الأوليغارشية في العراق: تشكّلها وسبل تفكيكها

محمد عبد الجبار الشبوط

2025-12-07 03:29

أولًا: الطبقة الأوليغارشية وتدوير المواقع في النظام السياسي العراقي 

تُشير الأوليغارشية إلى حكم القلة؛ أي هيمنة مجموعة صغيرة من الأشخاص على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي للدولة رغم تغيّر الواجهات الشكلية للعملية الديمقراطية، وتميل هذه الطبقة إلى تحقيق قدر عالٍ من الاستمرار بالنفوذ عبر امتلاك أدوات القدرة: المال، القوة، النفوذ الحزبي، وشبكات المصالح، وفي التجربة العراقية بعد 2003 ظهرت ملامح طبقة أوليغارشية واضحة تتكوّن من شخصيات حزبية وسياسية تمتلك مواقع شبه دائمة داخل بنية السلطة. 

حيث تُعاد صياغة توزيعهم بعد كل دورة انتخابية دون تجديد حقيقي في الوجوه أو الخيارات، وذلك عبر تدوير المناصب وتبديل العناوين، فالشخص الذي يشغل وزارة في دورة معينة ينتقل إلى رئاسة لجنة برلمانية في الدورة التالية أو إلى منصب مستشار أو نائب أو مدير عام أو يتنقّل بين الهيئات المستقلة والشركات العامة، بحيث يبقى داخل دائرة النفوذ السياسي مهما تغيّرت الواجهات الخارجية، ومع مرور الوقت أصبح لهذا النمط من التدوير أثر بنيوي عميق خلق ما يشبه “دولة موازية” من الشبكات والقوى التي تستند إلى الولاء الحزبي أكثر مما تستند إلى الكفاءة المؤسسية، ويتجلّى ذلك في ظاهرة “تثبيت الأشخاص” في مواقع القرار الاستراتيجي في الوزارات، والأجهزة التنفيذية، والهيئات الرقابية، ودوائر المال العام، بصورة تجعل عملية التغيير الانتخابي مجرد تبديل في الطبقات السطحية دون مساس بالبنية العميقة الحاكمة، كما تتجلى الأوليغارشية في آليات صناعة القرار. 

إذ تُدار مفاصل الدولة الأساسية عبر لجان حزبية غير رسمية تتفق على تقاسم المواقع قبل إعلان التشكيلات الحكومية، فتُقسَّم الوزارات على أساس المحاصصة، وتُعطى الدرجات الخاصة لشخصيات محسوبة على القوى النافذة، ثم تُدار الدولة عبر منظومة توصيات واتصالات وضغوط تتجاوز مؤسسات الدولة الدستورية، وتظهر مصاديق هذا النمط في: إعادة تدوير الوزراء السابقين في مواقع استشارية عليا، انتقال النواب المؤثرين إلى مواقع تنفيذية بعد انتهاء دورتهم، تثبيت ذوي الولاء الحزبي في الدرجات الخاصة لسنوات طويلة تتجاوز الحكومات المتعاقبة، استمرار بعض الشخصيات في الهيئات المستقلة منذ أكثر من دورة انتخابية عبر التجديد غير المعلن أو التغيير الشكلي. 

وبذلك تتكوّن “طبقة عليا” ذات نفوذ مستمر، ليست منتخبة في الأساس ولا تتغير بنتائج الانتخابات، وتستطيع هذه الطبقة الحفاظ على مصالحها عبر ثلاثة مسارات رئيسية: أولًا، التحكم بموارد الدولة من خلال السيطرة على المناصب التي تتعامل مع المال العام والعقود والقرارات الاقتصادية؛ وثانيًا، التحكم بمخرجات العملية السياسية عبر التأثير في اختيار رؤساء الحكومات والوزراء ورسم الخطوط العامة للسياسات؛ وثالثًا، حماية شبكاتها الداخلية من خلال التعيينات بالدرجات الخاصة وإعادة تدوير الولاءات، وكل ذلك يُنتج مفارقة جوهرية: انتخابات تتغيّر فيها الوجوه على السطح، ودولة ثابتة تحكمها نفس الشبكات في العمق. 

وفي العراق تُعمّق هذه الظاهرة حالة من الركود السياسي وإعادة إنتاج الفشل؛ لأن الأجهزة لا تُدار وفق رؤية وطنية أو كفاءة مؤسسية بل وفق مصالح القوى التي تمسك بخيوط السلطة، ويؤدي ذلك إلى غياب الإصلاح البنيوي، إذ لا يمكن لطبقة تستفيد من الوضع القائم أن تسمح بتغييره، ما لم يظهر مشروع وطني حضاري جديد يعيد تعريف السلطة باعتبارها وظيفة لخدمة المجتمع لا ملكية تُوزّع بين الأحزاب، ويمتلك آليات واقعية لتفكيك شبكات النفوذ وإعادة بناء المؤسسات على أساس الكفاءة والشفافية، وهكذا تتضح صورة الأوليغارشية في العراق: ليست مجموعة أشخاص وحسب، بل منظومة مصالح وشبكات نفوذ متصلة، تتمتع بقابلية عالية على إعادة تدوير نفسها داخل السلطة، بغض النظر عن نتائج الانتخابات أو تبدّل الحكومات، وهو ما يجعل التغيير الحقيقي مرهونًا بتغيير البنية لا الأشخاص، وبإعادة بناء الدولة على أسس حضارية حديثة تتجاوز منطق المحاصصة والأوليغارشية وتعيد السلطة إلى وظيفتها الأساسية بوصفها أداة لإنتاج الخير العام.

ثانيًا: كيف يمكن تفكيك الطبقة الأوليغارشية في العراق؟ 

يقتضي تفكيك الطبقة الأوليغارشية في العراق الانتقال من سياسة “استبدال الأشخاص” إلى استراتيجية “تفكيك المنظومات”، إذ أن جوهر الأوليغارشية ليس في الوجوه بل في الشبكات والمصالح والهياكل التي تمنح نفس الأشخاص قدرة دائمة على العودة إلى السلطة، ويبدأ التفكيك بخطوة تأسيسية تتمثّل في إعادة تعريف الوظيفة العامة بوصفها مسؤولية مهنية لا غنيمة حزبية، وهو تحول يتطلب إنشاء منظومة قانونية وإدارية صارمة تمنع التعيين السياسي في المواقع الحساسة مثل الدرجات الخاصة، والهيئات المستقلة، والمناصب التنفيذية العليا، بحيث تُستبدل كلها بآليات اختيار تعتمد الكفاءة والمعايير الفنية والاختبارات المهنية.

أما الخطوة الثانية فتقوم على بناء “جهاز دولة مهني” مستقل عن الأحزاب، من خلال إصلاح الخدمة المدنية وتفعيل مبدأ التدرّج الوظيفي الطبيعي بحيث يصل أصحاب الخبرة إلى المراكز القيادية عبر مسار مهني لا عبر تدخلات سياسية، وهذا يشكل أحد أقوى الأسلحة ضد استدامة الأوليغارشية؛ لأن الشبكات الحزبية تفقد قدرتها على تثبيت نفوذها في البنية العميقة للدولة.

وتتمثل الخطوة الثالثة في تجفيف منابع المال السياسي الذي يمكّن الأوليغارشية من إعادة تدوير نفسها، وذلك عبر فرض رقابة صارمة على العقود الحكومية، ومنع تحوّل المال العام إلى مصدر تمويل للأحزاب، وإطلاق نظام شفاف للمشتريات والعقود يعتمد المعايير الدولية، إضافة إلى تقوية أجهزة مكافحة الفساد وجعلها مستقلة فعليًا لا شكليًا، أما الخطوة الرابعة فتتعلق بإصلاح النظام الانتخابي بطريقة تمنع احتكار القوى الكبرى للمشهد السياسي، وتفتح المجال أمام قوى جديدة، وتحد من قدرة الأحزاب المتنفذة على تدوير نفس الشخصيات عبر قوائم مغلقة وهمية أو تحالفات مفروضة، إذ يمثل الانفتاح الانتخابي أحد أهم العوامل في كسر احتكار النخب القديمة.

وتأتي الخطوة الخامسة في بناء رأي عام حضاري يتجاوز الولاءات الضيقة وينظر إلى السلطة بوصفها عقدًا اجتماعيًا لا ملكية، وهذا يتطلب مشروعًا تربويًا قيميًا–حضاريًا يحرر المجتمع من ثقافة الخضوع لشبكات النفوذ، وينمّي وعيًا عامًا قادرًا على مراقبة السلطة ومحاسبتها، ومعه تنشأ بيئة مجتمعية لا تمنح الشرعية للقوى التي تعيد إنتاج الأوليغارشية مهما تغيرت الواجهات، أما الخطوة السادسة فهي تعزيز استقلال القضاء وتمكينه من حماية الدولة من تغوّل النفوذ الحزبي، إذ لا يمكن لأي إصلاح أن يصمد بوجود قضاء خاضع أو قابل للضغط السياسي، كما تتطلب العملية ترسيخ مبدأ سيادة القانون بحيث يتحوّل من شعار إلى ممارسة يومية تتساوى فيها القوى الكبرى مع المواطن العادي أمام حكم القضاء.

وأخيرًا، يتطلب تفكيك الطبقة الأوليغارشية وجود مشروع دولة حضارية حديثة يملك رؤية بديلة لإدارة السلطة وتوزيع الموارد، مشروع يقدّم تصورًا شاملًا للدولة يدمج بين الكفاءة والقيم ويحوّل السلطة إلى وظيفة لخدمة الخير العام، فبدون رؤية حضارية واضحة تبقى جهود الإصلاح مجرد محاولات جزئية لا تمسّ جذور المنظومة، ولذلك لا يكون كسر الأوليغارشية حدثًا مفاجئًا أو صدامًا مباشرًا، بل عملية تراكمية هادئة تقوم على بناء بديل أفضل يجعل المنظومة القديمة تفقد معناها وأدواتها تدريجيًا، وعندها يتحقق التفكيك الحقيقي: حين تصبح الدولة أقوى من الأحزاب، والقانون أقوى من الشبكات، والمواطن أقوى من الطائفة، والوظيفة العامة أسمى من الغنيمة السياسية.

ذات صلة

الإعجاز القرآني بين البنية اللغوية ووحدة الرسالة السماويةعوامل تقدم الدول وانحطاطهاما المطلوب من الحكومة المقبلة؟انتخابات العراق 2025.. إقصاء مرشحي الإصلاح من قبل نظام يرفض التغييرالمدارس الاهلية: تتفوق في المظهر وتتعثر في الجوهر