أساليب الحرب الثقافية الباردة

حسين علي حسين

2018-08-18 04:50

ما من شك أن الطموحات الأمريكية لفرض هيمنتها ونموذجها أخذت بالتصاعد التدريجي واشتدَّ هذا الطموح مع بوادر تفكك المعسكر الاشتراكي الند اللدود للرأسمالية الأمريكية، وبدأت الدوائر المعنية بالتخطيط لسياسة وأهداف أمريكا تخطط لمرحلة ما بعد الحرب الباردة وكيفية نشر وفرض الثقافة الأمريكية على العالم، في هذا الإطار يقول محمد حوات ما أن بدأت مؤشرات فشل إصلاحات غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي تلوح في الأفق في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي حتى سارعت الإدارة الأمريكية إلى رسم الخطط ووضع الإستراتيجيات لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، فكانت الأولوية في المخطط الأمريكي هو إخضاع شعوب العالم إلى عملية غسيل مخ مكثفة تمسح كل ما بقي عالقا من مبادئ وأيديولوجيات العهد القديم (الاشتراكية) مستخدمة في ذلك آليات الهيمنة للترويج لتعميم الحياة الفردية والحرية الإباحية وحرية التجارة والتملك في الغرب. وكانت الكاتبة البريطانية (فرانسيس ستونز) قد ألّفت كتابا بعنوان " المخابرات الأمريكية والحرب الثقافية الباردة: حيث كشفت فيه أن المخابرات الأمريكية قد خططت لكي تكون هي نفسها وزارة ثقافة العالم، وقد اعتبروا هذا المخطط هو المشروع التالي بل والأهم من مشروع "مارشال" الشهير، وبهذا المشروع تمكنت المخابرات الأمريكية من أن تجعل من نفسها وزارة ثقافة العالم فأصبحت تفرض سطوتها على الأدب، الفن، الموسيقى، السينما... وقد مارست ذلك دون أن يشعر الرأي العام بشيء.

فقد كان الأمريكيون إذن يخططون لهذه الهيمنة قبل إعلان بوش (الأب) النظام العالمي الجديد، وقيادة أمريكا للعالم واعتبار هذا القرن: القرن الأمريكي، فهو طموح قديم للولايات المتحدة، حيث قال الرئيس الأمريكي غروفر كليفلاند (1893): " إن دور أمريكا الخلاق هو تحضير (من حضارة) العالم ليصبح أمة واحدة تتكلم لغة واحدة". وعبر عن هذا الطموح فيما بعد بالنظام العالمي الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. من جهته ما فتئ تيودور روزفلت يكرر مقولته المحببة في كل المحافل والمناسبات الدولية وغير الدولية: " قدرنا هو أمركة العالم، فتكلموا بهدوء، عندئذ يمكنكم أن تتوغلوا بعيدا".

وعندما كان هذا النظام العالمي الجديد في المخاض جاء تصريح ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي السابق: " على أمريكا مسؤولية قيادة العالم، وعلى العالم أن يسعد بهذه القيادة فالنموذج الأمريكي هو النموذج الأفضل، بالإضافة إلى قوله: " إن الله إلى جانب أمريكا، الله يريد من أمريكا أن تقود العالم".

الرئيس جيفرسون بدوره قال: " شعب أمريكا هو الشعب المختار عند الله ".

وقال بيل كلنتون: بعد أن نضج هذا النظام وأصبح حقيقة بارزة: " يجب علينا أن نتابع رسالتنا التاريخية... فإن محافظة الولايات المتحدة على صدارتها العالمية هو من أجل خير هذا العالم والدفاع عن الديمقراطية والملكية الخاصة والسوق الحرة"، وكان مستشار الرئيس الأمريكي كلينتون: أنطوني لايك قد عبّر عن عصر الهيمنة الأمريكية حيث وصفه بالعالم الجديد الذي ستواصل فيه أمريكا رسالتها التاريخية لدرء الظلم والدفاع عن الحرية والعدالة في مواجهة الأعداء المتبقين في هذا المجتمع المتسامح الذي ما زلنا ننذر أنفسنا من أجله، والذي بعدما نجحنا في عملية الاحتواء نعمل على توسيعه".

ولأن أي مشروع سياسي له أبعاده ومتطلباته ومقتضيات تمريره على الصعيد الثقافي، وكما أن كل مشروع للاقتصاد السياسي يستدعي ثقافته الرديفة وإعلامه المساند، ولأن أخطر محور من محاور البناء الاجتماعي هو محور الثقافة الذي يمثل البناء الأساس للمجتمع والفرد، ولا يمكن لأي محور – مهما تكامل مع غيره- أن يعوض البناء الفكري والعلمي في ثقافة الفرد كونه هو من يشكل إنسانية الإنسان بكل أبعادها: الفكرية، الأخلاقية، الدينية والاجتماعية.

يعود الباحث الأمريكي دافيد روثكوف ليضع تصورا للسياسة الأمريكية حيث يرى: " أن المصلحة العامة للولايات المتحدة أن تشجع عالما يتم فيه تجاوز حدود التصادمات التي تفصل بين الأمم عبر المصالح المشتركة، ومن المصلحة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة أن يتحرك العالم باتجاه لغة مشتركة، فإن هذه اللغة ستكون الانجليزية، وإن العالم إذا كان سيتحرك باتجاه معايير مشتركة في مجالات الاتصال والأمان والنوعية فستكون هذه المعايير معايير أمريكية، وأن العالم إذا كان سيصبح مرتبطا من خلال الإذاعة والتلفزيون فإن البرامج ستكون أمريكية، وإذا كان يجري تطور قيم مشتركة فإنها ستكون بالتأكيد قيماً يرتاح لها الأمريكيون".

وقبله عبر الرئيس نيكسون في كتابه (الانتصار دون حروب) سنة 1988 عن هذه السياسة بقوله: " إذا أرادت أمريكا أن تكون زعيمة العالم فعليها أن تنشر القيم الأمريكية".

أما بريزينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر: فيرى أن أمريكا أصبحت هي الجاذب الثقافي والعلمي الوحيد، ولا يتردد في استعارة " الثورة الثقافية" من ماوتسي تونغ ليصف الهيمنة الأمريكية حيث يقول: الثورة الثقافية والسلوكيات الجنسية والأذواق والتطلعات المادية للأجيال الشابة، وذلك على مستوى الكرة الأرضية تقريبا، هذه الأجيال خاصة التي تعيش في المدن تتقاسم نفس الرغبات، نفس التسليات ونفس ردود الفعل رغم التفاوت المادي المعتبر حسب البلدان والمستويات، إلا أن 2.7 مليار من البشر والذين تتراوح أعمارهم بين 10 -34 سنة يُظهرون تشابها واضحا في اهتماماتهم بآخر الأقراص المضغوطة (cd) وانبهارهم بالأفلام والمسلسلات الأمريكية، وانجذابهم لموسيقى الروك وألعاب الفديو وسراويل الجينز، حتى في حالة التكيف مع التقاليد المحلية فإن رسالة الثقافة الشعبية الأمريكية تبقى حاضرة".

وقد حاول مصطفى حجازي تفسير ذلك حيث يقول أن الأيديولوجية الضمنية للثقافة الأمريكية إنما تتمثل في الترويج من خلال وسائل الإعلام إلى جملة من الأنشطة الثقافية التي تهدف إلى قولبة وتنميط الجمهور عموما والشباب خصوصا، ويهدف هذا التنميط إلى التعميم كنموذج كوني على جميع الأقطار وبدرجات متفاوتة الشدة، ولعل أبرز مثال على ذلك هو التنميط الراهن على الشباب من خلال المظهر، السلوكيات والتفصيلات: الجينز، T. shirt، الأحذية شبه الرياضية، قصات الشعر... إتباع موضة صارت عالمية، وتشكل سوقا تجارية لا يستهان بها: موسيقى الديسكو، نجوم الرقص، الوجبات السريعة من سلاسل ماكدونالد وغيرها، البيبسي كولا... هذا التنميط على مستوى المظهر أصبح يشكل مكونا أساسيا من ملامح وسمات صورة الشباب التي تمارس ضغطا كبيرا على الأجيال الطالعة لإتباعها على اختلاف درجات الانخراط فيها، ذلك أنها تقدَّم باعتبارها النموذج المثالي للشباب المعاصر المنفتح على الدنيا، إنها تمثل الثقافة النوعية للشباب، يجد تميزه وهويته من خلالها، وبالتالي فليس من اليسر – حسبه- مقاومتها وعدم الانتماء إليها فكما يُقال " إذا أنت لم تُجارِ التيار فلست من شباب اليوم".

وتضيف إيناس علي على أن خطورة هذا الترويج الأعمى لثقافة الغرب وأنماط حياته تزداد يوما بعد يوم ".. فالشباب ذو قبعة الكاوبوي لابد له من Girl friend، والبنت المدللة الهاتكة لسترها لابد لها من Boy friend "، ولعل حجم المشكلة – تضيف إيناس- يزداد عندما تعلم الإقبال الشديد لدى الشباب على الأغاني الغربية التي أفردت لها بعض المحطات قنواتا خاصة تبثها على مدار الساعة.. لتشغل بالهم، وتقيد خيالاتهم في التقليد الأعمى لها، وتتبع أخبارهم التافهة وحركاتهم الشاذة".

هذه العالمية ومعها التغريب كأداة ووسيلة ومدخل أيديولوجي رغم دلالاتها الشمولية والتماثلية، فهي تعمل باستمرار على تعميق الحد الفاصل بين العوالم والثقافات على الشكل الذي يكون فيه الغرب دوما هو "الغالب"، "المتفوّق"، "المركز"، "السيد"، "المتقدم"، مقابل آخر هو دوماً وأبداً "الضعيف"، "الدوني"، "البربري"، "المتوحش"، " المتخلف"، وفي النهاية "التابع" بكل أشكال وصور التبعية المطلقة، الخضوع التام، الربط والإلحاق وعلى كافة الأصعدة.

.............................................................................................................
* هذا المقال ملخص لأهم الأفكار العصرية من كتاب الإعلام الفضائي والتغريب الثقافي للكاتبة لمياء طالة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي