الخطابات الثقافية المعاصرة وضرورة تجديد الرؤية إلى العالم

زكي الميلاد

2025-10-21 04:21

تتنازع الخطاب الثقافي الإسلامي المعاصر اتجاهات وتيارات في حركة من الصعود والهبوط، التقدم والتراجع، وتتعدد فيه الأفكار والاجتهادات، والطرائق والمنهجيات، وتتنوع فيه البيئات الاجتماعية والثقافية، لذلك من الخطأ النظر لهذا الخطاب الثقافي الإسلامي بوصفه خطاباً واحداً متحداً، أو بوصفه تركيباً كلياً يتصف بالتماهي والاتحاد، فنحن أمام خطابات ثقافية متنوعة ومتعددة، وليس أمام خطاب واحد متحد.

نقول هذا الكلام حتى لا نقع في إشكالية التعميم والإطلاق والنظرة الأحادية، وهي الإشكالية التي يقع فيها بعض الدارسين والباحثين من داخل الخطاب الثقافي الإسلامي ومن خارجه أيضاً، ولعل من السهل الوقوع في مثل هذه الإشكالية التي غالباً ما تعبر عن ضعف أو نقص في الخبرة، وفي الفحص العلمي والموضوعي، كما أن المعرفة المتكوًنة من هذه الطريقة في النظر لا تكتسب صفة الاختصاص والموثوقية العلمية والمنهجية.

وقد تعددت المفاهيم الإجرائية التي حاولت توصيف هذه الخطابات الثقافية وتصنيفها وتقسيمها إلى ثنائيات في الغالب، تكون على درجة من التقابل أو التعارض أو التصادم، كثنائية التراث والمعاصرة، أو ثنائية التقليد والتجديد، أو اليمين واليسار، أو المحافظة والإصلاح، أو التشدد والاعتدال إلى غير ذلك من ثنائيات تبسيطية واستغراقية، جدلية وسجالية، كلية وتعميمية.

 لكن القدر المشترك في تصميم هذه الخطابات الثقافية أنها مازالت بحاجة إلى تطوير رؤيتها للعالم، والانخراط في حركته، والتواصل مع معارفه وعلومه، وذلك بعد أن تكرست في هذه الخطابات الثقافية الإسلامية المعاصرة نزعة شديدة تدفع نحو الانقطاع عن العالم، والانكماش على الذات، والدوران في إطار المحيط الخاص، وهذه النزعة جاءت نتيجة طبيعة السياقات التاريخية في القرون الثلاثة الأخيرة، وبسبب طبيعة التحولات التي حصلت في مرحلة ما بعد تكوًن الدولة القطرية الحديثة.

ففي ظل هذه السياقات تحددت بعض المفاهيم والمقولات التي تبعث على الخوف والحذر والقطيعة في العلاقة بالعالم، كمفهوم الجاهلية والجاهلية الحديثة في توصيف العالم، أو النظر للعالم من خلال مقولة دار الكفر ودار الإسلام، أو التعامل مع العالم من خلال مقولات الغزو الفكري أو الزحف الغربي أو الهجمة الحضارية أو غيرها، ومن طبيعة هذه المقولات في ظروف الضعف والتراجع والتخلف فإنها غالباً ما تكرس الانغلاق والانكماش والانكفاء، وهي الوضعيات التي لا يمكن لها أن تبعث على النهوض والتطور والتقدم.

ووجه الإشكالية في الانقطاع عن العالم، هو الانقطاع عن معارفه وعلومه وتجاربه وخبراته، والتي لا يمكن إنجاز التقدم بدونها، فليس هناك تقدم بدون علم، وليس هناك تقدم بدون معرفة، وليس هناك تقدم من الاستفادة من تجارب وخبرات العالم.

والحديث عن الرؤية للعالم والعلاقة به، يدفعنا إلى الحديث عن العولمة واتجاهات النظر لها في الخطابات الثقافية الإسلامية المعاصرة، وكيف تنظر هذه الخطابات إلى العولمة في سياق تكوين رؤية للعالم.

وفي هذا النطاق يمكن القول أن العولمة فرضت حضور العالم علينا، برغبتنا أو بدون رغبتنا، فالعالم اقتحم علينا حياتنا حتى لو أغلقنا الأبواب في وجهه، فلا مجال من الهروب أو الاعتزال بعد أن تضيقت المسافات، وتغلب الزمان على المكان، وتفوق العلم على الجغرافيا فلم تعد البحار والمحيطات والجبال والغابات من الحواجز أو الموانع الطبيعية المؤثرة، وبالتالي فإن العالم الذي كان بإرادتنا أن ننقطع عنه سابقاً، هو اليوم يفرض علينا الانخراط في حركته. الأمر الذي يتطلب تكوين رؤية جديدة للعالم ترتكز على قاعدة التفاعل وليس الانفصال، التواصل وليس القطيعة، التفاعل الذي يكون بحسب إرادتنا، والتواصل الذي يكون بحسب رؤيتنا.

 فنحن بحاجة إلى العالم، وبحاجة أيضاً لتكوين رؤيتنا لهذه الحاجة إلى العالم، لأن مستقبلنا لن يكون خارج العالم على الإطلاق.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

ذات صلة

زخم الدعاية الانتخابية: مؤشر صامت على اختلال العدالة وملامح الفسادالحق في الدواءالسؤال القرآنيّ بوصفه أداةً للتربية والإصلاحتسخير الذكاء الاصطناعي بدون تقويض الديمقراطيةالبنتاغون تقيّد حرّية الصحافة: تصعيد ومواجهة