مشكلة الحرية ومحاولات توضيحها
قراءة في كتاب جديد
حاتم حميد محسن
2020-10-25 07:32
يجمع ريموند تاليس إنشغالات خمسين سنة من الكتابة والتفكير حول الغموض الهائل في حياة الانسان العادية، ويتوغل في البحث عن أي نوع من الكائنات نحن، وأين يمكن ان نجد معنى للحياة.
يسأل تاليس، لو نحن رفضنا الايمان الماورائي في اننا أرواح خالصة استقرت مؤقتا في أجسامنا، التي هي من صنع الله ومرتبطة به، فماذا يجب ان نضع مكانه؟ كيف نضمن لو اننا قبلنا بموت الاله فسوف لن يموت شيء ما في داخلنا؟ ولو كنا مجرد كائنات عضوية تشكلت بقوى البيئة، دون اي سبب لوجودها ودون أي قيمة موضوعية كما يدّعي بعض العلماء، فأين سنجد ما يكفي من معنى من حيث الاستمرارية والعمق لتحمّل المعرفة بأخلاقيتنا وبالخسارات المعينة لكل ما نحب ونمجّد؟ كيف يجب ان نفكر بأنفسنا لو لم نكن ملائكة هابطة من السماء تشرع رغبة الله، ولم نكن قرودا بسيطة تتصرف وفق وصفة بايولوجية؟
يبدأ تاليس بحثه في تأسيس ما نعرفه عن طبيعتنا الاساسية. هو يعرض إنشغالات مفصلة لنطاق هائل من الحقول، يختبر علاقاتنا بأجسامنا، انانيتنا، فرديتنا –كل تجليات الطبيعة المتفردة للوعي الانساني– ويبيّن لماذا لايشبه الانسان اي شيء آخر في الكون. بعد الكشف عن طبيعتنا في كل أمجادها، يعالج تاليس ما لم يُحل في الظرف الانساني –شوقنا لحياة متماسكة تشع داخليا بحس منفرد بالهدف والمعنى- والبحث عن شيء يماثل عمق الدين، حتى الى النقطة التي تخفف مأساة حياتنا. هو يبيّن ان حقيقة سمو الانسان والحاجات التي توقظها يجب ان تكون الجسر عبر الانقسام بين المؤمنين وغير المؤمنين.
الكتاب هو بالنهاية مهرجان احتفالي. فيه وراء الحجج الفلسفية يكمن الشوق الى مزيد من اليقظة المتحفزة بالشعور بالإعجاب والامتنان لغموض معظم التجليات الشائعة لإنسانيتنا. محاولة تاليس في هذا الكتاب هي تكثيف قوة الضوء الذي نرى فيه عالمنا اليومي ولكي نفكر بوضوح حول منْ نحن. انه فقط عبر يقظتنا تجاه الدين والطبيعية، سنجد انفسنا في أعلى درجات التحقيق غير المقيد في انفسنا، وفي العالم الذي بنيناه وكذلك الكون، حينذاك سنجد الأمل في الخلاص.
مأزق الرغبة الحرة
مع ان الرغبة الحرة مستحيلة نظريا لكنها تبدو واقعية على صعيد الممارسة. كيف يمكننا التوفيق بين هاتين الملاحظتين؟ سنحتاج اولا النظر في الجدال ضد الرغبة الحرة. كما يبدو من الجدال، ان كل فعل هو حادث مادي، والحوادث المادية ناتجة عن حوادث قبلها، تلك الحوادث السابقة ناتجة ايضا عن حوادث سابقة، وهكذا نسير على طول الطريق رجوعا الى الانفجار العظيم (بغ بانغ). وما هو اكثر من ذلك ان جميع الأحداث عرضة لقوانين الطبيعة التي حسب التعريف لايمكن مخالفتها، كذلك نحن نحتاج ان تكون قوانين الطبيعة موثوقة 100% اذا اريد لأفعالنا ان تكون ذات محصلات مرغوبة. اذا كانت قوانين الحركة لايمكن تطبيقها عالميا، سوف لن نكون قادرين على الذهاب الى السوق او الخروج من السرير.
لذا نحن الآن امام حالة وهي ان العالم المغلق سببيا المنكشف وفق قوانين الطبيعة، يجعل من المستحيل ممارسة الرغبة الحرة. ان فكرة الاختيار بين المستقبليات، او حرف مسار الأحداث هو نوع من الفنتازيا. وكما يشير بيتر فان انواغن peter van Inwagen، ان هناك "في اية لحظة مستقبل واحد ممكن فيزيقيا". انه يبدو، كما في الاشياء المادية الاخرى، نحن مجرد قنوات يمر من خلالها العالم المادي. وبالرغم من التجسيدات الظاهرة، لكن سيرتنا كُتبت قبل ان نولد. نحن ليس لنا اختيار بكيفية العيش.
وجودنا داخل الرحم وخارجه يتقرران سلفا بشكل متساوي. غير اننا نجد من الصعب الشك بان هناك افعال حقيقية بالإضافة الى مجرد حوادث، وان الاشياء التي نعملها هي متميزة عن الاشياء التي نحن فقط عرضة لها. نحن ندرك بان هناك اختلاف جوهري بين الحدث الفيزيقي مثل السقوط من السلّم وبين المشي الى الطابق السفلي كمرحلة اولى للذهاب الى المدرسة، او بين الصراخ اثناء النوم والانشغال في نقاش جاد حول الرغبة الحرة. كذلك، نحن نحكم اخلاقيا على انفسنا والآخرين على اساس حرية الاختيار المفترضة، نطلق المديح واللوم، نوافق ولا نوافق متى ماكان ذلك ملائما لنا. هل ايماننا باننا مسؤولين عن أفعالنا مجرد خرافة متبقية من عصر ما قبل العلم؟
الجواب هنا بالنفي واننا مسؤولون على الأقل عن بعض افعالنا. سننظر بفكرة السبب وبعلاقتنا بالقوانين التي تبدو، من خلال اجسامنا المادية، تدمجنا في العالم الطبيعي. ولابد من ملاحظة شيء عن الأسباب كونها:
1- تبدو صارمة فقط لأنها تعبيرات عن القوانين
2- ان فكرة السببية كقيد مستقل على ما يحدث، وبالتالي على ما يمكننا عمله، اكتسبت شيء من القسوة.
سببية تدعو للقلق
في الحقيقة، لم تنج السببية حتى الان من هجوم ديفد هيوم عليها في كتابه (رسالة حول طبيعة الانسان، 1739-1740). جادل هيوم بان لا دليل هناك على السببية كارتباط ضروري بين الأحداث، وان ما نسميه "سببية" هو فقط اقتران مستمر نتصوره بين انواع الاحداث. هذا يقودنا للاعتقاد بان الاحداث يجب ان تتلاقى مع بعضها كما لو ان هناك قوة او لاصق يشدها الى بعضها. ما يبدو من "الضرورة"، يكمن ليس في العالم المادي وانما في أذهاننا.
كانت هناك عدة محاولات لإنقاذ السببية من نقد هيوم. التفسيرات المضادة ترى ان السبب C للحدث E هو شيء ما على طول الخط، لو ان C لم تحدث، فان E سوف لن تحدث. الاسباب ضرورية لكنها غير كافية لإحداث تأثيراتها. لسوء الحظ، هذه الصياغة تفشل في التمييز بين السبب والظروف المحيطة به. وما هو اسوأ، انها تضفي مكانة سببية للأشياء التي لم تحدث. فمثلا، ذبول ازهار الحديقة عندما نكون في اجازة يمكن رؤيته بما يناقض الواقع ناتج عن عدم سقي الاشجار.
التفسيرات الاحصائية للسببية تقول ان السبب هو حدث يزيد حدوثه من احتمال حدث آخر او حصول نتيجة. لكن هذا يضيف القليل للتفسير المضاد، خاصة عندما لا يحدد الفرق بين السببية وبين مجرد الارتباط او التزامن correlation. احدى الطرق للتمييز بين السببية والترابط هو من خلال المناورة او المعالجة الذكية manipulation: اذا وجدت دائما اني عبر إحداث الحدث A سأتمكن من إحداث الحدث B، فربما استنتج ان A تلعب دورا سببيا في حدوث B، وليس مجرد مرتبطة بحدوثه.
هذا التفكير حفز نظرية اخرى في السببية وهي نظرية "التلاعب" manipulability، التي طبقا لها تُعتبر الاسباب مقابض يمكن بواسطتها التلاعب بالعالم. هذه ايضا غير مقنعة. في النهاية، اذا كانت السببية خاصية واقعية للعالم الطبيعي، عندئذ نحن نفترض ان نشاطها قائما في اماكن حيث لا توجد مقابض كما في حالة الكواكب التي لم تُزر بعد.
مع ذلك، ان فكرة الاسباب على الاقل كمقابض محتملة ليست فقط استبصار هام في طبيعة الاسباب وانما هي تنقل علاقاتنا بالعالم المادي الى الامام، وبهذا تساعدنا في رؤية طريقنا خارج سجن الطبيعة الفيزيقية المحكومة بالقوانين التي تجعل عمل الرغبة الحرة مستحيلا.
لكي نفهم هذا، نحتاج توجيه اهتمامنا بعيدا عن قوانين الطبيعة الى وسائلنا في اكتشافها، وبعد هذا، الى قدرتنا في استعمالها لخدمة اهدافنا.
الهروب من التيار
لننظر في القانون الذي اكتشفه روبرت بويل (1627-1691) والذي سمي باسمه، والذي بموجبه يكون حجم وضغط الغاز يتناسبان عكسيا: عندما يقل حجم كمية ثابتة من الغاز (كأن تكون بإنكماش وعائها)، يزداد ضغطها. وبالعكس عندما يتمدد الحجم نحو الزيادة ينخفض ضغطه. أظهر بويل هذه العلاقة عبر استغلال المتغيرات: العامل المستقل (الحجم مثلا) والعامل المعتمد (الضغط). لكن قانون بويل يصمد فقط طالما بقيت العوامل الاخرى ثابتة. عامل مهم اخر هو الحرارة الذي برز تأثيره في قانون شارلس Jacquest charles، والذي طبقا له يكون حجم كمية ثابتة من الغاز تزداد في تناسب مع زيادة الحرارة. لكن لو سألنا هل هناك علاقة بين فيزياء غرف الدراسة والرغبة الحرة؟ نعم هناك الكثير. اي تجريبي يكتشف او يختبر هذه القوانين يجب ان يتلاعب في الطبيعة من "الخارج". سنرى اهمية مفهوم "الخارج" لاحقا. كذلك نحن نستطيع في اذهاننا فصل الاشياء التي هي غير منفصلة في الطبيعة مثل المتغيرات المستقلة والمعتمدة بالاضافة الى العوامل parameters التي تبقى ثابتة. لا وجود خارج المختبر لشيء مثل حجم خالص او ضغط خالص وحرارة خالصة وانما جميعها مظاهر غير منفصلة للمادة. علاوة على ذلك، انه في المختبر تُستغل تلك المتغيرات لكي يمكن اكتشاف وإظهار القوانين والتلاعب بها.
نحن نقتنع كمسلمة بديهية اننا نستطيع استخلاص اكثر من قانون واحد من نفس المادة، فمثلا، قوانين بويل وشارلس من نفس الغاز. لكن هذه الحقيقة توضح جدالا غامضا لجس مل Js Mill في ورقة نُشرت بعد وفاته، "حول الطبيعة": "مع اننا لا نستطيع تحرير انفسنا من قوانين الطبيعة ككل، لكننا نستطيع الهروب من اي قانون معين للطبيعة لو كنا قادرين على سحب انفسنا من الظروف التي تعمل بها. مع اننا لا نستطيع عمل أي شيء عدا من خلال قوانين الطبيعة، لكننا نستطيع استعمال قانون واحد لمواجهة آخر". الظروف المُسيطر عليها في المختبر ضمن تجربتنا لكشف القانون المختلف الذي ينطبق على الغازات توفر توضيحا مثاليا عن ادّعاءات (مل) وامكانية استعمال قانون واحد للطبيعة لمواجهة آخر.
واذا كنا نستطيع استغلال قوانين الطبيعة المنفصلة اصطناعيا لكي نؤدي نتيجة معينة داخل المختبر، فنحن نستطيع استغلال هذه القوانين المستخلصة في مكان آخر ايضا. (المختبر مكان خاص لكنه غير خاص ميتافيزيقيا). الدليل باننا حقا نستغل قوانين الطبيعة هو واسع الانتشار ولاسيما في مسرح الاشياء المرتكزة على العلوم التي تجعل مواجهتنا مع العالم الطبيعي تميل لمصلحتنا. باختصار، قدرتنا غير المشكوك فيها للسير خارج قوانين الطبيعة لكي نكتشف تلك القوانين تهيء الطريق لنا لإستعمال ما اكتشفناه لإبعاد انفسنا اكثر عن الطبيعة. ذلك الابتعاد هو بالنهاية ملزم للـ "الخارج" الاصلي والذي يسهل تجاهله لأنه في كل مكان ننظر نحوه. انه ابتعاد واقعي عن النظام الفيزيائي الطبيعي المغلق سببيا والمحكوم بالقوانين، وانه متاح بواسطة الوعي الهادف – الوعي دائما بشيء ما.
ان فصل أذهاننا عن النظام السببي الفيزيائي يمكن توضيحه بسهولة عن طريق الرؤية. عندما ارى شيء، يكون لتصوري عنصرين. هناك الربط السببي الفيزيائي، المعرّض لقوانين الطبيعة بين الشيء المرئي ونظام الرؤية لدي. هذا يوضح كيفية وصول الضوء الى دماغي. انه لا يوضح العنصر الثاني للتصور او، الكيفية التي يبدو بها الغاز –قصدية تجربت- التي تحدد الشيء "هناك" او في غير المكان الذي اشغله. مسافة الرؤية والحواس الاخرى التي تعمل من خلال الاشياء المقصودة للتجربة هي اساس الـ "خارج "، الذي منه نستطيع ان نستكشف ونحقق، وبمزيد من القوة نتلاعب بالعالم.
مسارات ممكنة
هناك اثنان من التطورات يبرزان من القصدية، كل منهما يستحق التركيز بذاته. الاول هو معنى الإمكانية المتوفرة عبر القصدية. وعيي بالاشياء يتجاوز ما امارسه حاليا بشأنها: انا احدس ان هناك الكثير منها قياسا بما تكشفه حواسي. العنصر الثاني هو التوسع والتطوير لتلك البديهة من خلال ربط قصديتي بتلك الاشياء الاخرى – في عالم خُلق من خلال الاشارات واللغة. هذا الربط مع اذهان الآخرين ينسج عالما عاما غير مقيد يزخر بالإمكانات التي قد تكون او لا تكون واقعية وحتى مدركة. ذلك العالم المشترك هو ايضا متجذر مؤقتا في الماضي ويصل الى المستقبل.
ان قدرة الفرد تكمن في امتلاك الامكانات الموجودة فقط بمقدار ما هي متخيلة. الامكانات تسكن فضاءً خارج الطبيعة، منه يسعى الانسان للفعل تجاه العالم. لا توجد هناك امكانات في العالم الفيزيقي ذاته، هناك فقط ما هو كائن. لذلك فان الخيارات الكامنة خلف افعالنا ليست نتائج للأسباب المادية لأسلاف تعود الى الانفجار الكبير، ولا هي تعبيرات عن القوانين التي تعمل في الطبيعة. انها اطفال للإمكانات الذهنية المتخيلة.
كذلك اننا في استيعاب الامكانات نجد أصل التحقيق العلمي الذي من خلاله نتعلم كيف نمجّد قدرتنا على استغلال العالم. من المفارقة انه مع اكتشاف العلم للمزيد من القوانين الكونية وبمزيد من القوة المدهشة للتنبؤ، بدأنا نتصوّر ان هذه القوانين تُظهر ان حبل مشنقة الطبيعة ملتف بقوة على رقبتنا. وعكس ذلك، العلم المتنامي يمنحنا القدرة على الفعل تجاه الطبيعة من مسافات أكبر مما يتصور. انها ليست مجرد خرافة، لذلك فان أفعالنا تنشأ من لدننا، انها تحرف مسار الأحداث، واننا مسؤولين عنها.