العراق في سياق الشرق الأوسط والسياسة الأمريكية: قراءة تحليلية

علي الطالقاني

2025-12-11 04:42

يمثل العراق أحد أهم المحاور الجيوسياسية في الشرق الأوسط نظراً لموقعه الاستراتيجي وموارده الطبيعية وتشابك تركيبته السياسية. ومنذ عام 2003 دخل البلد في سلسلة من التحولات العميقة التي أثرت في طبيعة الدولة والعلاقات الإقليمية ومسار السياسة الأمريكية في المنطقة. 

تهدف هذه الورقة إلى تحليل الوضع الداخلي في العراق، وبيان أدوار الأطراف الإقليمية - ولا سيما إيران وتركيا ودول الخليج-، وقراءة اتجاهات السياسة الأمريكية تجاه العراق ضمن منظور الشرق الأوسط المتغير، مع تقديم تحديثات تحليلية. 

تسعى الورقة للإجابة على سؤال مركزي: كيف يمكن للعراق، في ظل هشاشته الداخلية وتقاطع النفوذ الإقليمي والدولي، أن يحول نفسه من ساحة صراع مفتوحة إلى لاعب مستقر وفاعل في معادلة المنطقة؟

أولاً: المشهد الداخلي في العراق

أ‌. الهشاشة السياسية وبنية الحكم. على الرغم من التغييرات الدستورية والانتخابية، وبرغم ما نشهده من "الاستقرار الهش" لا تزال المؤسسات العراقية تعاني من ضعف القدرة على فرض سيادة القانون والحد من نفوذ الجماعات المسلحة، إضافة إلى استمرار الانقسامات الحزبية والطائفية التي أثرت على إنتاج سياسة حكومية موحدة، مما أدى إلى حالة من اللامبالاة لدى المواطن العراقي نتيجة تكرار النخب نفسها وسياساتها، خصوصا مع وجود تحديات في الإصلاح السياسي، واستمرار الحاجة إلى دعم فني ودستوري لإنجاز التحول الديمقراطي.

ب‌. الأزمة الاقتصادية واعتماد النفط. يعتمد الاقتصاد العراقي اعتماداً شبه كامل على قطاع النفط كمصدر رئيسي للإيرادات، إذ يشكل أكثر من 90% من دخل الدولة. تقارير البنك الدولي تحذّر باستمرار من الانكشاف المرتفع تجاه تقلبات أسعار النفط، وتؤكد أن خطط الإصلاح المالي وتنويع الاقتصاد لم تتقدم بالمستوى المطلوب، رغم الإجراءات الحكومية المتعلقة برقمنة الجباية وتطوير القطاع الخاص. 

هنا يبرز مشروع طريق التنمية (Development Road) كأكبر اختبار لمحاولة تنويع الاقتصاد. غير أن هذا المشروع يواجه تحديات ضخمة، أهمها استمرار التهديدات الأمنية ومخاطر الفساد المالي والإداري التي قد تعيق تنفيذه بالشكل المطلوب.

ج. الأمن والحوكمة. برغم ما أشارت له وزارة الداخلية العراقية، في تقاريرها لعام 2025، حيث سجلت تحسناً نسبياً في بعض القطاعات الأمنية مقابل استمرار تحديات تتطلب حلولاً سياسية وأمنية متوازية، لكن تشير تقارير محلية ودولية إلى أن التحديات الأمنية ما تزال تتمركز في ثلاث نقاط:

- نشاط فلول تنظيم داعش في المناطق الحدودية.

- انتشار السلاح خارج إطار الدولة.

- تأثير بعض الفصائل المسلحة على القرار السياسي. 

أما ما يتعلق بدور الفصائل فمع انسحاب القوات الأمريكية القتالية، تسعى بعض قياداتها لتثبيت دورها كـ"قوة ضامنة" للأمن الداخلي، وهو الأمر الذي يخلق حالة من التعقيد تجاه سلسلة القيادات الأمنية ويشكل تحدياً مباشراً لسلطة الدولة.

ثانياً: العراق بين محاور النفوذ

دور إيران. تعد الفاعل الأكثر حضوراً في المشهد العراقي بعد 2003، عبر شبكة من العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية. وتؤكد تقارير مختلفة أن النفوذ الإيراني يقوم على ثلاثة أركان: 

- علاقات مع أحزاب سياسية نافذة.

- تأثير على فصائل مسلحة.

- تبادل تجاري وطاقة واسع، وتطور مهم في طبيعة هذا النفوذ، عبر "التريث الاستراتيجي". وتشير تقارير دولية باستمرار بأن القوى التي تعمل خارج اطار المؤسسات الرسمية تعتمد على نمو الميزانية العراقية ومستفيدة منها، مما قد يدفعها لتبني خطاب أكثر براغماتية وتفادي التصعيد المباشر في بعض الأحيان حفاظاً على مصالحها المكتسبة.

دور تركيا. تلعب أنقرة دوراً محورياً في شمال العراق عبر وجودها العسكري، والتبادل التجاري الواسع، ومسألة المياه، إضافة إلى الملفات المتعلقة بحزب العمال الكردستاني. وقد أظهر تقرير لوزارة الخارجية العراقية أن بغداد طالبت أنقرة مراراً باحترام السيادة، خصوصاً في العمليات العسكرية داخل إقليم كردستان. 

يتجاوز الدور التركي اليوم القضايا الأمنية التقليدية ليصبح دوراً اقتصادياً استراتيجياً. فتركيا هي المحرك والمستفيد الرئيسي من مشروع طريق التنمية، مما يخلق روابط جديدة ومعقدة بين الأنشطة الاقتصادية والعسكرية التركية في شمال العراق.

العراق ودول الخليج. شهدت العلاقات العراقية الخليجية تحسناً كبيراً منذ 2020، خاصة في مجالات الطاقة والربط الكهربائي، ومع توسع استثمارات سعودية وإماراتية، تحول دور دول الخليج من مجرد دعم سياسي وديبلوماسي إلى استثمار استراتيجي طويل الأمد. 

وفي مشروع طريق التنمية، تعتبر الإمارات وقطر الممولان الاستراتيجيان الرئيسيان. فان هذا الاستثمار الضخم يمثل اختباراً لمدى قدرة دول الخليج على ترجمة مصالحها الجيوسياسية إلى شراكات اقتصادية مستدامة مع بغداد.

ثالثاً: السياسة الأمريكية 

تظهر تقارير وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2024–2025 أن سياسة واشنطن في العراق تركّز على ثلاثة أهداف: 

- دعم الاستقرار ومنع عودة داعش.

- تقليص النفوذ الإيراني.

- تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية. 

وترى واشنطن أن تنفيذ هذه الاستراتيجية يتم عبر انسحاب تدريجي ومنظم للقوات الأمريكية القتالية، وهذا الانسحاب يهدف في نهايته إلى الإبقاء على وجود عسكري محدود ومرن في إقليم كردستان العراق حتى عام 2026 على الأقل، وذلك للحفاظ على قدرة ردع سريعة.

مع الاحتدام الإيراني–الأمريكي، ومحاولات تطبيع إسرائيل مع دول عربية، ونشاط الصين في المنطقة، تسعى واشنطن إلى الحفاظ على العراق كحليف استراتيجي معتدل. غير أن تقييم واشنطن للشريك العراقي أصبح أكثر تعقيداً، فالادارة الأمريكية تنظر إلى حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بشك واضح، وترى أن السوداني رغم خطاباته الوطنية، يفتقر إلى القوة أو الإرادة السياسية الكافية لفرض سيطرة الدولة.

أما على مستوى الاقتصاد فقد شهد عام 2025 زيادة في الاستثمارات الأمريكية في مجال الطاقة، إضافة إلى توسع الحضور الدبلوماسي خصوصاً في إقليم كردستان حيث افتتحت واشنطن أكبر قنصليتها في المنطقة. في هذا الإطار، تبرز الدبلوماسية الاقتصادية كأحد أدوات واشنطن الرئيسية.

ومع التنافس الدولي المتزايد، خاصة من الصين وروسيا، على النفوذ الاقتصادي في العراق، تحاول الولايات المتحدة تقديم حوافز استثمارية بديلة في قطاعات الطاقة والبنية التحتية لربط الاقتصاد العراقي تدريجياً بالشركاء الغربيين والخليجيين.

رابعاً: تفاعل الداخل والخارج 

- صراع النفوذ وتأثيره على الاستقرار. يؤدي تداخل نفوذ القوى الإقليمية والدولية داخل العراق إلى إضعاف قدرة الدولة على اتخاذ قرار مركزي مستقل، ويعزز الاستقطاب السياسي الداخلي. هذا الوضع يخلق بيئة معقدة تجعل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية رهينة توافقات خارجية.، فالمشهد ليس ثابتاً، وهناك سيناريوهات مستقبلية قد تعيد رسم معادلة النفوذ. فهناك سيناريو حدوث أزمة خلافة داخل إيران، مما قد يمنح القادة العراقيين "فرصة نادرة لتكريس استقلالية أكبر"، وإن كان ذلك مصحوباً بمخاطر أمنية داخلية.

- الاقتصاد كمساحة صراع وتعاون. ملفات الطاقة والغاز والربط الإقليمي أصبحت أدوات تنافس إقليمي ودولي، وفي مواجهة هذا التنافس، تظهر مبادرات عراقية لتحقيق التوازن وبناء جسور التعاون. 

أحد أبرز الأمثلة هو مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، الذي تستضيفه العراق مع جيرانها العرب، فان مثل هذه المبادرات تمثل محاولة من بغداد لاستغلال موقعها الجيوسراتيجي لتعزيز التعاون الإقليمي متعدد المحاور، وبالتالي خلق مساحة للمناورة وتقليل الاحتكاكات.

- فرص الانفتاح والتوازن. رغم كل التعقيدات، أن تنوع الشركاء يخلق فرصة للعراق لاعتماد سياسة خارجية متعددة المحاور، تكسر الاصطفاف، وتحقق التوازن بين إيران وتركيا والولايات المتحدة والخليج إذا امتلكت الدولة الإرادة والمؤسسات الكافية. 

ويعد مشروع طريق التنمية هو التجسيد العملي لهذه الفرصة، فهو يجذب استثمارات خليجية، ويعتمد على الشراكة مع تركيا، ويسعى للحصول على دعم غربي، كل ذلك دون أن يعني بالضرورة قطيعة مع إيران.

الخاتمة والتوصيات

يواجه العراق معادلة معقدة تجمع بين هشاشة مؤسسات الدولة، وصراع النفوذ الإقليمي، وعودة التنافس الدولي داخل الشرق الأوسط، وإن قدرة العراق على الخروج من دائرة عدم الاستقرار تتوقف على نجاحه في بناء مؤسسات قوية، وتنويع الاقتصاد، وتبني سياسة خارجية متوازنة تُعيد ضبط علاقاته مع القوى الفاعلة.

العراق، برغم كل التحديات وانه ساحة صراع سلبي، لكن من خلال مبادرات مثل طريق التنمية ومؤتمر بغداد للتعاون، يحاول أصحاب القرار في الحكومة العراقية استثمار الموقع الجيوسياسي لخلق فرص اقتصادية وتحقيق درجة من الاستقلالية في السياسة الخارجية. غير أن نجاح هذه المحاولات مرهون بشروط داخلية أساسية: 

- استكمال بناء احتواء الدولة للسلاح.

- مكافحة الفساد الهيكلي.

- خلق إجماع وطني يتجاوز المحاصصة الضيقة.

في ظل التحولات العميقة يعتبر العراق لاعباً محورياً يستطيع - إن أحسن إدارة التوازنات - أن يتحول من ساحة تنافس مفتوح إلى ركيزة استقرار إقليمي وشريك لا غنى عنه للجميع.

علي الطالقاني، رئيس ملتقى النبأ للحوار

ذات صلة

الدنيا ظل شجرة سرعان ما يزولفلسفة البقاء والانهيار في الخطاب الفاطمييوم النصر من ثمار فتوى الجهاد الكفائيمأساة الاقلية المسلمة (الروهينغا) في ميانمار.. إبادة تحت ستار الصمتمن مركز الثقل التنفيذي إلى موقعٍ مستباح