محاضرات في تاريخ الفلسفة السياسية
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
2021-02-21 07:05
صدر عن سلسلة ترجمان في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب محاضرات في تاريخ الفلسفة السياسية، وهو ترجمة يزن الحاج العربية لكتاب Lectures on the History of Political Philosophy الذي حرره، باللغة الإنكليزية، صامويل فريمان. هذا الكتاب مجموعة من المحاضرات التي ألقاها جون رولز في أثناء تدريسه في جامعة هارفرد، طوال ثلاثة عقود، اهتمّ فيها بالفلسفة السياسية الحديثة، وسعى فيها إلى تحديد السمات الأساسية لليبرالية بصفتها تعبّر عن مفهوم سياسي للعدالة حين يُنظر إلى الليبرالية بمنظار تقاليد الدستورية الديمقراطية، متناولًا أصحاب نظرية العقد الاجتماعي هوبز ولوك وروسو، ومفكّرو الفلسفة النفعية هيوم ومِل. أما ماركس فرأى فيه رولز ناقدًا لليبرالية.
يتألف هذا الكتاب (640 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ستة أقسام، تضم تسعة عشر فصلًا، إضافة إلى ملاحق تضم خمس محاضرات عن جوزف بتلر: "التكوين الخُلُقي للطبيعة البشرية"، و"طبيعة الضمير وسلطته"، و"اقتصاد العواطف"، و"حجّة بتلر ضد الأنَوية"، و"التضارب المفترض بين الضمير وحبّ الذات".
أخلاقية علمانية
يشتمل القسم الأول، "هوبز"، على أربعة فصول. وفي الفصل الأول، "المحاضرة الأولى عن هوبز: الأخلاقية العلمانية عند هوبز ودور عقده الاجتماعي"، يرى رولز أن الفكر الأرثوذكسي لم يؤدّ دورًا جوهريًّا في آراء هوبز: "وأرى، إذًا، أن جميع الأفكار التي استخدمها هوبز، مثل فكرة الحق الطبيعي والقانون الطبيعي، وحالة الطبيعة، وما إلى ذلك، يمكن تعريفها وتحليلها بمعزل عن أي خلفية لاهوتية. وكذا الحال أيضًا في الحالة المتعلّقة بمضمون المنظومة الأخلاقية، إذ إن المضمون الذي أعنيه هو ما تقوله مبادئه حقيقة. وهذا يعني أن مضمون قوانين الطبيعة، التي يأمرنا العقل الصحيح باتباعها، وكذلك مضمون الفضائل الأخلاقية، كالعدالة والشرف، وما إلى ذلك، يمكن تفسيرها جميعًا من دون اللجوء إلى الافتراضات اللاهوتية، ويمكن فهمها ضمن المنظومة العلمانية".
يقول رولز في الفصل الثاني، "المحاضرة الثانية عن هوبز: الطبيعة البشرية وحالة الطبيعة"، إن هوبز يعمد إلى إظهار ماهية الطبيعة البشرية عبر السمات الأساسية والقدرات والرغبات والعواطف الأخرى للبشر التي نلاحظها الآن في المجتمع المدني. وبذلك، يفترض، وفقًا لمقاصد عقيدته السياسية، أن هذه السمات الأساسية للطبيعة البشرية محدّدة أو راسخة بهذا القدر أو ذاك. ولا يُنكر هوبز أن المؤسّسات الاجتماعية والتعليم والثقافة في إمكانها تغيير أهوائنا وتحويل أهدافنا، لكنه يفترض، وفقًا لمقاصد عقيدته السياسية، أي منظومته الأخلاقية العلمانية، أن وجود المؤسّسات الاجتماعية، خصوصًا وجود حاكم فاعل، يغيّر ظروفنا الموضوعية؛ ومن ثمّ يغيّر ما هو حكيم وعقلاني بالنسبة إلينا لنفعله.
تفكر عملي
يرى رولز في الفصل الثالث، "المحاضرة الثالثة عن هوبز: توصيف هوبز للتفكّر العملي"، أن التفكّر العملي عند هوبز هو التفكّر في ماهية الأمر العقلاني الذي ينبغي فعله. فقوانين الطبيعة تصوغ مبادئ التعاون النزيه، أو تثير فينا الرغبة في فضائل العقلية وعاداتها، مثل السعي إلى السلام، والدفاع عن النفس، والاستعداد للتنازل عن الحقوق، وحفظ العهود، والامتنان، والتكيّف مع الآخرين، والمسامحة، والعفو، والاعتراف بالآخرين بوصفهم مساوين لنا، وعدم الاحتفاظ بحق لا نقتنع بأنّ على الآخرين امتلاكه. ويرى رولز أنّ اتّباعنا هذه المبادئ أمرٌ عقلاني، على أنْ يتبعها الآخرون. ودور الحاكم هو ضمان اتباع عدد كافٍ من الآخرين لها.
يقول رولز في الفصل الرابع، "المحاضرة الرابعة عن هوبز: دور الحاكم وسلطاته"، إن رؤية هوبز المتعلّقة بدور الحاكم "تعني تكريس، بالتالي صون، تلك الحالة الاجتماعية التي يحتكم فيها الجميع، طبيعيًا واعتياديًا، إلى قوانين الطبيعة، التي يسمّيها هوبز حالة السلام. يكرّس الحاكم المجتمع عبر فرض عقوبات فعلية تُبقي الجميع في رهبة. إن المعرفة العمومية بأنّ الحاكم فاعل هي التي جعلت إطاعة كل شخص هي أن لقوانين الطبيعة بالتالي عملًا عقلانيًّا. إنه يمنح الجميع ضمانة بفرض قوانين الطبيعة. وسيُذعن كثير من الناس بالنتيجة، عارفين أن الآخرين سيُذعنون معهم".
طبيعي وشرعي وطبقي
يضمّ القسم الثاني، "لوك"، ثلاثة فصول. وفي الفصل الخامس، "المحاضرة الأولى عن لوك: عقيدته المتعلّقة بالقانون الطبيعي"، يلاحظ رولز أن تصوّر لوك للقانون الطبيعي يُقدِّم مثالًا عن نظام مستقلّ للقيم الأخلاقية والسياسية "التي تُكرّس، عبر الإحالة عليها، أحكامنا السياسية بشأن العدالة والمصلحة العامة. الأحكام الصحيحة أو المنطقية صالحةٌ، أو دقيقة، في ما يتعلّق بهذا النظام، ويتحدّد مضمونها بقدر كبير، عبر القانون الأساس للطبيعة بوصفه قانون الربّ. بذا، فإن رأي لوك يتضمّن تصوّرًا عن التبرير متمايزًا من التصوّر المتعلّق بالتبرير العمومي في العدالة كإنصاف بوصفها صيغة من الليبرالية السياسية".
يرى هوبز في الفصل السادس، "المحاضرة الثانية عن لوك: توصيفه لنظام شرعي"، أن لوك يستخدم فكرة الميثاق الاجتماعي كوجهة نظر، "يمكننا من خلالها إدراك كيف أن بإمكان النظام المختلط أن يظهر تشريعيًا. الميثاق الأصلي، أو ميثاق المجتمع، يوحّد الشعب في مجتمع واحد ويكرّس في الوقت ذاته، صيغة نظامٍ ذي سلطة سياسية". ويتناول رولز هنا نقطتين: الميثاق الاجتماعي إجماعي بفضله يشترك الجميع في مجتمع مديني واحد بهدف تكريس نظام سياسي، والسلطة السياسية في الصيغة التي تحدّدها الأغلبية سلطة مؤتمَنة تنال الثقة لغايات محدّدة.
أمّا في الفصل السابع، "المحاضرة الثالثة عن لوك: المِلكية والدولة الطبقية"، فيحاضر رولز قائلًا إن لوك اعتقد أن مبدأ العقد الاجتماعي الخاصّ به يدعم دولة دستورية تحت حكم القانون وهيئة تمثيلية تتقاسم السلطة التشريعية العليا مع الملك. وفي هذه المعادلة، يكون أصحاب الملكية هم وحدهم الذين يمارسون السلطة السياسية. وبحسب رولز، يبدأ التاريخ المثالي من حالة الطبيعة كحالة من الصلاحية المتساوية يتصرّف فيها الجميع منطقيًا وعقلانيًا. وبدا لبعضهم أن الدولة الطبقية غير متناغمة مع عقيدة لوك المتعلّقة بكيفية نشوء السلطة السياسية الشرعية.
في العقد الأصلي والمنفعة
في القسم الثالث، "هيوم"، فصلان. في الفصل الثامن، "المحاضرة الأولى عن هيوم: عن العقد الأصلي"، يخلص رولز إلى أن هيوم يرى أن العقد الاجتماعي، كمبدأ فلسفي، لا يكون بعيد الاحتمال، ومتعارضًا مع الفهم السائد في كونه متعاكسًا مع جميع الأمور التي يؤمن بها البشر، ومتعاكسًا مع الرأي السياسي السائد فحسب، بل إنه زائفٌ كذلك؛ إذ يُخفق في استنتاج ماهية الأرضية الحقيقية للالتزام السياسي تحديدًا (الضرورات العامّة ومصالح المجتمع). ويقول هيوم إن من المستحيل، في الأخلاقيات، أن نجد أي شيء جديد، وأن الآراء الجديدة خاطئة دائمًا تقريبًا. وهو يؤمن بأنّ الرأي والممارسة العامّة للبشرية، في مسائل الأخلاقيات، هما الأمران الحاسمان في حال كانت موجودة.
يصف رولز في الفصل التاسع، "المحاضرة الثانية عن هيوم: المنفعة والعدالة والمُشاهد الحكيم"، الرؤيةَ الأخلاقية الخاصّة بهيوم كالتالي: لا تُعرَف الفروق الأخلاقية وتُطبَق على الأشياء بواسطة العقل وحده؛ على نحو أكثر تحديدًا، نحدّد الفروق الأخلاقية ونمتلك القدرة على تطبيقها، لا عبر حُجج استنتاجية أو استقرائية أو احتمالية، بل من خلال حالة داخلية، وتعبّر الأحكام الأخلاقية عن استجابة لحساسيتنا الأخلاقية على إدراك حقائق بذاتها من وجهة نظر محدّدة؛ نتوافق في الأحكام الأخلاقية، لا لكوننا، بوصفنا كائنات عقلانية وذكية، نفهم حقيقتها كما نفهم حقيقة مسلّمات الهندسة مثلًا، بل إننا نتوافق في أحكامنا الأخلاقية؛ لأننا نتقاسم الحساسية الأخلاقية ذاتها. وبحسب رولز، تهدف مبادئ هيوم عن العدالة، من الناحية الفعلية، بقدر كبير، إلى تنظيم الإنتاج الاقتصادي والمنافسة بين أعضاء المجتمع المدني، في سعيهم إلى مصالحهم الاقتصادية.
في عقد روسو الاجتماعي
يحتوي القسم الرابع، "روسو"، ثلاثة فصول. وفي الفصل العاشر، "المحاضرة الأولى عن روسو: العقد الاجتماعي: مشكلته"، يستغرب رولز قول روسو إن الإنسان خيّر بطبعه، فالبشر البدائيون كسالى، عديمو التفكير، لكن متى تسنَّى لهم الأمرُ سيعملون على أن يكونوا سادةً على من يمتلكون قدرًا أقل، أو أن يتذللوا أمام من يمتلكون قدرًا أكبر. لمَ، إذًا، لا تكون الطبيعة البشرية سيئة في جذورها، ما دامت الحياة الاجتماعية لا تتوقّف عن إظهار مدى سوء طبيعتنا الفعلية؟
يقول رولز في الفصل الحادي عشر، "المحاضرة الثانية عن روسو: العقد الاجتماعي: الافتراضات والإرادة العامّة (1)"، إن الإرادة العامّة عند روسو صيغة من التفكير المتأنّي يتقاسمها كل مواطن ويمارسها بوصفه عضوًا من الجسم الاندماجي، أو الشخص العمومي الذي يظهر بفعل الميثاق الاجتماعي. وترغب الإرادة العامّة في الصالح العام الذي يُعتبر من الشروط الاجتماعية التي تمكّن المواطنين من تحقيق مصالحهم المشتركة. وما يجعل الصالح العام ممكنًا هو مصالحنا المشتركة، وما يجعل مصالحنا المشتركة ممكنة هو مصالحنا الأساسية المشتركة، وما يحدّد مصالحنا الأساسية هو طبيعتنا البشرية المشتركة.
في الفصل الثاني عشر، "المحاضرة الثالثة عن روسو: الإرادة العامّة (2) ومسألة الاستقرار"، ينسب رولز إلى روسو، في مجتمع الميثاق الاجتماعي انعدام التعارض بين الحرية والمساواة؛ فالمساواة ضرورية للحرية، والافتقار إلى الاستقلالية الشخصية يعني فقدان الحرية، والاستقلالية تستلزم المساواة. ويرى روسو أنّ المساواة ضرورية للحرية، وأنّها العنصر الذي يجعلها جوهرية. ومع ذلك، ليست المساواةُ مساواةً صارمة.
منفعة وعدالة
يشتمل القسم الخامس، "مِل"، على أربعة فصول. وفي الفصل الثالث عشر، "المحاضرة الأولى عن مِل: تصوّره للمنفعة"، يلاحظ رولز أن مِل يتحدّث عن الغاية النهائية، أو السعادة القصوى؛ كونها وجودًا، أو أسلوبًا، أو طريقة للوجود على التوالي. ولا تقتصر السعادة على مجرّد كونها مشاعر ممتعة أو لطيفة، أو سلسلة من مشاعر مماثلة، أكانت بسيطة أم معقّدة. إنها أسلوب، أو قد يقول المرء إنها طريقة حياة؛ كما يختبرها ويعيشها الشخص الذي تكون هذه حياته. وهنا، يفترض رولز أن أسلوب الحياة لا يكون سعيدًا إلا حين ينجح في تحقيق هذه الأهداف، بهذا القدر أو ذاك.
ينسب رولز إلى مِل في الفصل الرابع عشر، "المحاضرة الثانية عن مِل: توصيفه للعدالة"، قوله إن عاطفة العدالة أو إحساسها هي ذات حدّة سيكولوجية شديدة كما أنها في تعارض واضح مع مبدأ المنفعة، متسائلًا: هل يمكن تفسير هذه العاطفة، على الرغم من ذلك، بطرائق متناغمة مع مبدأ المنفعة؟ وما يود مِل إظهاره هو أن إمكان حدوث ذلك موجود. إنه يحاج بأنه مع التسليم بأنماط الأشياء التي نعتبرها عادلة وغير عادلة، ومع التسليم بتشكيلنا السيكولوجي، يمكننا تفسير كيفية نشوء إحساسنا بالعدالة بسبب امتلاكها تلك الكثافة السيكولوجية. ويعتقد مِل أن ما يميّز العادل من الجائر ضمن التصنيف الأوسع للأمور الصحيحة والخاطئة، على سبيل المثال، انطلاقًا من الإحسان أو نزعة الخير والافتقار إليهما، هو فكرةُ وجودِ حق شخصي.
مِل في الحرية
يطرح رولز في الفصل الخامس عشر، "المحاضرة الثالثة عن مِل: مبدأ الحرية"، سؤال الحرية كما يصوغه مِل، فيقول إن المشكلة ليست فلسفية بشأن حرية الإرادة، بل متعلّقة بالحرية المدنية أو الحرية الاجتماعية، ومتعلّقة بطبيعة السلطة وحدودها التي يمكن ممارستها شرعيًّا من المجتمع على الفرد: "وهذه مشكلة قديمة، لكنها مشكلة كما يعتقد مِل، في حالة مجتمع إنكلترا في عصره، تفترض صيغة مختلفة ضمن شروط جديدة. إنها تستلزم، بالتالي، معاملة مختلفة، بحسب مِل، معاملة أكثر جوهرية. وما يدور في ذهن مِل هو أن مشكلة الحرية، كما يتوقّعها، ستبرز في العصر العضوي الجديد الذي سيكون فيه المجتمع ديمقراطيًا، علمانيًا وصناعيًا". وبحسبه، لا تتعلّق المشكلة بحماية المجتمع من استبداد الملوك، أو الحكام عمومًا؛ إذ سُوِّيَت هذه المشكلة عبر تكريس رقابات دستورية متعدّدة محل السلطة الحكومية وعبر الحصانات والحقوق السياسية. تتعلّق المشكلة بإساءات الحكومة الديمقراطية في حد ذاتها، خصوصًا إساءة الأكثريات إلى سلطتهم على الأقلّيات.
بحسب رولز، في الفصل السادس عشر، "المحاضرة الرابعة عن مِل: عقيدته ككل"، يستند مِل إلى توصيف سيكولوجي محدّد تمامًا للطبيعة البشرية، منطلقًا من مبادئ سيكولوجية أساسية: مبدأ معيار التفضيل المقرّر، ومبدأ الكرامة، ومبدأ العيش في اتحاد مع الآخرين، والمبدأ الأرسطي، ومبدأ الفردانية، ومبدأ تحديد الخير الإنساني الطبيعي. وفكرة رولز الأساسية هنا هي أن دور هذه المبادئ السيكولوجية في عقيدة مِل هو الآتي: إلى جانب المبدأ المعياري للمنفعة واعتبارات أخرى، مثل الشروط التاريخية والاجتماعية للعالم الحديث ونزعاته الخاصّة بالتغيير، تعمل تلك المبادئ على تحديد المصالح الدائمة للبشر.
رأسمالية وحق وعدالة
يشتمل القسم السادس، "ماركس"، على ثلاثة فصول. وفي الفصل السابع عشر، "المحاضرة الأولى عن ماركس: رؤيته عن الرأسمالية كمنظومة اجتماعية"، يقدم رولز دراسة ماركس للرأسمالية كمجتمع طبقي في المعنى المحدّد عنده. وهذا يعني، بالنسبة إليه، أن ثمّة طبقة من الأشخاص في المجتمع الرأسمالي قادرة على الاستيلاء على فائض عمل الآخرين بفضل موقعها في البنية المؤسّساتية. وبالنسبة إليه أيضًا، تُعدّ الرأسمالية منظومة هيمنة واستغلال كالعبودية والإقطاع. ما يجعل الرأسمالية مميّزة أنها بالنسبة إلى الذين يتّخذون قراراتهم، ويوجهون أفعالهم وفقًا لمعاييرها، لا تبدو منظومة هيمنةٍ واستغلال. فكيف يُعقل هذا؟ وكيف يمكن أن تكون الهيمنة وكذلك الاستغلال ضبابيَّين؟
في الفصل الثامن عشر، "المحاضرة الثانية عن ماركس: تصوّره للحق والعدالة"، يصف رولز تعريف ماركس للاستغلال في نظرية العمل بشأن القيمة الخاصّة به بأنه تعريفٌ وصفي محض: إنه ينتج من نسبة فائض العمل (أو العمل غير المأجور) عن العمل الضروري. لكن، لا يُعقل أن يكون هذا كل شيء بشأن مفهوم الاستغلال، وسبب ذلك أن مجتمعًا اشتراكيًا عادلًا، كأي مجتمع آخر، يحتاج إلى فائض اجتماعي، لنفترض أنه لتوفير البضائع العامّة كالصحّة العامّة والتعليم والرفاه والحماية البيئية، وأمور كثيرة غيرها. وهذا يعني أن على الناس العمل وقتًا أطول مما يحتاج لإنتاج البضائع التي سيتقاضونها أجورًا. هذا صحيح في أي مجتمع يودّ المرء العيش فيه.
غاية مُثلى
حاول رولز في الفصل الأخير (التاسع عشر)، "المحاضرة الثالثة عن ماركس: غايته المُثلى: مجتمع من المُنتجين المرتبطين ارتباطًا حرًّا"، تفسير الموقع المركزي الذي تشغله في رؤية ماركس فكرة مجتمع المنتجين المتجمعين بشكل حر، الذين يُديرون حياة جنسهم بالتوافق مع خطّة اقتصادية عمومية ومتوافَق فيها ديمقراطيًا؛ يفهمها الجميع، ويشارك فيها المجتمع.
يقول رولز: "عندما يُدير المجتمع نفسه بهذه الطريقة، سيتلاشى الوعي الأيديولوجي ولن يكون ثمّة اغتراب أو استغلال. ثمّة وحدةٌ بين النظرية والممارسة: نفهم جميعًا سبب قيامنا بما نفعله، كما أن ما نفعله سيحقّق سلطاتنا الطبيعية ضمن شروط من الحرية. إن لفكرة وجود خطّة اقتصادية عمومية على مستوى المجتمع وديمقراطية جذورًا شديدة العمق، وعواقب أساسية في فكر ماركس". ويضيف رولز قائلًا: "من المهم إدراك هذا، خصوصًا الآن، حيث إن انهيار الشيوعية قد يُغرينا بسهولة في إغفال هذه الصلات، وافتراض أن جوهر فكرة وجود خطّة اقتصادية ديمقراطية فقد صدقيته. وعلى الرغم من أننا قد نرفضها، لا بد لنا من محاولة فهم سبب امتلاك هذه الفكرة موقعًا محوريًا في المدرسة الاشتراكية، والمغزى الذي تحمله لنا الآن".