كيف أطالت زراعة الفول السوداني أمد العبودية؟
دورية Nature
2022-12-12 06:37
العنوان: «مستعبَدون من أجل الفول السوداني: قصة الغزو والتحرير والمحصول الذي غيَّر وجه التاريخ»
المؤلفة: جوري لويس
دار النشر: ذا نيو برِس
نشأ الفول السوداني الذي نلتهمه اليوم، وهو بذور بقول من النوع Arachis hypogaea، في أمريكا الجنوبية وانتشر حول العالم بسبب الإقبال الواسع عليه كوجبة خفيفة وكمصدر للزيت. ولكن كما نجد في سلع أخرى، ينطوي انتشار الفول السوادني على قصة حول الاستيلاء على الأرض، وإخضاع البشر.
في كتابها الذي يحمل عنوان: «مُستَعبَدون من أجل الفول السوداني» Slaves for Peanuts، توضح الصحافية المعنيّة بقضايا البيئة جوري لويس كيف أن صعود محصول الفول السوادني متشابك مع مسائل الرق، وإبطال الاسترقاق، والإخضاع في غرب إفريقيا خلال حقبة الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر. من أجل رفع الغطاء عن هذا التاريخ، أكبَّت لويس دراسة على وثائق أرشيفية وصحف ومسوَّدات مؤلفات عن النباتات محفوظة في السنغال وجامبيا وفرنسا، فضلًا عن أنها ضمّنت كتابها تاريخًا شفاهيًا وكلمات الأغاني من حَكّائي الـ«جريو» griots؛ وهم مُغَنّون يحظون بالتبجيل في غرب إفريقيا كمؤرخين وشعراء. تقول الكاتبة إن دافعها لكتابة قصص هؤلاء الذين لا نجد لهم ذِكرًا في كتب التاريخ راجع، ولو جزئيًا، لفضولها الشخصي كسيدة أمريكية سمراء عانى أسلافُها نَيْر العبودية.
على يد المؤلِّفة تصير الوقائع الصارمة حكايات أخّاذة؛ إذ تركز على بضع شخصيات، وتُحسِن اختيار الصور المجازية الدالة وهي تخوض الأرض التي كانت مسرحًا للدراما التي يقصُّها الكتاب. كتبت لويس: "سافرنا كما سافر هؤلاء الذين نتتبَّع خُطاهم، لنرصد كيف سافروا في القرن التاسع العشر في عربة يجرها حصان تهادت على طريق غير معبَّد، منطلقة نحو الأفق".
يرجع نشوء الفول السوداني الحديث لما قبل أكثر من عشرة آلاف عام، وبدأ في الأراضي الواطئة شرقي جبال الأنديز، ونتج عن تهجين نوعين عتيقين من الفول السوداني، ربما بسبب تلاقَحَ بالصدفة من خلال نحلة. وبحلول الوقت الذي حط فيه كريستوفر كولومبوس رحاله في العالم الجديد، كان بشرٌ كُثُر في أمريكا الجنوبية يزرعون الفول السوداني. وإذ تزايدت جموع المستعمرين ورجال الدين الوافدين إلى القارة، عاد بعضهم بنبات الفول السوداني كهدايا للبلاط الملكي الذي كان ينتظر أن يعرف ما السلع التي يمكن أن يظفر بها من تلك البلاد النائية. ليس معلومًا متى وصل نبات الفول السوداني غرب إفريقيا، ولكن لويس تذهب إلى أن محاصيل الفول السوداني ربما كانت مزدهرة في المنطقة بحلول نهاية القرن السادس عشر. نما الفول السوداني بنجاح في موطنه الجديد بفضل المناخ المناسب وبفضل اعتياد المزارعين على زراعة محصول آخر، يُنتج بذورًا صغيرة تحت سطح الأرض وقابلة للأكل: بذور «البامبارا»، واسمها العلمي Vigna subterranes.
عندما كانت تجارة الرقيق عبر الأطلنطي تُقارب نهايتها، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ركز مسؤولون فرنسيون في المستعمرات، في البلاد التي يُشار إليها اليوم بالسنغال، على الفول السوداني إذ كانوا يبحثون عن مصادر بديلة للعوائد. كان الطلب يتزايد في أوروبا على الزيوت النباتية والصابون، والفول السوداني كان مصدرًا قليل الكُلفة طالما توفَّر بكميات ضخمة لقاءَ أسعار زهيدة. وكان العنصر الأساسي في تلك المعادلة أن تتوافر عمالة بشرية بلا مقابل.
ثغرات قانونية
تغوص لويس في تاريخ كاجور، وكانت مملكة قوية. بحلول العام 1850، كانت كاجور تُنتِج أغلب ما صدَّرت السنغال من الفول السوداني. وكان ذلك الإنتاج يعتمد في الأغلب على أفراد جرى استرقاقهم على أيدي أفارقة آخرين، رغم الموقف الفرنسي الرسمي أنها كانت بصدد إنهاء الرق في مستعمراتها. وبسبب سلسلةٍ من الثغرات والتبريرات، استمرت ممارسات الاسترقاق. من ذلك، على سبيل المثال، قررت أن الاسترقاق كان مسموحًا به إذا صُنف المستعبَدون على أنهم من «الخَدَم».
كتب مسؤولون حكوميون فرنسيون في المستعمرات لرؤسائهم في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر عن "المسألة الحساسة المتعلقة بالمخضَعين"، وفق ما كتبت لويس. وأطلق أحدهم تحذيرًا: "إن عَطّلتم توفير هؤلاء المستعبَدين للمستعمرات، فإنكم ستدمرون الزراعة في أنحاء المستعمرات كلها، وفي مدى قصير". وذهب الرجل، إفكًا، إلى أن هؤلاء الذين جرى إخضاعهم للرق إنما قدَّموا تلك الخدمات طوعًا، وأن منحهم الحرية سيكون "معاملةً غير إنسانية".
للوفاء بالطلب المرتفع على الفول السوداني، أطاحت فرنسا بالقادة الذين لم ينصاعوا لطلباتها. عندما اعترض حاكم كاجور على خطط الأوروبيين لإنشاء سكة حديد عبر المنطقة لتيسير تصدير الفول السوداني، اجتاح الجيش الفرنسي تلك المنطقة بغير هوادة. وبعد أن أحرقت القوات قرًى عديدة، نشرت بيانًا يقول إنها "جاءت لتؤدي الأعمال الجليلة المطلوبة لجلب الحضارة إليكم". كتب قائد عسكري لأمه يصف كيف احترق رجل أسود حتى الموت حين أضرم الجنود النيران في منزله. ولكن حتى في الفقرات التي تصف أحلك المواقف، سيجد القارئ في أسلوب لويس وبيانها شيئًا من السُّلوان. هنا، مثلًا، تتخيل الكاتبة ما رأت القوات الغازية: "صفحة الأرض وقد اكتسَتْ بالأعشاب تضج بالحياة بعد موسم المطر، غاباتها من أشجار الباوباب والصمغ، أشجار الكيلسيدرات الشاهقة، أشجار التمر الهندي بهية الخُضرة بعناقيد ثمارها المتدلية، ذات الألوان الشاحبة، ثم الأشجار المتأنقة بألوانها الزاهية".
السعي للحرية
في سعيهم للحرية، فرَّ مُستعبَدون كُثُر من كاجور وغيرها من المناطق في عمق السنغال إلى المستعمرات الفرنسية في سان لوي، وهي سلسلة من الجزر الصغيرة عند فم نهر السنغال. في تلك الجزر كان على مسؤولي الحكومة الاستعمارية أن يظهروا دعمهم لإنهاء الرق، ولكن اتضح أنها لم تكن سوى "أرضٍ موعودة زائفة"، بحسب المؤلفة لويس؛ لأن الفارين الذين لم يستطيعوا إثبات إقامتهم في سان لوي أُعيدوا قسرا لمستَعبِديهم. واحدٌ من سُبُل إثبات تلك الإقامة كان يتمثَّل في اللجوء إلى وولتر سامويل تايلور، وكان أحد القساوسة الأفارقة القلائل في «جمعية باريس للإرساليات الإنجيلية»، وكان يدير ملجأ لإيواء الفارِّين. تقص المؤلفة لويس قصة موسى سيدي بيه، وكان شابًا خبَّأه تايلور حتى مرَّت الأشهر الثلاثة اللازمة للحصول على الإقامة، ومن ثم لإعلان حريته. من الوثائق الكاشفة المطبوعة في الكتاب تلك التي تقرِّر أن سيدي بيه "مؤهَّل لأن يكون مالِكًا لنفسه".
ربط تايلور بين هدف إبطال الرق وأهدافه الدعوية ضمن الإرسالية. ففي اجتماع للجمعية الإنجيلية في باريس في 1878، خاطب تايلور الحضور قائلًا إن مَنح الأفارقة حريتهم سيجعل الكنيسة في وضع تنافسي أفضل بالمقارنة بالمسلمين، الذين كانوا بدورهم يسعون لاستمالة العقول والقلوب. كما حذَّر من أن التوجه العنصري في العمل الدعوي والمسيء للثقافات الإفريقية سيُزَهِّد الأفارقة في رسالة الكنيسة. بعبارة أخرى، كان السعي لاكتساب مؤمنين جُدُدٍ أقرب إلى إصابة النجاح إذا احترم الدعاة أسلوب حياتهم.
ولكن تايلور لم يقل الكثير عن الرق في كاجور وغيرها من المناطق المنتِجة للفول السوداني، على الأقل وفقًا للأرشيف المحفوظ. ربما كان سيترتب على مثل تلك الدعوات مخاطر لم يكن تايلور مستعدًا لتحملها، خاصة بالنظر إلى التهديدات التي واجهها في مسيره المهني من بعض الأوروبيين في الإرسالية الإنجيلية. ولكن لا سبيل لدينا للوقوف يقينًا على مشاعره؛ لأن معرفتنا بالتاريخ، كما تذكِّرنا المؤلفة لويس، محدودة بما يتاح من وثائق.
لنا أن نرى في كتاب «مستعبَدون من أجل الفول السوداني» إضافةً قَيِّمةً لتاريخ الزراعة وتاريخ غرب إفريقيا؛ على أنَّ بعضًا من قيمة الكتاب، بالنسبة لي، تكمن في رحلة المؤلفة لويس وهي تتعقب هذا التاريخ في السنغال، البلد الذي عاشت فيه ما يربو على عشر سنوات. عندما لا تحوي الوثائق الأرشيفية أصوات من حرثوا الأرض، فإن المؤلفة تذهب باحثةً عن القصص، فتسأل من هرموا في تلك الأرض أن يستعيدوا ذكريات الأجيال التي خلَتْ، قبل أن تتبدد تلك الذكريات للأبد. وحتى حين لا تُكلَّل مساعيها بالنجاح المنشود، فإن القارئ لا يعدَمُ الإفادة فيما تثير المؤلفة من تساؤلات.