مصالح الدول وأصحاب المصالح فيها

عبد الامير المجر

2025-11-01 03:40

من خلال قراءاتي للتاريخ السياسي في أوروبا، توقفت على واقعتين مثيرتين حقا، حصلتا في فرنسا والمانيا، وقد وجدت أن أصحاب المصالح يتشابهون بأفعالهم في كل زمان ومكان.

الواقعة الأولى حصلت بعد احتلال (امارة بروسيا) الألمانية لفرنسا في عهد الامبراطور (نابليون الثالث) في العام 1870 واسقاط عرشه. اذ كانت البلاد تعاني من مشكلات كثيرة وقتذاك، والاشتراكيون الفرنسيون الذين اصابهم اليأس من امكانية إصلاح النظام لنفسه، اسسوا تجمعا ضم اشتراكيين وتقدميين يريدون تحرير البلاد من واقعها المزري باسم (كومونة باريس)، وقد جسّد هذا الواقع الاديب الفرنسي الشهير (موباسان) في قصة معبّرة له بعنوان (التفاصيل في الغابة) كتبها في اعقاب احتلال بروسيا لفرنسا، جعل بطلتها فتاة مريضة (فرنسا)، لكنها وحتى بعد الاحتلال ورغم مرضها ترفض التماهي مع جيش الاحتلال وتعبر عن روح فرنسا القوية على الرغم من تغييبها من قبل المحتلين في الغابة!

بعد سقوط نظام (نابليون الثالث)، قام رجال الكومونة بتشكيل حكومة فرنسية في باريس، لكن القوى السياسية التي تمثل البرجوازية الفرنسية المستفيدة من نظام الحكم الساقط، ذهبت للتعاون مع المحتل البروسي (الالماني) لإسقاط تجربة حكومة الكومونة التي لم تكن شيوعية، بل كانت اشتراكية ديمقراطية طالبت بفصل الدين عن الدولة واعادة الحياة للمعامل المهجورة وادارتها من قبل العمال وانتخاب المسؤولين وايضا بتعليم مجاني وعلماني .. وهذه المطالب تعكس عمق الازمة التي كانت تعيشها الدولة الفرنسية في ظل الأنظمة الفاسدة، التي تعاقبت على الحكم بعد الثورة الفرنسية، حيث شهدت البلاد انتكاسات كبيرة ومجازر دموية مريعة.. وبالفعل تم اسقاط حكومة الكومونة بعد معارك راح ضحيتها اكثر من ثلاثين الف قتيل من رجالها.

في واقعة مثيرة اخرى أتت في السياق ذاته، وهذه المرة من المانيا الموحدة، اذ بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، والتي جاءت بعد احتجاجات ضد الحرب قامت بها قوى محلية المانية، ومهدت لإسقاط الامبراطور فيلهلم الثاني، واقامة (جمهورية فايمار) على انقاضها، تحرك قادة (رابطة سبارتكوس) بقيادة (روزا لكسمبورغ) و(كارل ليبكنخت) وهي حركة ماركسية، كانت أصلا مناهضة للحرب وتدعو إلى السلام واقامة نظام اشتراكي يقيم العدالة وينهي اسباب التمردات والاضطرابات في البلاد، لكن قوى محلية المانية تعاضدت مع القوى الدولية المعادية التي حاربت المانيا، لإسقاط تلك المحاولة ومن ثم اغتيال (روزا لكسمبورغ) واعدام (كارل ليبكنخت)، لتطوى صفحة مثيرة من تاريخ المانيا بعد ان طويت صفحة مثيرة قبلها في فرنسا.

بعيدا عن الموقف من الحركتين الاشتراكيتين وتقييمهما الآن، يمكن القول إن الناس وقتذاك، كانت بها حاجة كبيرة لنوع من العدالة الاجتماعية، التي سعت لتحقيقها كلا الحركتين، لكن مصالح القوى التي كانت وراء الحروب وفساد الانظمة والخراب الذي تسببت به، وقفت حائلا دون تمكن الحركتين من الوصول إلى السلطة وتنفيذهما برامجهما.

الدرس الذي علينا ان نستفيد منه باستمرار هو ان اصحاب المصالح الخاصة، اذا ما تمكنوا في أي بلد ودولة، فإنهم من اجل استمرار مصالحهم، يقفون مع أي نظام مهما كان فاسدا، ولديهم الاستعداد ايضا للتعاون مع اي قوة خارجية أو داخلية لتحقيق ذلك، غير آبهين بمصالح الشعب ومستقبله.. وطبعا في كل زمان ومكان ايضا!.

ذات صلة

كيف تغيّر نفسك وتسيطر على أعصابك.. وكيف تصنع مشجّرة الأطاريح والمحاضرات؟الضباب الأسود في السياسةدور التكرار في تعميق الفهملماذا تُضّيع ثروتنا الوطنية؟الحرب الأميركية في الكاريبي غطاء للفشل الداخلي في الحرب على المخدرات