العطاء الثقافي الغربي والاختلاف الحضاري
محمد محفوظ
2025-10-27 02:44
منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها.. بدأ المفكرون الإستراتيجيون ومعاهد الأبحاث والدراسات بوضع التصورات وصياغة الأفكار والسياسات لمرحلة ما بعد الحرب الباردة. واجتهد كل مفكر استراتيجي أو معهد بحث في بلورة الأفكار التي تعتبر وفق منظور المفكر أو المعهد هي الاستراتيجيات المثلى لصناعة مستقبل أكثر سعادة ورخاء ورفاهاً من الحقب الزمنية السابقة..
إن هنتنغتون حينما بلور رؤيته حول صدام الحضارات.. لم يكن بعيدا عن المصلحة السياسية والإستراتيجية للحضارة الغربية.. وإنما هو قام بجهد فكري يصب في إطار الحفاظ على سيطرة الغرب على العالم.. لهذا نراه يحذر من قيام متحد كونفوشيوسي-إسلامي ينطلق من منطقة زينجيانغ في الصين ويمتد إلى الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى.
ومنذ نهاية عقد الثمانينيات ونحن نسمع ونقرأ عن الأفكار والنظريات والمقولات التي تسعى نحو ملء الفراغ الأيدلوجي الذي حدث بنهاية الحرب الباردة..
فقد نشر في هذا الصدد فرانسيس فوكوياما مقالته التي اعتبر فيها أن الديمقراطية الليبرالية انتصرت بسقوط الاتحاد السوفياتي، وأن هذا الانتصار يشكل نهاية التاريخ..
وتبعه "توفلر" مؤلف كتاب "صدمة المستقبل" بنظرية جديدة يرى فيها أن الثروة الحقيقية في حضارة الموجة الثالثة "الموجة الأولى الزراعية والموجة الثانية الصناعية" هي المعرفة.. "وتشمل المعرفة هنا المعادلات العلمية والمعلومات التقنية إضافة إلى الثقافة والقيم وهو يرى أن المعرفة سوف تتحكم بإنتاج الثروة من خلال تقليلها من أكلاف العمل والمواد الأولية والمستلزمات المكانية والمالية للإنتاج..
ومن سمات نمط الإنتاج هذا تجزؤ عملية الإنتاج وتنوع المنتجات وتعقد مستويات التكامل والإدارة.. وحيث إن اقتصاد الموجة الثالثة لم يزل في طور تجلياته الأولية فإنه سيواجه تعارضات وتوترات محلية ودولية قبل أن يسود كونياً وهذا يعني ضرورة تجاوز عقبات عدة هي من بقايا الموجة الثانية كالحواجز القومية ومخاطر التلوث البيئي والهجرة إلى الشمال وتزايد النمو السكاني.. وأخيرا وليس آخرا جاء صموئيل هنتنغتون بمقولة صدام الحضارات والذي يرى فيها أن صدام الحضارات هو عنوان المرحلة العالمية القادمة وهي الصراعات التي ستملأ فراغ ما بعد الحرب الباردة..
ويحدد هنتنغتون مقولته أو رؤيته بالآتي: إن النظام الدولي السابق كان يقوم على صراع بين ثلاث قوى رئيسة: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي والعالم الثالث.. أما النظام الدولي الجديد "نظام ما بعد الحرب الباردة" فيقوم على صراع بين ثماني حضارات.. وهذه الحضارات هي: الحضارة الغربية والكونفوشيوسية والهندوكية واليابانية والأمريكية اللاتينية والأرثوذكسية السلافية والحضارة الإسلامية..
وهو يرى أن الانتماء إلى حضارة ما يتعدى الفوارق الأثنية والحدود الوطنية.. وإن الحضارات الثماني الكبرى تختزن الصراع المستقبلي.. وبالتالي فإن العنوان الأساسي الذي سيتحكم في الكثير من صراعات الغد هو صدام الحضارات وعلى ضوء تباين الحضارات ستتحدد خريطة العالم في الفترة المقبلة..
ولا شك أن هذه المقولة تخفي الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم.. إذ يكشف لنا هذا الواقع عن أن الكثير من ظواهر الصراع والصدام لا ترجع بالدرجة الأولى إلى الاختلاف في الانتماء الديني والحضاري.. وإنما هي ظواهر تكونت من جراء العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. وإلا كيف نفسر الصراع المفتوح الموجود في الصومال وأفغانستان مثل؟! حيث إنها صراعات لا تجري على قاعدة الاختلاف في الانتماء الديني أو الحضاري، وإنما هي تجري على خلفية سياسية اجتماعية اقتصادية.. كما أن حرب الانفصال التي جرت في السبعينيات الميلادية بين باكستان وبنغلادش، لم تكن حربا بين مجتمعين تتناقض مرجعيتهما الدينية والحضارية، بل هما ينتميان إلى دائرة دينية وحضارية واحدة..
وهذا يؤكد لنا أن الكثير من الصراعات التي تجري في العالم تجري على قاعدة سياسية اقتصادية وليس على قاعدة الصدام الحضاري..
ولهذا نستطيع القول إن هنتنغتون حينما بلور رؤيته حول صدام الحضارات.. لم يكن بعيدا عن المصلحة السياسية والإستراتيجية للحضارة الغربية.. وإنما هو قام بجهد فكري يصب في إطار الحفاظ على سيطرة الغرب على العالم.. لهذا نراه يحذر من قيام متحد كونفوشيوسي-إسلامي ينطلق من منطقة زينجيانغ في الصين ويمتد إلى الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى.. ويبرر هنتنغتون مخاوفه هذه أن العداء للغرب يجمع بين الإسلام والكونفوشيوسية الأمر الذي يشكل تحديا خطرا للحضارة الغربية ولقيمها الإنسانية..
وإن دعوة هنتنغتون إلى تفسير الصراعات والأحداث التي تجري في العالم على قاعدة الاختلاف الديني والحضاري تحقق مجموعة من الفوائد إلى الغرب الحضاري أهمها:
1- تدفع الدول والقوى الغربية إلى تطويد تحالفاتهما وتنظيم علاقاتهما ومصالحهما لمواجهة العدو المشترك والذي يهدد حسب هذا المنظور المصالح الإستراتيجية للغرب..
2- إن هذا المنظور يدفع باتجاه صناعة رأي عام غربي يرفض التعايش مع الحضارات والأمم الأخرى.. وهذا بالتالي يؤدي إلى اتخاذ مواقف مجتمعية غربية من المهاجرين من الشعوب والأمم الأخرى، الذين يعيشون في الغرب..
3- إن الحضارة الحديثة ومع التطور العلمي الهائل الذي صنعته حيث سيطرت التكنولوجيا والتقنية الحديثة على الكثير من مجالات الحياة.. فهي تواجه خطر الغياب التدريجي لمسألة الهوية والذات الحضارية، لصالح الآلة الحديثة.. وهذه النظرية وضمن تداعياتها المجتمعية تحاول أن تبلور عدواً ذا هوية تاريخية وحضارية واضحة.. من أجل أن ينهض الغرب بقواه المختلفة إلى إزالة الركام التاريخي عن الهوية الحقيقية للغرب..
فالمقالة دعوة صريحة إلى إحياء الهوية الغربية من جديد أمام خطر الهويات والشعوب الأخرى التي بدأت بالتعايش والتفاعل مع الحضارة الحديثة..
لهذا فإن من الصعب الاقتناع بأن الحروب الساخنة التي تستعر في ما يزيد على "30" بلداً ومنطقة.. بأن أسبابها ترجع إلى مقولة صدام الحضارات كما أن ازدياد موجة المهاجرين من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية وتدفق أبناء الريف إلى المدن الأمر الذي يشكل ظاهرة سماها صندوق الأمم المتحدة للسكان "الأزمة الراهنة للجنس البشري" يصعب القول إن هذه الظاهرة جاءت نتيجة للنزاع بين حضارات مختلفة على حد تعبير الصيني المنشق " ليوبينيان "..
ويشير إلى حقيقة أن الكثير من صراعات اليوم ترجع بجذورها إلى العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية الدكتور فؤاد عجمي " جامعة جون هوبكينز: بقوله: إن هنتنغتون يرى أن الدول ستحارب من أجل الروابط والولاءات الحضارية في حين أنها تتدافع بالمناكب من أجل حصصها في السوق.. وتتعلم كيف تتنافس في اقتصاد عالمي لا يعرف الرحمة، وكيف توفر الوظائف وتتخلص من الفقر..
لهذا كله نستطيع القول إن الرؤية التي طرحها هنتنغتون في المقال الذي نشرته مجلة " فورين أفيرز " صيف عام "1993م " يسعى من خلالها إلى تأطير جميع القوى الغربية من أجل الاتفاق على العدو القادم.. إذ إن الغرب كنمط عقلي وحضاري لايمكنه العيش دون عدو.. ولقد أبانت العديد من الأحداث والتطورات خلال العقد المنصرم ,على أن الغرب بكل مؤسساته قد حدد عدوه وعمل على خلق فوضى خلاقة ,من اجل إعادة صياغة المنطقة وفق رؤيته ومصالحه، ولكن إرادة شعوب المنطقة حالت دون ذلك..
الثقافة والصراع الحضاري
لعل من الطبيعي القول ان الخلفية الدينية والحضارية، لها التأثير العميق، في عمليات الحراك الاجتماعي بجانبيها السلبي والإيجابي..
ولكن إرجاع كل الظواهر الصراعية إلى العامل الحضاري، يعد تحليلا تعسفيا بحق التاريخ وأحداث الراهن.. إذ أن العامل الحضاري يؤثر بعمق في رؤية المجتمع إلى قيمه ومصالحه الآنية والبعيدة.. ولكن هذه الرؤية والمصالح لا تتشكل فقط من العامل الحضاري، بل يشترك مع هذا العامل الكثير من العوامل السياسية والاقتصادية والمجتمعية.. فالعديد من الصراعات المعاصرة، ترجع أسبابها إلى تلك العوامل.. دون أن يعني هذا إغفالا لدور العامل الحضاري في تشكيل الوقائع..
وبطبيعة الحال وباعتبار أن الحضارات كيانات ثقافية، وتتحدد هذه الكيانات بالعناصر الموضوعية المشتركة مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسسات، وبالتحديد الذاتي، الذي يقوم به الشعب لنفسه.. ولكن تمايز الحضارات الديني واللغوي والتاريخي والثقافي، لا يؤدي إلى الصدام والصراع.. وإنما الذي يؤدي إلى الصدام والصراع هو المصالح السياسية والاقتصادية والإستراتيجية العليا، التي تقوم بتوظيف هذه التمايزات في اتجاهين أساسين:
اتجاه لتبرير الصدام والصراع الذي ستقوم به تلك النخبة، صاحبة المصلحة السياسية والاقتصادية، تجاه المجتمعات والشعوب الأخرى، من أجل أن تضمن هذه النخبة، تعبئة نشطة وفعالة، وتحت عناوين ومسميات تؤثر في المخيال الغربي..
واتجاه تغطية الأطماع التوسعية والاستعمارية، برداء التمايز الحضاري، الذي يدفع إلى ضرورة الغلبة الحضارية لأحد الأطراف.. وبما أن الحضارة الغربية اليوم، هي التي تمتلك أسباب القوة والمنعة، فتكون هذه المقولة، بمثابة المبرر النظري – التاريخي، لنمط الهيمنة والغطرسة، التي تباشره قوى الحضارة الغربية اليوم تجاه الشعوب والأمم الأخرى..
وإننا نرى أن الحضارات تتمايز في مرجعياتها العقدية والفكرية والتاريخية، ولكن هذا التمايز لا يؤدي في حدوده الطبيعية إلى الصدام.. وإنما نحن نرى هذا التمايز سبيلا إلى الاقتناع التام بضرورة التعدد الحضاري في الكيان الإنساني العام..
ولعل في توجه العوالم اللاغربية في تشكيل العالم بطرائق غير غربية، ليس حافزا ودليلا للصدام الحضاري.. وإنما هي ظاهرة جد طبيعية لمقولة التمايز الحضاري في العناصر الموضوعية الأساسية.. فلا شك أن تمايز آراء الحضارات في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الله والإنسان، والمواطن والدولة، والآباء والأبناء، والزوج وزوجته.. كل هذه التمايزات تدفع كل كيان حضاري، إلى أن يشكل واقعه وفق تلك الطرائق السائدة لديه..
وليس من المعقول أن نعترف بهذا التمايز، ومن ثم نرى في عودة المجتمعات الأخرى إلى جذورها الحضارية دليلا على أن الصدام بين الحضارات هو النمط المقبل للنزاع في العالم..
ولعل في مطالبة "هنتغتون" الأمم الأخرى بتشكيل نمط حياتها وحضارتها وفق النمط الغربي.. مؤشر صريح على عقلية التمركز الغربي التي لا ترى في الوجود الحضاري " التاريخي والمعاصر " إلا الغرب وحضارته.. وبون شاسع كما يبدو بين عقلية التمركز الغربي وتداعياتها الإستراتيجية والحضارية، وبين مقولة أن التمايز الحضاري الموجود في العالم سيؤدي لا محالة إلى الصدام الحضاري.. فالحضارات الإنسانية بإمكانها أن تتعايش وتتفاعل مع بعضها البعض، لو تخلى الغرب اليوم عن نمط الاقتصاد والنفي لكل الحضارات الأخرى.. وإن الوعي بالحضارة لو أحسنا توظيفه، وتعاملنا معه بروح وعقلية متفاعلة.. فإنه "الوعي بالحضارة" سيسهم بشكل جمعي في تطوير الإنسان فردا وجماعة..
وإن ( هذا التعدد يبقى أشكالا من التماثلات والرؤى والتحليلات الذهنية التي لا علاقة لها بصدام أو صراع فيما بينها.. انها تعبير – وفي الحالات التي تعرض لها – عن سياقات في تحول العقليات الغربية ومن داخل معايشة أزمة الحضارة الغربية نفسها.. أما أهل هذه الثقافة أو تلك، فلا يصادمون بعضهم بعضا بسبب اختلاف ثقافتهم وحضارتهم وتصورهم للحياة والكون.. وليس صحيحا أن ثقافة أو حضارة ما تحمل في داخلها عنفا أو عدوانية كثقافة أو حضارة لجماعة من البشر، اللهم إلا إذا تلبست هذه الحضارة أو هذه الثقافة دولا وإمبراطوريات وسياسات توسعية أو أنها شكلت، في المقابل، إطار حماية وممانعة في وجه سيطرة استتباع أو اقتلاع أو إفقار وتجويع أو اضطراب اجتماعي (راجع صدام حضارات، أم إدارة أزمات – الدكتور وجيه كوثراني)..
لهذا فإننا نرى أن الخيار البديل إلى صدام الحضارات، هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها البعض، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة..
وحين نقرأ تاريخ التطور التاريخي للحضارة المعاصرة نكتشف أن هذه الحضارة بمكوناتها المتعددة، هي من صنع البشرية جمعاء.. بحيث ان عملية التراكم على مستوى الحضارات، هي التي أوصلت البشرية إلى هذا المستوى العلمي والحضاري المعاصر..
فالحضارة الحديثة ليست من صنع الغرب وحده.. بل هي من صنع جميع الأمم والحضارات، أوليست الحضارة تواصلا إنسانيا من جيل لآخر.. لذلك فليس من المعقول أن يكون القدر المحتوم هو الصدام والصراع.. وإن الموقف المنطقي الذي ينبغي أن يسود العلاقة بين الحضارات، هو موقف التفاعل.. لأن الشراكة الحضارية تقتضي اتخاذ هذا الموقف لا موقف الصدام والصراع..
ونحن حينما نرى أن الخيار الإستراتيجي الذي ينبغي، أن يحكم علاقات الكيانات الحضارية، هو خيار التفاعل.. لا نلغي بذلك جدلية الصراع والمدافعة الاجتماعية والحضارية.. وإنما نحن نؤكد على هذه الجدلية من خلال مقولة التفاعل، لأن التفاعل بين الحضارات، لا يعني الجمود والتكلس والرتابة والأفق الواحد في العلاقات.. وإنما هو يعني المزيد من التنافس وإثبات الجدارة الذاتية لكل كيان ومدرسة حضارية..
ولكنه إثبات في سبيل البناء والتطوير..
فالتفاعل عملية صراعية، ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن.. عكس مقولة صدام الحضارات، التي هي مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفي الآخر والسيطرة على مقدراته وثرواته، تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم القادمة سيتحكم فيها العامل الحضاري..
ولا بد في هذا الإطار من إدراك حقيقة أساسية، وهي أنه لا يوجد كيان حضاري يمثل الخير المطلق أو الشر المطلق.. وإنما هي كيانات إنسانية تتضمن الخير وتنشده، كما أنها تمارس الشر بقصد أو بدون قصد..
والتفاعل بين الحضارات وحده هو الذي يجعل الإنسانية جمعاء، تستفيد من محاسن الحضارات ومنجزاتها الصالحة.