من أوراق الموتى

فهيمة رضا

2017-01-31 07:07

وأخيراً وصلت الى تلك المحطة التي طالما تكلمت عنها.. إذ كان يلمِّح لي بعضهم بقانون الجذب.. وإن ما يفكر المرء به سيحدث.. لكنني لم أأخذ تلك الفكرة على محمل الجد.. وهكذا هو الحال في تعاملي مع كل الأمور.

كلما كان يسألني أحدهم عن أحوالي.. أرد عليه قائلةً: أحتاج إلى الطمأنينة من شيء اسمهُ الموت! وكان ينصحني بعضهم بنصائح لا أعرف ماذا أقول عنها.. ليس أنا فقط بل هو أيضا لا يعرف الردّ المناسب عليها!.. بينما كان يبتعد بعضهم الآخر عني، كي لا يُصاب بالكآبة التي كنت مصابة بها!.

لطالما فكرت بأن أغير حياتي ولكن بات الأمر غير مجدٍ معي.. لأن اليأس كان منتشرا في خلايا عقلي.. وعندما يكون العقل مريضا، لا يجدي أي نوع من العلاج سوى جرعات من الصدمة أو التنبيه!.

كنت كصندوق أسود ثقيل، لا أحمل في نفسي سوى الرماد، رماد الخيبة! وكلما اقترب مني أحدهم، كنت أبدأ بفتح باب الصندوق كي لا يمر أحدهم دون عطاء مني !ولكن لم أعرف بأن الناس يعانون أيضا مع أنفسهم كي يبتعدوا عن واقعهم المؤلم، ولا يريدون أن تزداد حياتهم قسوة وتشاؤما..

بعد لحظات من جلوسهم عندي وسماع كلمات.. لم أَجِد سوى نفسي وحظي العاثر.. ومع امتلاكي لكل شيء كنت غير سعيدة بتاتا لأنني لم أعرف معنى السعادة أبدا..

ربما كنت رأساً بلا جسد أو بالأحرى جسداً بلا رأس.. لأنني في حياتي لم أفكر بما أمتلك أو بما أريد أو بما أودّ أن أكون في المستقبل! منذ نعومة أظفاري تعلمت أن أحصل على أي شيء أريده من دون أية متاعب.. كنت أشبه تلك الفتاة التي حصلت في عيد ميلادها العشرين على مبلغ ضخم من والديها.. وبعد أسبوع وجدوها منتحرة وجنبها رسالة قد كتبت فيها:(أبي، أمي، لقد قدمتا لي كل شيء ولكن لم تعلماني كيف أكون سعيدة بها!).

يا ترى لماذا عندما نريد شيئا ونسعى للحصول عليه.. نفكر بأننا لو حققنا ذلك سوف نكون في قمة السعادة؟

بعد ذلك نجد أنفسنا في نفس المكان حيث اللاشيء !نندب أحلامنا ولا نعرف من السعادة سوى كلمة في قاموس الكتب؟!

بينما كنت غارقة في بحر اليأس شعرت بدوار شديد.. في البداية لم أهتم بذلك، لأنني وبكل قوة كنت أرحّب بالموت حتى أنتهي من هذا العيش المؤلم، دوار بلا نهاية.. نفس الروتين.. نفس الأشياء لا لون سوى الرمادي! بعد مدة شعرت بضعف في بصري.. كأن أحلامي كانت في طريقها كي تصبح حقيقة !.

انتابني شعور غريب ..بعد أن اقترب الخيال الى الواقع.. شعرت بخوف بسيط.. كنت في بداية الطريق ولم أعرف ما ينتظرني في نهاية المطاف.. كأن الكون أراد أن ينتقم مني، في البداية منح لي كل شيء والآن أصبح يسلب مني كل شيء ولكن بسرعة فائقة .

معادلة عادلة.. كل صوت يخرج منك سوف يرجع لك !....

كلما مضت الأيام سلبت مني شيئا تمنيت لو أنه يعود الى سمعي كما سمعته في أول مرة، لكي أسمع نصائح والديّ بشغف، ولكن عندما فقدت حاسة السمع الآن.. بدأت أشعر برغبتي الشديد تجاه هذه الأمور.. كنت أتمنى ان أرى ما يحدث حولي من جديد.. ولكن لم أرَ سوى جسد يقترب لي دون أن أميز من هو! ولم أشعر بشيء سوى شبح الموت الذي كان يقترب مني أكثر فأكثر.

أثَّر المرض على جميع حواسي واحدة تلو الأخرى ...

لذلك لم يكن هناك فارق بين أن أأكل الخبز أو اللحم اللذيذ، الاثنان لهما الطعم نفسه، ولكن ربما كان من الأفضل أن أأكل طعاما يسهل عليَّ هضمه كي لا يقشعر الآخرون من رؤية منظري المقرف، لأنني أصبحت في عنفوان العمر كرجل ستيني أو أكبر.. لا أملك أسناناً حتى أأكل، ولا عينا حتى أرى، ولا أذنا حتى أسمع، به ولكن بدأت أرى أشياء عجيبة وغريبة لم أشعر بها طوال حياتي.. إنني بدأت أشعر بالسعادة ! لأنني صرتُ على اطمئنان من قرب الموت.. ربما هذا يثير السخرية مني، وقد تتساءلون.. كيف يمكن ذلك؟

لكنني أقول، نحن لا يعرف قيمة الأشياء إلا بعد أن نفقدها!

ربما فقدت بصري ولكن أصبحت املك بصيرة، كنت أعرف بأنني أوشكت على الوصول الى نهاية الطريق، ولكن تغيرت المعادلة الآن، كنت في البداية أتمنى الوصول.. أما الآن فقد صرتُ أتمنى أن أتأخر أكثر.. ربما تعرفت الآن على طعم السعادة.. ولكن ليس باستطاعتي أن أتذوقها.. لأنني فقدت كل ما أملك وبعد أيام سيُغلق كتاب حياتي!.

لطالما تكلمت عن اليأس.. الآن وصلت الى تلك المحطة لأعرف أنني لا زلت أمتلك ساعات كي أغير حياتي ...لحظات من الصمت هزتني بعنف.. كانت لحظة انطلاقي الى الرشد والصلاح.. وفعلت بي ما لم تفعل سنين طويلة !

حركتني والدتي ما بك ما بك؟ جاء دوري كي أدخل الى الطبيب.. خذي حقيبتي من فضلك.. عدت الى واقعي.. كأنني كنت في رحلة عجيبة.. للحظات تخيلت أن أكون بدل ذلك العجوز الذي يجلس أمامي الآن.. لقد كان مقاربا لعمري.. كان في موقف محرج إذ لا يمكنه أن يمسح لعاب فمه عن شفتيه لأن يديه بلا إحساس تقريبا.

أخذ الجميع ينظر إليه برأفة وألم وعطف كبير.. منظره كان مؤلما.. أنا أيضا كنت من بين الناظرين له.. ورحلت بعيدا جدا ...

ذات مرة قالت لي والدتي: عندما يبتلي أحدهم بمرض ما، فهذا لا يمثل اختبارا له فقط، بل هو امتحان لمن حوله أيضا.. كيف يهتمون به وهل يصبرون عليه وماذا سيقولون وكيف يتعاملون معه؟! تألمتُ من هذا الموقف وكنت في حالة دهشة وإحراج شديد، وعشت دقائق بدلا عنه.. وتألمت إلى حد كبير وتساءلت في سرّي: كيف به يحتمل كل هذه الآلام المريرة؟!.

عندما أوشكت على الضياع بحث عن نفسي وبالفعل أيقنتُ بأنني موجودة ...

قبلتُ يديّ والدتي ودموع السعادة تنهمر من عيني.. فالسعادة هي السلامة التي لا نعرف قيمتها.. حقا هما (نعمتان مجهولتان.. الصحة والأمان).. كما قال أمير الكلام وسيد البلغاء الإمام علي (ع).

ففي الوقت الذي نتمنى فيه الموت.. هناك أناس يتحمَّلون آلام مئات الحقنات والحبوب كي يبقوا لساعات أخرى مع أحبتهم.. لكننا نمر من جنبهم دون رحمة !وعندما نتمنى الموت هناك من يتمنى أن يعود الى الحياة كي يدوّنَ كتاب حياته من جديد (رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت) ولكن نحن نقتل ساعاتنا دون رحمة!.

أخيرا السعادة هي أن نغتنم خمسا قبل خمس كما قال النبي (ص): اغتنم خمسا قبل خمس (حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك).

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا