى فتح مغاليق الفهم المعرفي
د. نضير الخزرجي
2025-07-21 04:59
كنت قد عقدت النية على زيارة مدينة سامراء شمال العاصمة العراقية بغداد صباح الأربعاء 4 حزيران يونيو 2025م بصحبة أم العيال، وقد قطعت لذلك بطاقة السفر عبر حافلات نقل العتبة الحسينية المقدسة في كربلاء المقدسة، لكن حالة وفاة وقعت قبل يوم من تاريخ الرحلة الدينية لزيارة مرقد الإمامين الهمامين علي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري عليهما السلام، حالت دون الذهاب، فقد نُعي إلينا وفاة المأسوف على شبابه الغض علي زهير الحسناوي في حادث سير مروع داخل الحدود العراقية في طريق العودة من رحلة إلى إيران، وهو حفيد شقيقة زوجتي، مما تطلب الأمر تأجيل الرحلة الولائية لمشاركة الأسرة المفجوعة العزاء والمواساة كأقل الواجب الإجتماعي.
ولأن زيارة أئمة أهل البيت عليهم السلام من أجلى مظاهر دعوة رسول الإنسانية محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله وسلَّم لمن آمن برسالته الخالدة: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) سورة الشورى: 23، وهم وصيته ووديعته كما في صحيح مسلم: (أما بعد: ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: اولاهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي)، فقد ظلت النية قائمة حتى حانت الفرصة ثانية صباح الثلاثاء 24 حزيران يونيو فكان فضل الله ومنِّه علينا أن قمنا بزيارة مدينة سامراء التي كانت عاصمة للدولة العباسية وتزودنا من العطاء الروحاني لأهل البيت عليهم السلام، فضلا عن العطاء الغذائي في مضيف العسكريين المفتوح يومياً لزائري العتبة العسكرية المقدسة التي تضم مرقد الإمامين العاشر والحادي عشر من أئمة أهل البيت الإثني عشر عليهم فضلا عن أن المدينة التاريخية هي مسقط رأس الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليه السلام، وفيها من المعالم الجغرافية والتاريخية ما يشد المرء إلى زيارتها.
خلال الساعات الخمس من وجودنا داخل الحرم العسكري الشريف في ذلك اليوم الصائف لفت انتباهي مرور العشرات من الأشبال واليافعين في صف طويل جميل وهم يرتدون اللباس العربي الأبيض (دشداشة) وبيد كل واحد منهم مصحف أو كراسة، وبعد برهة من الزمن مرّ صف آخر من اليافعين والشباب في زي موحد جميل وبيد كل واحد كتاب فقهي، وحيث انتفض النبض الإعلامي في عروقي توجهت إلى أحد المسؤولين وسألته عن ماهية الصف الأول والصف الثاني، فقال: إنَّ الصف الأول هم من أوائل قراء وحفظة القرآن الكريم من مدن عراقية مختلفة استقبلتهم العتبة العسكرية المقدسة في دورة صيفية مكثفة، وأما الصف الثاني فهم من طلبة العلوم الإسلامية والحوزوية من مدن مختلفة استقبلتهم العتبة للغرض نفسه.
بعد سماعي جواب خادم العتبة العسكرية شاه بصري إلى أحد أبواب المرقد العسكري الشريف وكأني أنظر من خلاله إلى باب الرجاء في المرقد الحسيني الشريف في كربلاء المقدسة حيث ديوان آل شهيب الذي كان يقام فيه مساء كل يوم مجلس تلاوة وتجويد القرآن الكريم بإشراف أستاذنا معلم القرآن الفقيد الملاّ حمود الحاج مهدي النجار الحِمْيَري (1926- 2004م)، حيث واظبت من قبل البلوغ ومن بعده على حضور درسه حتى أذن لي بارتقاء منابر قراءة القرآن وتجويده في المساجد والجوامع والأماكن العامة في سن مبكرة بعد تمكني من قواعد التجويد حينها، وربما لو لم أهاجر من العراق مرغماً سنة 1980م لظروف سياسية وأمنية لكنت من أعلام التلاوة والتجويد، ولكن شاءت الأقدار أن أكون اليوم من طلبة النون والقلم.
لقد تداعت صورة القراء اليافعين في سامراء المشرفة وذكريات مجالس القرآن الكريم في كربلاء المقدسة إلى شاشة الذاكرة وأنا أهمَّ بتحرير قراءة عن الجزء الثاني من مجلد (الدليل إلى قول الجليل) للمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت حديثا (2025م) عن بيت العلم للنابهين في 680 صفحة من القطع الكبير.
فهرس معرفي
يمثل (الدليل إلى قول الجليل) نمطاً متطوراً من فهارس ومعاجم القرآن الكريم، اعتمد فيه مؤلفه كما هو الظاهر في الجدول تقسيمه إلى تسعة حقول وهي: الشكل، الكلمة، تفسيرها، العدد، الآية، رقمها، السورة، رقمها، ونزولها، حيث أراد بالشكل الحرف أو الكلمة مقطعة الحروف، وبالكلمة مجتمعة الحروف كما وردت في القرآن الكريم، وبتفسيرها بيان كشفي لمعناها بكلمات قصيرة للغاية، وبالعدد عدد المرات التي وردت في القرآن، وبالآية إيرادها وبيان موقع الكلمة فيها معلماً باللون الأحمر، وبرقمها أي رقم الآية في السورة، وبالسورة اسمها، ورقمها أي رقمها في القرآن الكريم المتداول اليوم بين أيدينا، وبنزولها فيما إذا كانت السورة كلها أو بعضها مكية النزول أو مدنية.
ولأن الإنصاف المعرفي جزء من شيمة المحقق الواثق من نفسه فإن المؤلف كما أكد في الجزء الأول اعتمد في وضع الدليل على المعجم المفهرس للمحقق المصري المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي، كما استفاد في فهرس معجم الأدوات والضمائر مما حرره الفقيه اللغوي الأردني الفلسطيني الأصل المرحوم الدكتور إسماعيل العمايرة بمعية الفقيه اللغوي الأردني المرحوم الدكتور عبد الحميد مصطفى كما في كتاب "معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم".
ولأن "الدليل ..." جديد في تحرير معجمه وفهرسه، فإن حرف الهمزة والألف - الألف الممدودة والمقصورة وكل أشكالها الأخرى- أخذ حصته من المجلدات الجزء الأول والثاني ومجموع صفحاتها (1035) صفحة، حيث بدأ المجلد الأول بالهمزة (أ) وانتهى بالهمزة واللام الأولى والثانية (أ ل ل) في (587) صفحة، فيما ابتدأ المجلد الثاني بالهمزة واللام والميم (أ ل م) وانتهى بالهمزة والياي وما بعدها الياء (أ ي ي) في (492) صفحة، وهذا ما يعزز قول الناشر الأديب اللبناني عبد الحسن راشد دهيني بأن الدليل هو: (إضافة مهمة متمثلة بإظهار معاني المفردات بجانب كل كلمة، حيث ذكر معنى الكلمة باختصار شديد يفيد المعنى، واعتُمد في ذلك على معنى أول كلمة إلا إذا كان لها معنى آخر فيتم ذكره في مكانه، فيصح القول إنه معجم في ثلاثة معاجم للقرآن الكريم، معجم للأسماء والأفعال وآخر للضمائر والأدوات، والثالث معجم لمعاني المفردات).
ولأن المؤلف يتحرى الجديد المفيد، فإنه كما يستطرد الناشر الذي ساهم بشكل كبير إلى جانب المفهرسة الفاضلة السيدة سهام علي عساف في إنجاز هذه العمل الموسوعي الكبير: (أودع في خاتمة كل جزء منه النص القرآني ليتمكن الباحث من مراجعة المفردات أيا كان وصفها في القرآن مباشرة، واختار هذه النصوص القرآنية لكل جزء نصاً مختلفاً عن الآخر من حيث التنضيد وفيه بعض التسهيلات بل الفنون التي يذكرها في مواضعها، والمصحف الملحق بهذا الدليل (الجزء الثاني) يتميز بأن أسطره جميعاً تبتدئ بحرف الألف).
وهنا إشارة إلى ما جاء في خاتمة هذا الجزء من قرآن كامل تبدأ أسطره بحرف الألف في نسق فني جميل وكما يفيدنا الكرباسي في الديباجة: (وهذا هو الجزء الثاني من الدليل إلى كلام الله الجليل، فإذا كان الجزء الأول قد أُلحق به الفرقان الذي رتبه الخطاط الماهر الأستاذ عثمان طه الحلبي حفظه المولى حيث تبتدئ الصفحة منه بالآية وتنتهي بنهاية الآية، وهذا ابتكار جميل ولذلك شاعت طباعة التبيان على هذا الشكل في معظم الأقطار الإسلامية)، ويضيف: (هذا وقد آلينا على أنفسنا أن نلحق بكل جزء من هذا الدليل نسخة مميزة من القرآن المجيد، منظم بنظم فنِّي، فجاءت هذه النسخة الملحقة بالجزء الثاني من تنظيم فضيلة الأستاذ نور الدين آزاد البمبائي الهندي حفظه المولى، والذي استنسخه بمناسبة حلول القرن الخامس عشر الهجري، حيث لم يلتزم بما التزمه الخطاط الحلبي، بل التزم بأن تبدأ الأسطر القرآنية كلها بحرف الألف من أول القرآن إلى آخره).
خير الزيادة والنقصان
ما من كتاب يحرره المرء مهما بلغ من الفهم والعلم والبلاغة والأدب إلا وفيه خطأ ربما غير مقصود، لأنني على يقين بأن ليس لأحد حق الادعاء بتمامية ما يقوله أو يكتبه ويحرره وإلا أصبح معصوماً، وصار ما يكتبه قرآناً ووحياً منزلاً، والمنصف من الكتبة والمؤلفين في أي حقل من حقول المعرفة هو المتواضع مهما بلغ من العلم شأواً الذي يرى ما كتبه أو توصل إليه هو من جهد المقل لإيمانه الكامل بأنه (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) سورة يوسف: 76.
وإذا كانت بعض الكتب لقارئها الخير وللبعض الآخر الشر، زيادة ونقصاناً، فإن الكتاب الكامل الذي قال فيه منزله سبحانه وتعالى (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) سورة فصلت: 41- 42، لقارئه والمتدبر فيه زيادة ونقصان، وكلاهما خير، حيث يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في فضل كلام الله: (اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ، وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ، فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ).
ويعقب الناشر على الخطبة العلوية: (من هذا الكلام نستمد القول بأنَّ الحياة الكريمة والمستقيمة واستمراريتها لا تستقيم إلا مع القرآن وبالقرآن، والقرآن الكريم ليس كتاب تلاوة فقط بل كتاب تدبُّر وتفكُّر ودراسة وبحث في آياته المباركة).
وبتعبير المؤلف في الديباجة: (إن القرآن أعظم ما يمتلكه المسلم من المعارف في قبال غيرهم مما يحملونه من معازف، والذكر هو خير الذكرى بين المسلمين وأفضل ما يجلب التقوى إلى المؤمنين).
فلا غرو أنَّ الفرقان المنزل هو كتاب حياة وفهم وعلم ونجاة، وهذا "الدليل ..." يفتح مغاليق الفهم للإرتشاف من معينه الثر.