العراق: سجن ستانفورد بحجم وطن
أنور مؤيد الجبوري
2025-09-30 01:36
في قبوٍ مظلم بجامعة ستانفورد عام 1971، أجرى عالم النفس فيليب زيمباردو تجربةً غيّرت فهم العالم للسلطة. طلاب جامعيون تحوّلوا في أيام معدودة إلى حراس قساة وسجناء خانعين، لمجرد أن تجربةً منحتهم قوة بلا ضابط. ما بدا آنذاك مجرّد اختبار أكاديمي تحوّل إلى درسٍ دائم: السلطة، حين تنفلت من القيود، تُعيد تشكيل الضمير الإنساني وتجرّد الإنسان من أخلاقه.
اليوم، يبدو العراق بعد 2003 وكأنه المختبر الأكبر لتلك التجربة. فبمجرد سقوط الدولة المركزية تشكّلت طبقة سياسية تتقاسم المناصب والثروات تحت شعار المحاصصة، فتوزّعت الوزارات مثل حصص الحُرّاس في ستانفورد، وتحوّلت الدولة إلى شبكة ولاءات مغلقة. هنا استُبدل قبو الجامعة بوطنٍ كامل، واستُبدلت القبعات الرمزية بالسلطة الفعلية على موارد دولة نفطية.
القانون لم يكن غائبًا على الورق. فالدستور العراقي لعام 2005 نصّ بوضوح على أن «الشعب مصدر السلطات» (المادة 5)، وأكّد في المادة 38 على حرية التعبير والصحافة والاجتماع. لكن النصوص تحوّلت إلى ديكور، لأن الأحزاب الحاكمة صادرت أدوات التطبيق. فالهيئات الرقابية مثل هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية خضعت بدورها إلى المحاصصة، وأُفرغت القوانين من محتواها. النتيجة: دستور يحمي الحريات نظريًا، وسلطة قادرة عمليًا على تكميم الأفواه، في مفارقة تُذكّر بأن تجربة ستانفورد لم تُفشلها القوانين بل غياب الرقيب.
الأحزاب السياسية، التي يفترض أن تعبّر عن التعددية، صارت بمثابة الحُرّاس الدائمين. يتناوبون الأدوار في الانتخابات لكنهم يتفقون على حماية قواعد اللعبة نفسها: التمسك بالمناصب واحتكار الموارد. وهكذا تحوّلت مؤسسات الدولة إلى امتداد للمكاتب الحزبية، وأصبح الولاء السياسي شرطًا للتعيين والترقية، فيما تُستخدم أجهزة الأمن، أحيانًا، كأداة ردع ضد الاحتجاج الشعبي.
هذا ما واجهه جيل ما بعد 2003، الجيل الذي يشكّل أكثر من 60% من السكان. شباب لم يعرفوا الخوف من استبداد الأمس، لكنهم اصطدموا بسلطة جديدة تمارس القمع بأساليب قديمة وحديثة معًا: رصاص حي وقنابل غاز في ساحات تشرين 2019، إلى جانب قطع الإنترنت والمراقبة الرقمية. تقارير منظمة العفو الدولية وثّقت استخدام القوة المفرطة واعتقال ناشطين، في مشهد يعيد للأذهان كيف استسلم سجناء ستانفورد تحت أعين الحراس.
القضية أبعد من مجرد فساد مالي – رغم أن النزيف الاقتصادي بلغ، وفق تقديرات رسمية، ما بين 150 و600 مليار دولار منذ 2003 – بل هي أزمة في علم نفس السلطة. فالنخب الحاكمة تعيش ما يسميه خبراء السياسة عقدة الحصار: خوف مستمر من الداخل والخارج، يدفعها لتشديد القبضة أكثر كلما اهتزّ الشارع. وفي المقابل، يطوّر المجتمع مناعة الأزمات؛ قدرة على الصمود، لكنها تتحوّل إلى طاقة احتجاجية متكررة.
إن استحضار تجربة ستانفورد ليس استعارة أدبية فحسب، بل مفتاح لفهم أزمة العراق الدستورية والسياسية. فكما اضطر زيمباردو إلى إنهاء التجربة مبكرًا بعدما فقد السيطرة، يواجه العراق سؤالًا مشابهًا: هل يكفي نصّ دستوري لإعادة الضمير إلى السلطة، أم أن الأمر يتطلّب كسر القفل الذي أغلقه الحُرّاس على الدولة والمجتمع؟
العراق يقف اليوم عند منعطف حاسم. بين سلطة تتغذى على الخوف وتخشى التغيير، وجيل رقمي يرى العالم بلا حدود طائفية أو حزبية، يصبح المستقبل مرهونًا بقدرة هذا الجيل على تحويل غضبه إلى مشروع دولة. فإذا كان سجن ستانفورد انتهى بقرار من الباحث، فإن التجربة العراقية لن تنتهي إلا حين يقرر المجتمع كسر الباب بنفسه، لا حين يتكرّم الحُرّاس بفتحه.