الجمود الفكري والسياسي محاولة للفهم
ابراهيم العبادي
2025-12-10 04:13
يشتد الجدل في الاوساط النخبوية حول اسباب الجمود الفكري والسياسي، الذي يعتري قوى وتيارات وافراد ويجعلها خصما لكل موقف وفكر وسياسة تنتهجها قوى موازية، تتسم بالمرونة والانفتاح والقدرة على التكيف والامتناع عن ركوب موجة التعصب والتطرف ومعاداة الاعتدال والوسطية، تشهد مجتمعاتنا انقساما عموديا وأفقيا بين قوى احادية التفكير، متصلبة الاتجاهات، لا ترى العالم الا بمنظار الجزمية المطلقة والتصنيف الحاد والعقل المنغلق، وبين قوى توائم بين فكرها وفهمها للعالم، تقرأ متغيراته بإدراك متجدد، وعقل مفتوح وقدرة على التكيف دون ان تخسر ذاتها وهويتها وانتمائها.
لا يقف الامر على تباين واختلاف في تقدير المصالح والمخاطر فحسب، بل في الاندفاع لتنزيه الذات وشيطنة من لا يتفق معها ولا ينسجم مع افكارها، الامر لا يرتبط بمواقف الافراد وسلوكياتهم، فذلك موضوع محسوم، اذ إن البشر يتمايزون في فهمهم وتفسيرهم ومواقفهم لما يجري حولهم من قضايا عالمهم المتغير، الصعوبة تكون اكثر خطورة حينما يتحول هذا التباين إلى انقسام مجتمعي بين جماعات وقوى ونخب، كل منها يريد الانفراد بالقرار السياسي والامني والاقتصادي والثقافي، ويتحول الاختلاف إلى صراع مرير على السلطة وتنابز شديد على تقرير مصائر الناس .
ليس من السهل الادعاء بأن المبادئ وحدها هي ما يسبب التباين والاختلاف، وليس بسيطا القول بأن سبب الاختلاف هو المصالح لا سواها من عوامل التحفيز والتحشيد، انما عصارة القول تتمظهر في هذا الكل المعقد من سمات الشخصية وانماط تفكيرها وادوات منهجها في الفهم والتأويل والاستنتاج واقناع الذات وحمل الاخرين على سلوك ذات المشرب، أو الرمي بغياب المبادئ والوصولية والانتهازية والجهل وسطحية الفهم، الاختلاف جدي وعميق ونحن نتكلم عن الصادقين في مواقفهم ومدعياتهم، فثمة من يرى في هذا الاختلاف علامة على حيوية المجتمع ومظهرا من مظاهر التعددية فيه ، غير أن الامر لا يتوقف على امكانية التعايش بين هذه الاتجاهات الفكرية وأدارتها ، بل على السعي لتوحيد الافكار وحمل الناس على قبولها وفرضها نمطا احاديا للسياسات والبرامج.
الان يدور في مجتمعاتنا صراع معلن وخفي حول السياسات العامة المتعلقة بمصائر ومصالح الناس، من قبيل قرار الحرب والسلم، وحمل السلاح وتشكيل قوى مسلحة، أو في كيفية مواجهة مشاريع الاخرين السياسية والتثقيف ضدها، أو في فهم معادلات القوة والضعف في عالمنا، وحتى في تفسير معنى الهزيمة والنصر في أحوالنا، يستمتع كثيرون جدا في الدفاع عن مقولاته وفهمه للانتصار والانكسار لتبرير مواقف وسياسات، دون أن يغير هذا الدفاع من الحقائق الماثلة على الارض، حينما تسألهم عن سبب هذا الحماس في تبرير الواقع تجدهم يقدمون خطابا وسردية اقرب إلى الامنيات والخيالات منها إلى الحقيقة الواضحة .ما سبب ذلك؟ ما الذي يجعل قوى وتيارات تتشدد في فهمها ومواقفها وتريد ان ترى هذا العالم من ثقب منظارها القديم القاصر؟.ذهب علم النفس إلى الربط بين المعتقدات وبين مرونة الشخصية، اشتهر في ذلك عالم النفس الأمريكي ميلتون روكيتش (1918- 1988)، الذي قدم إسهامات مهمة في فهم العلاقة بين نسق المعتقدات ومرونة الشخصية من خلال عمله حول “العقل المنفتح والعقل المنغلق” في كتابه «The Open and Closed Mind» (1960).
المفاهيم الأساسية لروكيتش:
1ـ نسق المعتقدات (Belief System) يعتبر روكيتش أن المعتقدات مرتبة في نسق هرمي:
- معتقدات مركزية: تشكل الهوية وتتصل بالذات (صعبة التغيير).
- معتقدات وسيطة: تتصل بالقيم والمبادئ.
- معتقدات طرفية: تتصل بالتفضيلات والآراء (سهلة التغيير نسبياً).
2ـ العقل المنغلق (Closed Mind):
- يتميز بنسق معتقدات صلب وغير قابل للتكيف.
- يرفض المعلومات التي تتعارض مع معتقداته الأساسية.
- يميل إلى التفكير الثنائي (أبيض/ أسود)
- يبحث عن تأكيد معتقداته الحالية بدلاً من اختبارها
• يتصف بالحاجة العالية إلى اليقين والتحصين المعرفي
3- العقل المنفتح (Open Mind)
- يتميز بنسق معتقدات مرن وقابل للتكيف.
- يقيّم المعلومات الجديدة بموضوعية.
- يتحمل الغموض وعدم اليقين.
- يستطيع فصل هويته عن معتقداته (يمكنه تغيير المعتقدات دون تهديد الذات).
كيف يؤثر نسق المعتقدات على تصلب الشخصية:
الآليات النفسية:
1ـ التحصين المعرفي: الشخص ذو العقل المنغلق يطور دفاعات نفسية ضد المعلومات المضادة.
2ـ الانحياز التأكيدي: يبحث فقط عن المعلومات التي تؤكد معتقداته.
3ـ الاستقطاب: يميل إلى تبني مواقف متطرفة عندما يتعرض لتحديات.
4ـ التفكير الأيديولوجي: يفسر الواقع من خلال عدسة أيديولوجية ثابتة بدلاً من تحليل الوقائع.
التأثيرات على الفهم والتكيف:
- صعوبة في التعلم والتكيف: العقل المنغلق يفقد القدرة على التكيف مع المتغيرات الجديدة.
- التفسير غير الواقعي: يفسر الأحداث وفق الأيديولوجيا بدلاً من تحليل الوقائع الموضوعي.
- ضعف القدرة على انتاج الحلول: يفتقر إلى المرونة المعرفية لحل المشكلات المعقدة.
- التعصب: الميل لرفض وجهات النظر المختلفة
عوامل تساهم في تشكل العقل المنغلق حسب روكيتش:
1- الحاجة إلى اليقين لتخفيف القلق الوجودي.
2ـ التهديد المتصور للهوية أو المجموعة التي ينتمي إليها.
3ـ التنشئة الاجتماعية في بيئات تكرس التفكير الأحادي.
4ـ انخفاض احترام الذات والاعتماد على المعتقدات الصلبة للشعور بالأمان.
استمرارية الأهمية:
ما زال عمل روكيتش مهماً لفهم التطرف الأيديولوجي والتعصب في عصرنا، حيث تظهر الأبحاث الحديثة في علم النفس السياسي والاجتماعي أن الأنظمة المعرفية المغلقة ترتبط بالشعبوية، ونظريات المؤامرة، ومقاومة التغيير الاجتماعي.
الخبر السعيد في نظرية روكيتش هو أن انفتاح العقل ليس سمة ثابتة، بل يمكن تعزيزه من خلال التعليم النقدي، والتعرض لوجهات نظر متنوعة، وتطوير مهارات التفكير النقدي.