لماذا عليّ أن أكون أخلاقيا؟
حسين علي حسين
2018-10-16 04:15
لا يُخفى أن النمط الاستهلاكي آخذا بغزو النمط السلوكي المعاصر بمعاونة من وسائل العولمة المختلفة، فأصحاب المال من شركات وقوى اقتصادية مادية النزعة تحرص على تكوين قاعدة بشرية استهلاكية قادرة على امتصاص منتجاتها المختلفة، وهذه الشركات مستعدة لعمل كل شيء من أجل صنع الإنسان الاستهلاكي، وما يؤكد ذلك، أننا نعيش اليوم في مجتمع معولم من المستهلكين، ومن المحتم أن يؤثر السلوك الاستهلاكي في كل وجوه حياتنا الأخرى، ومن تلك العمل والحياة الأسرية، كلنا اليوم تحت ضغط أن نستهلك أكثر، وعلى الطريق نصير أنفسنا سلعاً في أسواق الاستهلاك والعمل.
بنتعبير ج. ليفنغستون " يتغلغل الشكل السلعي ويعيد تشكيل أبعاد الحياة الاجتماعية المستثناة حتى ذلك الحين من منطقه إلى حد تصبح معه الذاتية نفسها سلعة تشترى وتباع في السوق بوصفها جمالا ونظافة وإخلاصا واستقلالا ذاتيا". وكما قال كولن كلمبل، إن النشاط الاستهلاكي "أصبح قالبا أو أنموذجا للطريقة التي ينظر بها المواطنون الآن في المجتمعات الغربية إلى جميع مناشطهم. بما أن ... المزيد والمزيد من قناعات المجتمع المعاصر امتُصّت في النموذج الاستهلاكي فلربما صار من غير المدهش أن الميتافيزيقيا الضمنية للنزعة الاستهلاكية صارت أثناء ذلك نوعا من الفلسفة التلقائية لكل الحياة الحديثة".
أما الكاتبة آرلي هوكستشيلد فهي تختزل "الدمار الجانبي" الأكثر تأثيرا والذي يحدث أثناء الهجوم الاستهلاكي في عبارة دقيقة وحادة هي "تمدية الحب": تعمل الاستهلاكية على الحفاظ على الانعكاس العاطفي في العمل والعائلة:
يتعرض العاملون لقصف متواصل من الاعلانات عبر معدل يومي هو ثلاث ساعات من المشاهدة التلفزيونية (هي نصف وقت راحتهم) فإنهم يقتنعون بأن يحتاجوا إلى المزيد من الأشياء. ولشراء ما يحتاجون، فإنهم يحتاجون إلى المال. ولكي يكسبوا المال، فإنهم يعملون لساعات أطول. ولكونهم بعيدين عن منازلهم لتلك الساعات العديدة، فإنهم يعوضون غيابهم عن البيت بهدايا تكلف المال. إنهم يقومون بتمدية الحب. وهكذا تستمر الدورة".
يمكننا أن نضيف أن انفصالهم الروحي وغيابهم الجسدي عن المشهد البيتي يجعل العاملين الذكور والإناث على حد سواء غير قادرين على تحمل الصراعات، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، أم تافهة إلى أقصى حد، مما يحتمه العيش تحت سقف واحد.
بينما تتوارى المهارات الضرورية للحديث والبحث عن فهم مشترك، فإن ما كان تحديا ينبغي مواجهته بقوة وأن يناقش أصبح يتحول بسرعة مبررا للأفراد قطع التواصل فيما بينهم، كي يهربوا ويحرقوا الجسور خلفهم. بانشغال الرجال والنساء بالحصول على المزيد من المال لشراء أشياء يشعرون أنهم يحتاجونها لكي يكونوا سعداء، فإنه ليس لديهم الوقت للتعاطف والحوارات المكثفة، وأحيانا الملتوية والمؤلمة والتي تحتاج دائما زمنا طويلا وتستهلك الطاقة، ناهيك عن القرارات بشأن سوء الفهم والاختلاقات فيما بينهم. ويؤدي هذا إلى تحريك دائرة جهنمية: كلما نجحوا في "تمدية" علاقات الحب فيما بينهم (كما يحثهم الدفق الإعلاني على أن يفعلوا)، قلّت الفرص التي تتبقى لديهم لإنجاز التفاهم الحميم ما بينهم، التفاهم الذي يستدعيه غموض العلاقة المزعج بين القوة والتراحم في الحب. أفراد العائلة يجدون الإغراء بأن يتفادوا المواجهة وأن يبحثوا عن فترة من الراحة ( أو ما هو أفضل، الاحتماء الدائم) من الصراع الأسري، عندئذ تكتسب النزعة إلى "تمدية" الحب وما في الحب من تراحم المزيد من التحفيز لأن مناقشات العلاقة التي تستهلك الوقت والطاقة تكون قد صارت أصعب منالا في اللحظة نفسها التي تشتد فيها الحاجة إلى ذلك العمل بسبب التنامي المتزايد لعدد الأحقاد التي يجب تخفيفها والاختلاقات التي تتطلب الحل.
بينما يوفر للمهنيين ذوي الكفاءات العالية -وهم أغلى ما لدى مدير الشركة- في الغالب مكان للعمل مصمم ليكون بديلا مناسبا للحياة المنزلية الهادئئة والمفتقدة في المنزل (كما تلاحظ هوكستشيلد، بالنسبة لهؤلاء الموظفين يغلب أن التقسيم التقليدي لأدوار العمل والأسرة تكون مقلوبة) فإن لا شيء يقدم للموظفين الأقل مرتبة، الأقل مهارة والأسهل استبدالا. إذا كانت بعض الشركات التي درستها هوكستشيلد بعمق، ومن أبرزها أميركو "توفر العالم الاشتراكي الطوباوي القديم إلى نخبة من عمال المعرفة في الطبقة العليا من سوق العمل ينقسم بشكل متزايد، فإن شركات أخرى ربما توفر بشكل متزايد أسوأ ما في الرأسمالية المبكرة إلى عمال شبه مهرة وغير مهرة". فيما يتعلق بالفئة الأخيرة، "لا توجد شبكة من الأقرباء أو الزملاء العاملين تقدم ملاذا عاطفيا للفرد وإنما هي عصابة، زملاء يشربون على زاوية الشارع أو مجموعات من ها النوع".
البحث عن الملذات الفردية الذي تفصح عنه السلع المتوفرة حاليا، وهو بحث يقاد ويعاد توجيهه وتركيزه باستمرار تقوده حملات إعلانية متوالية، يوفر البديل الوحيد المقبول (هو بالفعل محل احتياج وترحيب شديدين) أكان ذلك للتكاتف الذي يرفع معنويات زملاء العمل أم للدفء المتوهج الناتج عن تقديم العناية وتلقيها من قبل أولئك القريبين والغالين في منزل الأسرة وجيرانها الأقربين.
بغض النظر عمن يدعو إلى إعادة الحياة إلى "القيم العائلية" الغائرة الجروح –وكان جادا حول ما تعنيه دعوة كتلك- عليه أن يبدأ بالتفكير الجاد بشأن الجذور الاستهلاكية لأمرين: ذبول التكافل الاجتماعي في مكان العمل واضمحلال الدافع إلى التراحم والتارك في بيت الأسرة.
وبعد أن قضت عدة أعوام تراقب عن كثب تغير أنماط التوظيف في أكثر قطاعات الاقتصاد الأمريكي تقدما، لاحظت هوكستشيلد ووثقت أنماطا مشابهة بشكل مدهش بينها وما يحدث في فرنسا وفي أوروبا عامة مما وجده ووصفه بتفاصيل كثيرة لوك بولتانسكي وإيف تشيابيلّو على أنه "الروح الجديدة" للرأسمالية. وكان تفضيل الموظفين القوي للموظفين غير المرتبطين، المرنين، القابلين في النهاية لأن يتخلص منهم، و"العامين" (من يجيدون كل الصنائع بدلا من المتخصصين المدربين تدريبا ضيقا) هو السمة الأكثر بروزا بين الاكتشافات.
في مجتمعنا الذي يدمن التفكير، كما يقال، ليس من المحتمل أن يجد الثقة الكثير من الدعم الملموس. التحليل الهادئ لشواهد الحياة يشير إلى الاتجاه المعاكس، مظهراً باستمرار الهشاشة الدائمة في القواعد والضعف في الروابط. لكن هل يعني هذا أن قرار لوغستروب أن يستثمر أمله في أخلاق تأتي من الميل العفوي والمتأصل إلى الثقة لم يعد صحيحا بسبب الحيرة المتأصلة التي تملآ العالم في عصرنا.
من حق المرء أن يقول نعم، إن لم ير يوما أن الوازع الأخلاقي يأتي من التفكير. بالعكس، في نظره يتعلق الأمل في الأخلاق، وبكل دقيق، في العفوية التي تسبق التفكير "الرحمة عفوية لأن أقل عائق، أقل حسابات، وأقل تلوث يصيبها لكي تخدم هدفا آخر يدمرها بالكامل، بل إنه ليحولها إلى نقيضها، عدم الرحمة".
وأخيرا.......
لقد عرف عن إيمانويل لفيناس إصراره على أن السؤال "لماذا عليّ أن أكون أخلاقيا؟" (أي الجدال والاحتجاجات كما في قولهم: "ما هي مصلحتي في ذلك؟" " ماذا فعلت لي لكي أهتم بها؟" " لمَ عليّ أن أهتم، إذا كان العديد من الآخرين لا يهتمون؟" " و " ألا يمكن لشخص آخر أن يفعله بدلاً مني؟) ليس بداية للسلوك الأخلاقي وإنما هو إشارة إلى انهيار ذلك السلوك، مثلما أن كل اللاأخلاقية بدأت بسؤال قابيل "هل أنا حارس أخي؟".