الإعجاز القرآني بين البنية اللغوية ووحدة الرسالة السماوية

السيد فاضل الموسوي الجابري

2025-12-07 03:41

أولًا: خصوصية النظم القرآني وملامح الإعجاز البلاغي: 

برز وجه الإعجاز في القرآن الكريم من خلال نظمه الفريد وبلاغته الخارقة، التي تجاوزت ما ألفته العرب في بيئتها الشعرية واللغوية. فقد كانت العربية قبل البعثة تدور في فلك القصيدة الموزونة ذات البحر والقافية، أو في فضاء ألفاظٍ تولّدت من المحيط الصحراويّ وما يكتنفه من صورٍ وأخيلة. وفي هذا السياق تفاجأ المشركون بنمطٍ بيانيّ لا يشبه سجع الكهان، ولا ينضبط بقوالب الشعر، ولا ينتمي إلى خطابة الخطباء، فوقفوا أمامه متحيّرين بين وصفه بالسحر تارة، وبالكهانة أخرى، وبالجنون حينًا.

لقد جاء القرآن لينقل العربية من مرحلةٍ “جاهليةٍ” إلى طورٍ أرقى من الانتظام الدلاليّ والتركيب المنطقيّ، حيث تبلّورت فيه لغةٌ عالية تحفّها بنية لسانية محكمة، وتتسع لمفاهيم لم تكن معهودةً في الثقافة العربية، من معاني التوحيد والغيب، إلى شؤون القانون الاجتماعي والأخلاق الإنسانية. وقد استثمر القرآن ثروةً لفظيةً واسعةً، بعضها ذو أصولٍ ساميةٍ مشتركة، ثم صاغها في بناءٍ عربيٍّ خالصٍ حتى صارت المفردة القرآنية تبدو كأنها الأصل لا الدخيل.

ثانيًا: إعادة صياغة الوعي العربي تجاه النصوص السابقة:

وعلى الرغم من التفرد البياني للكتاب المجيد، فإنّ القرآن لم يقطع علاقته بالوحي السابق. بل أكد، في أكثر من موضع، موقعية الكتاب المقدّس –بما يشمل التوراة والإنجيل الواقعية المنزلة من قبل الله تعالى على موسى وعيسى عليهما السلام– في الدورة التاريخية للرسالات، وجعله جزءًا من السياق الإلهي الهادف إلى هداية الإنسان. فالقرآن مهيمنٌ على تلك الكتب، مصدّقٌ لها ومصحّحٌ لما اعترى بعض مفاهيمها من تحريف أو انحراف عن محورها التوحيديّ الأصيل.

ولعلّ جوهر التصحيح القرآني يتمثل في إعادة الذات الإلهية إلى وحدتها المطلقة. فقد أزال القرآن آثار الاستئثار القوميّ اليهوديّ الذي جعل الربَّ إلهًا خاصًا بشعب معين، كما نقض التثليث النصرانيّ الذي فصل بين أقانيم الذات الإلهية. وبذلك أعاد القرآن للعقيدة توحيدها النقيّ الذي قامت عليه دعوة الأنبياء جميعًا.

ثالثًا: إصلاح المنظور الغيبيّ وتوحيد الرؤية حول المصير الإنساني:

جاء القرآن كذلك ليعيد بناء التصوّر الإنسانيّ للغيب، وخاصة في موضوعات الخلق والحساب والبعث والجزاء، وهي موضوعات شهدت اضطرابًا في نصوص الكتاب المقدّس وتفسيراته اللاحقة. فأعاد القرآن صياغة قصة الخلق بوصفها برهانًا دالًا على وحدانية الله وربوبيته. ثمّ رسم مشهدًا متكاملًا ليوم القيامة، بما فيه من أهوالٍ وصور، وبيّن أصناف الناس بين السعادة والشقاء، مقرّرًا العدل الإلهيّ في أرقى صوره.

رابعًا: الأخلاق بين القرآن والكتاب المقدّس:

ومع ما سبق من تصحيحٍ وتكميل، يشترك القرآن مع الكتاب المقدّس في بناء منظومةٍ أخلاقيةٍ عامة، تجعل الفضيلة والسلوك القويم سبيلًا إلى رضا الله وثوابه الأخرويّ. غير أنّ القرآن نقل هذه المنظومة من الإطار القومي الضيق إلى الإطار الإنسانيّ الواسع، فصار الخطاب موجهًا إلى «العالمين»، وأصبحت الأخلاق رسالةً إنسانيةً شاملة، لا تختص بأمةٍ دون أخرى، باعتبار أنّ الإسلام خاتمة الرسالات ومكمّلها.

ذات صلة

عوامل تقدم الدول وانحطاطهاما المطلوب من الحكومة المقبلة؟انتخابات العراق 2025.. إقصاء مرشحي الإصلاح من قبل نظام يرفض التغييرالمدارس الاهلية: تتفوق في المظهر وتتعثر في الجوهرالأوليغارشية في العراق: تشكّلها وسبل تفكيكها