مرشّح التسوية: حين يتحوّل العجز السياسي إلى آلية حكم
محمد عبد الجبار الشبوط
2025-12-30 05:21
يظهر مفهوم مرشّح التسوية في الأنظمة السياسية المأزومة بوصفه نتيجة مباشرة لفشل القوى المتنافسة في الاتفاق على قيادة قوية قادرة على إدارة الدولة. هذا المرشّح لا يُختار لأنه الأفضل أو الأكفأ أو الأكثر امتلاكًا لرؤية وطنية، بل لأنه الأقل إزعاجًا، والأضعف تأثيرًا، والأكثر قابلية للقبول من الجميع في آن واحد، أي لأنه لا يمثّل تهديدًا حقيقيًا لأي طرف من الأطراف المتصارعة.
مرشّح التسوية ليس تعبيرًا عن توافق ناضج، بل عن توازن ضعف. فحين تعجز القوى السياسية عن فرض مرشّحيها الأقوياء، وحين تخشى في الوقت نفسه من قبول مرشّح الطرف الآخر، تلجأ إلى خيار ثالث يقوم على تفريغ المنصب من مضمونه القيادي وتحويله إلى مساحة محايدة لإدارة الصراع بدل حسمه. وهكذا يصبح المنصب التنفيذي الأعلى أداة لتهدئة الخصومات لا لبناء الدولة.
الخصائص البنيوية لمرشّح التسوية
يتسم مرشّح التسوية بعدد من السمات المتكررة التي تكاد تكون بنيوية في سياق الأنظمة التوافقية الهشّة:
أولًا، ضعف الشرعية السياسية، إذ لا يستند هذا المرشّح إلى تفويض شعبي واضح أو مشروع وطني جامع، بل إلى تفاهمات مغلقة بين قوى متنافسة، ما يجعله معزولًا عن المجتمع ومرتبطًا بالنخب التي جاءت به.
ثانيًا، غياب المشروع، فوجود رؤية إصلاحية حقيقية يعني بالضرورة الاصطدام بإحدى القوى الداعمة، لذلك يميل مرشّح التسوية إلى الاكتفاء بشعارات عامة ولغة رمادية خالية من الالتزامات الصلبة.
ثالثًا، قابلية الابتزاز السياسي، لأن المرشّح لا يمتلك قاعدة قوة مستقلة، فيصبح خاضعًا لضغوط مستمرة من الأطراف التي رشّحته، ويتحوّل كل قرار إلى نتيجة مساومات لا إلى تعبير عن سلطة الدولة.
رابعًا، الإدارة بدل القيادة، حيث ينحصر دوره في إدارة الأزمات وتأجيل الانفجارات بدل معالجة جذور المشكلات، فيتحوّل الحكم إلى حالة انتظار دائم.
خامسًا، أولوية البقاء على حساب الإنجاز، إذ يصبح الحفاظ على التوازنات السياسية التي أوصلته إلى المنصب أهم من تحقيق أي تغيير فعلي قد يهدد تلك التوازنات.
لماذا يُعاد إنتاج مرشّح التسوية؟
السبب الجوهري ليس غياب الأفراد الأكفاء، بل غياب الإطار السياسي (ولا اقصد الاطار التنسيقي طبعا) الذي يسمح بظهور قيادة حقيقية. في الأنظمة التي تكون فيها القوى السياسية أقوى من الدولة، يصبح الخوف المتبادل بين الأطراف أعلى من الخوف على مصير الدولة نفسها. وهكذا يُكافأ التعطيل، ويُعاقب الحسم، ويُعاد إنتاج مرشّح التسوية بوصفه الخيار الأقل كلفة على النفوذ، وإن كان الأعلى كلفة على المجتمع.
مرشّح التسوية مقابل مرشّح الدولة
يختلف مرشّح الدولة جذريًا عن مرشّح التسوية من حيث المنطلق والوظيفة والدور. مرشّح الدولة هو نتاج تصور واضح للدولة بوصفها كيانًا أعلى من القوى، وليس ساحة لتقاسمها. يأتي هذا المرشّح محمّلًا بمشروع، لا بتفويض غامض، وبمسؤولية قيادة، لا بمجرد إدارة مؤقتة.
مرشّح الدولة يمتلك شرعية تستند إلى برنامج واضح، وقابلية على اتخاذ قرارات صعبة، واستقلالية نسبية عن مراكز النفوذ، لأنه يستمد قوته من موقع الدولة لا من توازنات ما قبل الدولة. في حين أن مرشّح التسوية يستمد وجوده من خوف الأطراف من بعضها، يستمد مرشّح الدولة وجوده من الحاجة إلى بناء نظام مستقر قادر على الاستمرار.
ماذا يحصل في الدولة الحضارية الحديثة (د ح ح)؟
في الدولة الحضارية الحديثة، لا يظهر مفهوم مرشّح التسوية أصلًا، لأن بنية النظام السياسي نفسها لا تسمح بأن يكون ضعف القيادة شرطًا للتوافق. فالدولة الحضارية الحديثة تقوم على أولوية القيم العليا، ووضوح الوظائف، وفصل المصالح عن القرار السيادي، وربط المنصب بالمسؤولية لا بالمحاصصة.
في هذا النموذج، يُختار رأس السلطة التنفيذية بوصفه مرشّح الدولة، أي الشخص الأكثر قدرة على تجسيد القيم الحضارية في الحكم، والأكثر كفاءة في إدارة المؤسسات، والأوضح في مشروعه، والأكثر خضوعًا للمساءلة. التوافق هنا لا يتم على شخص ضعيف، بل على قواعد قوية، وعلى آليات تضمن تداول السلطة، وتمنع احتكارها، وتُخضع الجميع لقانون واحد.
في الدولة الحضارية الحديثة، لا تُحلّ الأزمات بتجميدها، بل بتفكيك أسبابها، ولا يُدار الصراع بتدويره داخل السلطة، بل بتحويله إلى تنافس مشروع داخل أطر دستورية وقيمية واضحة. لذلك ينتفي دور مرشّح التسوية، لأنه يصبح غير صالح في نظام يكافئ الكفاءة والوضوح والمسؤولية.
خاتمة
مرشّح التسوية ليس حلًّا سياسيًا، بل مؤشر على اختلال عميق في علاقة القوى بالدولة. وهو علامة على أن المنصب التنفيذي الأعلى تحوّل من أداة بناء إلى أداة احتواء مؤقت. أما الانتقال إلى مرشّح الدولة، فلا يتم بتغيير الأشخاص فقط، بل بتغيير المنطق الذي تُدار به السياسة، وبناء دولة تجعل القوة في خدمتها، لا تجعلها رهينة لها. في هذا التحول فقط، يمكن أن تنتهي مرحلة التسويات، وتبدأ مرحلة الحكم الحقيقي.