كيف صنعت الثقافة ذهن الانسان؟
حاتم حميد محسن
2017-08-17 04:30
الذكاء، اللغة، التعاون، التكنلوجيا هي ليست استجابات متكيفة للظروف الخارجية، بل ان الانسان هو كائن مستقل فيما يقوم به. لم تكن النشاطات المتعلمة المنقولة اجتماعيا من اسلافنا هي نتيجة للمناخ والكائنات المفترسة والأمراض كعوامل خلقت الظروف التي في ظلها تطور الذكاء، بل ان الذهن الانساني لم يتأسس فقط لأجل الثقافة وانما بُني بواسطتها.
الكاتب لالاند وهو عالم اعصاب تطوري وصف الثقافة في كتابه الجديد (سمفونية دارون التي لم تنته: كيف صنعت الثقافة ذهن الانسان) (1)، كانت مهمته السعي لفهم الكيفية التي طور بها الانسان قدرات ذهنية تتجاوز قدرات الكائنات الاخرى.
محتويات الكتاب:
الجزء الاول: اصول الثقافة
1- سمفونية دارون التي لم تنته
2- الاستنساخ الغامض
3- لماذا نستنسخ؟
4- قصة سمكتين
5- اصل الابداع
الجزء الثاني: تطور الذهن
6- تطور الذكاء
7- الولاء العالي
8- لماذا نحن فقط نمتلك لغة
9- التطور الجيني-الثقافي المشترك
10 فجر الحضارة
11- اسس التعاون
12- الفنون
يرى تيلر كوين بان الفهم الصحيح للعلاقة بين الثقافة والسلوك الاقتصادي هو "المشكلة التي لم تُحل وهو القضية الاكثر اهمية في الاقتصاد وفي العلوم الاجتماعية". لازلنا نكافح لأجل تعريف الثقافة، ونتذكر تعريف جويل موكير لها:
هي مجموعة من العقائد والقيم والافضليات القادرة على التأثير في السلوك الذي ينتقل اجتماعيا وليس وراثيا والذي تتقاسمه بعض الفئات الفرعية للمجتمع.
اما جوزيف هينرش الذي يتداخل عمله مع لالاند فقد كتب:
الثقافة هي ذلك الهيكل الكبير من الممارسات والتكنلوجيا وطرق حل المشاكل والادوات والمحفزات والقيم والعقائد التي نكتسبها جميعنا اثناء النمو، اغلبها عبر التعلم من الناس الآخرين.
يذكر لالاند:
اعني بـ "الثقافة" التراكم المكثف للمعرفة المكتسبة المتقاسمة، والتحسن المتكرر في التكنلوجيا بمرور الزمن. نجاح الانسانية يُعزى احيانا الى ذكائنا لكن الثقافة في الواقع هي التي تجعلنا اذكياء. الذكاء ليس بعيد الصلة وانما منْ يقرر نوعنا هو المقدرة على استثمار فهمنا ومعرفتنا والبناء على كل واحد من الحلول الاخرى. وهناك من يعرّف الثقافة كفكر منقول اجتماعيا ونماذج ونزعات سلوكية. هذا يترك جانبا التجليات المادية للثقافة كالأدوات والتكنلوجيا التي تضمنتها تعريفات لالاند وهيرنش. ان الادوات والتكنلوجيا يعتبرهما البعض كظاهرة متميزة عن الثقافة رغم انهما يساعدان في رسم صورة الثقافة ومنتجاتها.
تعريف لالاند يؤكد على الطبيعة التراكمية للثقافة وهو يجادل ان هذا هو ما يجعل الانسان مختلفا. وفيما يتعلق بالمخلوقات الاخرى التي تتقاسم المعرفة، مثلما يحصل عندما يدرّب ابوا الحيوان ذريتهما على الصيد، فان هذه المعرفة محددة وثابتة. في حيوانات اخرى يختفي الابتكار لأن الحيوانات غير قادرة على تسجيل نتائج الابتكار ونقلها للآخرين.
لماذا هناك فقط نوع واحد على الارض يطور ثقافة تراكمية؟ لماذا لا توجد هناك انواع وسيطة لديها ثقافة اقل مما لدينا؟ (بالطبع احد الاحتمالات هو ان جميع الانواع الوسيطة اصبحت منقرضة حالما سيطر عليها الانسان).
يكتب المؤلف:
في هذا يكمن التحدي الكبير... هو معرفة كيف تطورت مقدرة الانسان الاستثنائية والمتفردة في الثقافة من اصول قديمة... نحن يجب اولا ان نفهم لماذا تقلد الحيوانات غيرها دائما... الظروف التي تقود الى تطور القدرات على الابتكار والتعلم والتعاون والامتثال يجب ان تتأسس دائما. ايضا من المهم جدا معرفة كيف ولماذا اخترع الانسان اللغة... اخيرا، وهو الأهم، نحتاج لاستيعاب كيف تفاعلت جميع هذه العمليات والقدرات مع بعضها لتشكيل اجسامنا واذهاننا (لالاند ص 10-11)
يرى لالاند ان الاختلاف الوراثي بين الانسان والانواع الاخرى هو كبير. من بين عينات الجينات التي تختلف بين الانسان والشمبانزي تتمثل بالاختلاف الكبير في الدماغ والاعصاب. الجينات المعبر عنها في الدماغ كانت عرضة لاختيار ايجابي قوي في سلالة الانسان القديم، حيث ان اكثر من 90% من هذا الجين يزداد نشاطه في تلك السلالة قياسا الى الشمبانزي... دماغ الانسان اكبر حجما من دماغ الشمبانزي بثلاث مرات... في الانسان القديم، تضاعف حجم الدماغ اربع مرات في الثلاثة ملايين سنة الماضية. يعتقد لالاند ان هذا يعود للتغذية الايجابية بين الثقافة والتطور.
التقليد مقابل التعلّم
ان التقليد له نتائج مثمرة لأن الافراد الاخرين يقومون بتنقية السلوك فيوفرون معلومات متكيفة جاهزة للاستنساخ... الحيوان لايحتاج ليكون ذكيا ليستفيد من الاستنساخ لأن الكثير من القرارات الذكية جرى اتخاذها سلفا لأجله من جانب الافراد المستنسخين الذين قاموا سلفا بتنقية سلوكهم... ذلك يوضح سبب الانتشار الواسع للاستنساخ في الطبيعة (ص70-71).
الاستنساخ الواسع يساعد في ابطاء السرعة التي يدخل بها السلوك الجديد. انه ايضا يسمح بالسلوك للمرور للأجيال اللاحقة وهو ما يحفظ السلوك من الضياع. يرى لالاند ان هذا التأثير الايجابي يميل للتفوق على الاثر السلبي للابتكار البطيء. لكي نتجنب الضياع في معرفة السلوك لابد ان يكون الاستنساخ دقيقا بما يكفي.
ان زيادة صغيرة في الولاء للتعليم الاجتماعي سوف تنقل العادات الثقافية من كونها قصيرة الاجل الى شيء خالد (ص151). النماذج الرياضية ترى ان التراكم في الثقافة يعتمد جذريا على تقليل الخسارة في الخصائص والذي يعني زيادة الولاء في الاستنساخ.
العديد من الحيوانات تقلد سلوك الحيوانات الاخرى، لكن الانسان القديم ادّى ذلك بشكل أفضل من الحيوانات الاخرى. هذا سمح لتلك السلوكيات ان تبقى لدى السكان لفترة اطول والذي بدوره سمح للناس لتحسين تلك السلوكيات ببطء. هذا يفسر كيف ان الابتكار حدث عموما ليس على شكل انفجار كبير في ابتكار الفرد وانما على شكل خطوات صغيرة قام بها مختلف الناس بمرور الزمن. لذا حالما تطورت ثقافتنا المعقدة فانها اصبحت قوة اختيارية قادت التطور في اجسامنا وادمغتنا واذهاننا. لاننا حالما طورنا ثقافة معقدة، فاننا احتجنا لتطوير آليات للحفاظ عليها.
التعليم سمح وعزز تطور الثقافة عبر دمج مجموعة من خاصيتين متفردتين للانسان: التعاون واللغة. الشمبانزي يستطيع تعليم شمبانزي آخر كيفية اخراج النمل من الفجوات باستعمال العصي ولكنه لم يستطع تطوير ذلك الى تكنلوجيا بسيطة. تكنلوجيته توقفت عند هذه المرحلة البسيطة.
اللغة هي سبب اساسي لذلك. انها تسمح لنا ان ننقل للآخرين اشياء غير مرئية واشياء مجردة تحدث في مختلف الاماكن والاوقات – حتى الاشياء التي تحدث في اذهاننا فقط. معظم الاتصالات بين الحيوانات هي من نوع "إحترس من ذلك النمر"، او تخلّ عن الموز، انها تتعامل مع الحاجات المادية الملحة. الحيوانات لاتناقش ميكانيكا الكوانتم او فنون الرسم او نظرية الذهن، انها لاتناقش اي شيء غير موجود في الوقت الحاضر. اللغة ترسم الطريقة التي نفكر بها، انها تساعدنا في التفكير المعقد. الحيوانات ليست بحاجة لذلك طالما ثقافاتها لم تصبح معقدة بما يكفي لتتطلب رموزا لغوية للنقل.
يعرض المؤلف ادلة على نظرية التأثير الثقافي مستعملا نماذج رياضية وبرامج كومبيوترية. مساهماته كانت إدراك ان الشرارة التي انطلقت منها الاشياء كان الابتكار في تقنيات إعداد الغذاء التي سمحت لنا بالحصول على مزيد من الطاقة من الطعام. الغذاء الأكثر كفاءة سمح بنمو الدماغ واتساع سنوات الحياة ونمو السكان. هذه بدورها مكّنت المزيد من الابتكارات التكنلوجية، لأن كل من الناس والتكنلوجيا يبقون في حالة استقرار كافية لصنع الابتكار. وبهذا فان اللغة تطورت كأحسن طريقة لتعليم الابتكارات، وهو ما ادّى الى تطوّر دماغ كبير لتعلّم اللغة.
ان كتاب لالاند أثار عددا من القضايا الاخرى الهامة:
1- المؤلف استخدم النماذج الرياضية وتمارين المحاكاة والتجارب والملاحظات بطريقة اكثر اقناعا مما هو متّبع في العلوم الاجتماعية. من المفيد جدا للاقتصاديين قراءة هذا الكتاب لكي يتحفزوا للتفكير في كيفية تحسين طرق البحث.
2- اهمية الولاء والاستمرارية في الاستنساخ يشير الى ان تقدم الانسان يجب ان يرتبط بطرق الاستنساخ المتوفرة. فمثلا، اختراع الكتابة يساعد في الحفاظ على المعرفة من الضياع، وهذا ربما شكّل عاملا في ظهور الزراعة. الطباعة أنتجت قفزة اخرى في المقدرة على الاستنساخ وهذا كان سببا في الثورة الصناعية. اخيرا، تطوير الكومبيوتر والاتصالات التكنلوجية خلق قفزة اخرى في التقدم الانساني.
3- اذا كانت فوائد الاستنساخ للفرد واضحة، فان المنافع والتكاليف الاجتماعية قد تختلف من وقت الى آخر. هناك اوقات يبدو فيها سلوك الانسان في الاستنساخ يعمل جيدا في المدى القصير لكنه مؤذي في المدى البعيد. هناك فترات يحتاج فيها كل فرد لتحمّل المخاطرة والكلفة العالية للانخراط في التعلم الاجتماعي، لكن المجتمع ككل يحتاج الكثير من الابتكارات لكي يحل المشاكل الصعبة مثل الركود العميق.